د. شريف الجيار
اللوحة: الفنانة اللبنانية رندا رحايل دو شدرفيان
ظلت نصوص ألف ليلة وليلة، فى طور الشفاهية، عصورًا طويلة، قبل أن تنتقل إلى الكتابية والتواتر النصي؛ حيث بلورها الحس الشعبي عبر مجموعة من الرواة المجهولين، الذين حوروا وغيروا وحذفوا وأضافوا، إلى هذا الخطاب الشفاهي؛ كى يسلوا العامة شفاهة، وفقا لطبيعة العصر، وظروف المجتمع الحضارية، حتى انتقل إلى طور الكتابية فى طبعات اختلفت محتوياتها، وتنوعت بتنوع مصادرها، حتى تبلورت فى أهم طبعة لهذا الكتاب(1)؛ طبعة بولاق فى مصر عام 1835م.
وتعود جذور حكايات “ألف ليلة وليلة” – على الأرجح وكما تعاقبت الروايات – إلى أصول فارسية وهندية، ثم لحق بها بعد ذلك حكايات عربية بغدادية ومصرية. ويتفق “ابن النديم” ( 438/ 1047م ) فى كتابه “الفهرست”، مع المؤرخ السابق له “أبو الحسن المسعودي” (ت 346/957م) فى كتابه “مروج الذهب”، على أن أصول الحكايات الشهرزادية، تعود إلى كتاب “هزار أفسانة” الفارسى؛ ويعنى “ألف خرافة”؛ وقد ترجم إلى العربية بعنوان “ألف ليلة”؛ غير أن بعض الدارسين قد اختلفوا فى الأصل الفارسى لبعض هذه القصص، وأرجعوه إلى أصل هندي؛ كقصة شهرزاد الإطارية ؛ التى بنيت عليها ألف ليلة وليلة، ثم أضيف إلى هذه الأصول الفارسية الهندية حكايات عربية ؛ ما بين بغدادية ومصرية وغيرهما.
ويحسب للمستشرق الفرنسى”أنطوان جالان” Antoine Galland (1646- 1715م)، الانطلاقة الأولى لرحلة “ألف ليلة وليلة”، خارج الشرق الأوسط(2)؛ حيث ترجم ثلث الحكايات المخطوطة التى جلبها من الشرق، إلى اللغة الفرنسية(3)؛ بين عامى 1704، و 1713م؛ وقد حققت هذه الترجمة شهرة واسعة، بعد أن صاغها “جالان” وفق المعيار الثقافى الأوروبى، فى القرن الثامن عشر، فى ظل مناخ ثقافى غربى، يبحث عن المغايرة الثقافية، ويجابه الكلاسيكية، مفسحًا المجال للرومانتيكية، التى وجدها فى النص الشهرزادي، فى وقت كانت المرأة تحتل فيه مكانة كبيرة، فى الحياة الثقافية الأوروبية بشكل عام، حتى أن أنطوان جالان أهدى ترجمته للمركيزة “أوه” إحدى رفيقات دوقة بورجونيا(4)، وهو ما أسهم فى انتشار ألف ليلة وليلة، فى ثوبها الرومانسي ذي الشكل الحكائي الشرقي، المليء بالغريب و المجهول؛ الذى دفع الغرب إلى معرفة تلك البلاد النائية، بفنها وبثرواتها الطبيعية.
ويحسب للغرب – أيضًا- أنه التفت إلى أهمية “ألف ليلة وليلة”؛ على الصعيد العلمى والإبداعى، قبل موطنها الأصلى. لا سيما بعد أن ترجمت إلى مختلف لغات العالم، وقد لخص “أندريه جيد” الموقف الأوروبى تجاه الليالى العربية، فى قوله: “أمهات الكتب العالمية ثلاثة؛ الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد)؛ وأشعار هوميروس(الإلياذة والأوديسة)؛ وكتاب ألف ليلة وليلة”(5). و من ثم انتقل الغرب بالنص الشهرزادى من اللانصية إلى النص؛ بجمعه وترجمته وبحثه، فى حين ظل النص مهملا فى الدوائر الأدبية العربية، إلى بدايات القرن العشرين، إلى أن بدأ الاهتمام النقدى العلمى، على يد”سهير القلماوى” فى أطروحتها للدكتوراه “ألف ليلة وليلة”، بالجامعة المصرية عام 1939م، تحت إشراف “طه حسين”(6)؛ وهو ما فتح الباب على مصراعيه نقديا وإبداعيا، صوب النص الشهرزادى، الذى أثبت أنه نص قادر على البقاء والصمود، حيال هذا الانفتاح التأويلى؛ النقدى والإبداعى.
لذا يتناول هذا الفصل “أثر ألف ليلة وليلة فى السرد المصرى المعاصر”؛ محاولًا رصد الكيفية التى استلهم بها الكتاب المصريون النص الشهرزادى، من خلال التطبيق على رواية “ليالى ألف ليلة” لنجيب محفوظ، مستعينًا فى ذلك، بالمنهج النصى التحليلى؛ الذى يتخذ من بنية النص ركيزة محورية؛ لرصد التفاعل النصى بين المعاصر والتراثى، وكيفية توظيف هذا التراثى، ودلالاته داخل النص المعاصر.
نجيب محفوظ واستلهام «ألف ليلة وليلة»
استطاع الكاتب المصري « نجيب محفوظ» (ديسمبر 1911م – أغسطس 2006م)، أن يدشن مشروعًا إبداعيًا متنوعًا؛ ما بين الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والسيناريو، فضلاً عن مقالاته المختلفة منذ الثلاثينيات؛ حيث أنجز أكثر من خمسين عملاً إبداعيًا، خلال رحلة منجزه الإبداعي، التى زادت على نصف قرن من الزمان، والتى أثمرت حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 1988م.
إن القارئ لأدب «محفوظ»؛ لا سيما الروائي منه، يلحظ أنه حيال مبدع فيلسوف متصوف، يمتلك منظارًا مدققًا يرصد الوجود من حوله، باحثًا عن أسراره، كي تتكشف عوالم المصير الإنساني، وتحاول أن تستشرف مستقبله، من خلال رصد واقعه وقراءته، قراءة فلسفية تمزج بين الرؤية الوجودية، والصوفية الروحية، التى تصل بهذا الإنسان إلى اليقين أو الخلاص الصوفي؛ في ظل مجتمع/عالم يعاني من العبثية الاجتماعية والسياسية؛ لذا فنجيب محفوظ- الذي تخرج في قسم الفلسفة، بكلية الآداب، الجامعة المصرية عام 1934- مهموم بالتعبير عن المسكوت عنه، في واقعه المعيش، الذي يعاني من خلل اجتماعي سياسي، نتج عنه افتقار إلى العدل والحرية، منذ فترات تاريخية طويلة؛ كما يتجلى في قول«محفوظ»: «… الحياة من حولنا تبدو قاسية، حياتنا الشخصية في واقعنا المحلي، تبدو أحيانًا عبثية، بالضبط.. عبث اجتماعي.. إننا نعيش حتى الآن احباطات داخلية مستمرة منذ أن وعينا، مجرد أن نتنفس نجد من يجثم على أنفاسنا ليكتمها ويفسد حياتنا…»(7) ؛ وهذا ما دفعه إلى مقاومة هذا العبث، وإخضاعه من خلال محاولة عقلنته وتفسيره، بهذه الرؤية الوجودية الصوفية، عبر خطاب سردي يتسم بالواقعية الاجتماعية؛ وقد تجسد هذا في إنتاجه الروائي قبل ثورة يوليو 1952م، وبعدها، مثل: «القاهرة الجديدة/1945م، خان الخليلي/1946م، زقاق المدق 1947م، بداية ونهاية 1949م، بين القصرين 1956م، قصـر الشوق 1957م، السكرية 1957م، اللص والكلاب 1961م….» وغيرها.
وأصر «محفوظ» في معظم إبداعه، على هذا المنهج الواقعي الاجتماعي، في فترة زمنية تجاوز فيها الأدب العالمي التعرض للواقع، و«… انكفأ إلى الداخل، إلى تيارات الوعي، واللاوعي، وما وراء الواقع، لكن بالنسبة لي وللواقع الذي أعبر عنه لم يكن قد عولج معالجة واقعية بعد حتى أقدم على استخدام الأساليب الأدبية الحديثة التى كنت أقرأ عنها وقتئذ…..»(8)، والتي استعان بها بعد ذلك، في تقنيات السَّرد للعديد من أعماله الروائية؛ لاسيما اللص والكلاب، وغيرها.
ولم يكن هذا الصمود للنص المحفوظي، لولا انفتاحه على التراث بدوائره المتداخلة (المحلية والعالمية)، وقدرته على استيعاب هذا التراث الإبداعي والديني بأشكاله المختلفة، وروافده المتعددة، وتفاعله معها، واستلهامه لها، والتناص معها؛ مثلما استلهم التاريخ الفرعوني في رواياته: «عبث الأقدار 1939م، ورادوبيس 1943م، وكفاح طيبة 1944م»؛ كما تناص مع الحكاية الشعبية «ألف ليلة وليلة» في روايته – محل الدراسة – «ليالي ألف ليلة»/1979م، المطبوعة عام 1982م، وفي غيرها من الروايات؛ مثل: «أولاد حارتنا، حكايات حارتنا، ملحمة الحرافيش، رحلة ابن فطومة» إلى جانب مسـرحيته «الشيطان يعظ»؛ التى استلهمها من حكاية «مدينة النحاس» في نص «ألف ليلة وليلة»، وهي ضمن مجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه/1979م.
وقد شارك «نجيب محفوظ» في استلهامه للتراث، ولا سيما «ألف ليلة وليلة»، العديد من المبدعين؛ أمثال: طه حسين في «أحلام شهرزاد»، و«توفيق الحكيم» في «شهرزاد»، و«القصر المسحور» لهما معًا، وعلى أحمد باكثير في «سر شهرزاد»، وألفريد فرج في «على جناح التبريزي وتابعه قفه»، وجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف في«عالم بلا خرائط»، وعبد الرحمن جبير فى شهرزاد ملكة، وبدر الديب في «حكاية تودد»، و«إعادة حكاية حاسب كريم الدين وملك الحيات»، وليانة بدر في «عين المرآة»، وحسام فخر في روايته «حواديت الآخر» … وغيرها.
على أن هذا الاستلهام التراثي لمحفوظ وغيره، قد أسهم – بشكل أو بآخر- في تأصيل الخطاب الروائي العربي، وتجذر رؤية الحضارة الشـرقية، في المحيط الثقافي للحضارة العالمية. إلى جانب أن هذا الحوار التفاعلي بين المعاصر والتراثي، قد أسهم بشكل إبداعي فاعل في رصد قضايا الواقع المعيش، أملاً في تغيير المسلَّمات الاجتماعية والسياسية، التى تعاني منها الشعوب، مثلما تجسد في النص – محل الدراسة- «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ، التى تواصل فيها الكاتب مع نص «ألف ليلة وليلة» «… وجدت في (ألف ليلة) أشياء ودوافع تدعوني للكتابة عنها؛ ومن ثم كانت روايتي (ليالي ألف ليلة)» (9).
في الحلقة التالية من هذه الدراسة نتوقف عند التواصل النصي بين النص التراثي وبين نص نجيب محفوظ، وكيف انفتح النص الجديد على عوالم وقضايا اجتماعية وسياسية ومعرفية، غريبة عن قضايا حكايات «ألف ليلة وليلة»؛ وهو ما تجسد في الخطاب السردي لليالي المحفوظية، في هيئة عبث سياسي، يكشف أوضاع الحكم الاستبدادي، وحدود العقل ودور الدين في تحقيق الخلاص الصوفي الروحي، لتحقيق العدل الاجتماعي.
الهوامش
([1]) انظر سهير القلماوى- ألف ليلة وليلة- مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر- 1943م- ص 2.
(2) لمزيد من التفصيل ؛ راجع: – Robert Irwin, The Arabian Nights: A Companion- Allen Lane- the Penguin press- first published 1994- New York- USA- pp.42-43.C.Knipp,The”Arabian Nights”in England:Galland’s translation and Its successors-Journal of Arabic Literature, vol.5(1974), p.48. Harmut Fahndrich, Viewing”The Orient”and Translation Its literature in the shadow of the Arabian Nights-Yearbook of Comparative and General literature- 48, 2000, Indiana University, Bloomington, Indiana,p.98.
(3) انظر هيام أبو الحسين- شهرزاد وتطور الرواية الفرنسية من الكلاسيكية إلى الرمزية- فصول- الهيئة المصرية العامة للكتاب- مصر- مجلد 13- عدد 2- صيف 1994م- ص 268.
(4) انظر نفسه- ص 268.
(5) انظر نفسه- صص 275- 276.
(6) Ibid Muhsin J. Al- Musawi, The”mansion” and The Rubish Mounds:”The Thousand and one Nights in popular Arabic tradition- Journal of Arabic literature, vol.35, No.3 (2004)-pp.351-352.
(7) جمال الغيطاني – نجيب محفوظ يتذكر- دار المسيرة – بيروت – ط1- ص54
(8) نفسه – ص42.
(9) نجيب محفوظ- «ألف ليلة» أحاطت بالحضارة الشرقية – حوار أجراه معه: حسين حمودة- فصول-الهيئة المصرية العامة للكتاب – مجلد B، – عدد 2 – صيف1994م – ص 378.