حنان الأغا
اللوحة: من أعمال الكاتبة
رفع رأسه الخدر، وأفرغ في الفضاء الضبابي نفخة كبيرة من الدخان حاولت أن تتشكل كرة، فتناقصت من هنا وتزايدت من هناك، ففشلت المحاولة وتبعثرت على هيئة خطوط غير منتظمة، وحلزونات مشوهة، تشبه وجوه الشياطين التي كانت جدته تحدثه هو وأخوته عنها عندما كانوا صغارا، أما ما تبقى من الدخان في فمه فقد أخذ يدفعه من بين شفتيه المطبقتين، دفعات قوية وقصيرة ومتلاحقة، يسمعها فيحس بالجذل كطفل صغير.
وكانت هذه الأدخنة تتشكل على الفور حلقات صغيرة تتسع تدريجيا إلى أن تتلاشى، فيعيد الكرة بعد أن يمج مجة قوية من نرجيلته المقعية بين ركبتيه، ثم يقهقه فجأة ويقول: أنا فالح الفهد، “خليني أسولف لك حكايتي”.. فيتململ الجالس أمامه قليلا كمن يحاول التملص أو الهروب، ولا يلبث أن يبتسم مغلوبا على أمره: سولف يا فالح.
أنا أكبر إخوتي التسعة، وكانت أمي – أم فالح – تقول إنني الأجمل والأذكى، وكنت أتخيل أشياء غريبة، أرويها لإخوتي قصصا لساعات، حتى أن أمي أم فالح، كانت تعتقد أن ذلك ضرب من الإبداع، وعندما بلغت سن التجنيد، أرسلوني فتى يافعا إلى الحدود، ووضعوني فوق دبابة في نقطة مجابهة، وقالوا لي: هذه دبابة، وهذا مدفع، وهذا مقود، وهذا ماء وهذا خبز، وذاك عدو. لا تترك موقعك، ولا تنزل عن دبابتك.
هل تصدق أنني لم أكن أعرف من أحارب ولماذا؟ كنت أعرف أنني محارب، وأعرف الحد الفاصل بين أرضنا التي أقف عليها، وأرضنا التي يقف عليها العدو. كما كنت أميز لون سياراتنا من لون سياراتهم وطبعا.. أعرف جيدا صوت قذائفهم وكيف كانوا يتفننون في إطلاقها علينا.
كانت الطلقة تخرج أحيانا طلقة، وأحيانا أخرى لعبا صغيرة ذات أشكال غريبة وألوان جميلة، تنزل حولي، تتناثر هنا وهناك، فأكاد للحظة أسَر لمنظرها، وعندها كنت أسمع الصرخات المكتومة تبدأ هنا وتنتهي هناك، وتفح في الخندق خلفي تئن وتزعق، وأحيانا أنظر، أبحث عن صرخة فلا أجد، فاللعبة الصغيرة فجرت الصوت قبل أن ينطلق مودعا هذا الجحيم.
أتاني في أحد الأيام آمر مجموعتي التي لم يبق منها سواي، وقال لي بسرعة وبلهجة نصف آمرة: فالح! انزل عن دبابتك، هيا.. سننسحب.
لم يبق منا إلا القليل.. الجثث حولنا.. الوضع صعب.
رددت بحماس: لا لا، لقد أمرت بعدم النزول عن دبابتي، لن أغادر الموقع ولن أنزل عن دبابتي، سيدي.
صرخ المزيد منا، والأكثر لم يصرخ، وأتاني رئيسي من جديد وبلهجة جديدة مهزوزة: فالح .. بني..ألا ترى ما حولك؟ هيا نهرب. بسرعة.
- نهرب؟ أعوذ بالله .
وفي المرة الثالثة وقف رئيسي أمامي شاهرا سلاحه: إن لم تنزل قتلتك، لم يبق سوانا أنا وأنت.. فنزلت، ولم نكد نبتعد بضعة أمتار حتى تفجرت دبابتي؛ فبكيت.
سرنا.. ركضنا.. ووجدت في موقع آخر دبابة قتل طاقمها، فأزحت المدفعي وجلست مكانه، وأخذت أقذف حتى نفدت ذخيرتي، فقبعت في جوف الدبابة، والقذائف تنهال من حولي .
نهض رئيسي المنبطح خلف الدبابة وأطلق طلقة قربي، طلقة أنْ ترجل؛ فترجلت. ركضنا مرة أخرى وما هي إلا لحظات حتى انفجرت الدبابة، انبطحنا وزحفنا إلى سفح منحدر قريب، ومن مكاني أبصرت عن بعد سيارة نقل مياه في وضع حرج؛ فهرولت باتجاهها وامتطيتها، وانطلقت والقذائف تزخ أمامي وخلفي، عن يميني ويساري .. ولكن.. كان لا بد من إيصال الماء لمجموعة كادت بانتظاره تموت عطشا، أفرغوه وهرولوا لمواقعهم، بينما امتطيت السيارة وعدت أدراجي لصاحبي – عفوا – رئيسي وآمر مجموعتي، التي صفّيت فوجدته مختبئا خلف بناء متهدم، لكزني برشاشه :
- سأنسف جمجمتك الآن إن لم تنزل.. بسرعة.. هيا .
نزلت مسرعا، وهرولنا إلى خندق، وما أن ألقينا بجسدينا المنهكين في أعماقه، حتى دوّى صوت انفجار؛ نسفوا صهريج الماء، سحبني رئيسي بحنان لم أعهده قائلا: لا تخف يا بني، سنصل بإذن الله، فقلت على الفور: طبعا، ولست خائفا، فنظر إلي نظرة غريبة، نظر إلى رأسي وإلى وجهي، وابتسم بحزن يشوبه بعض المكر: طبعا ..أعلم أنك لست خائفا! تابعنا الرحلة بين جري وهرولة ودحرجة، ونجونا من مخاطر كبيرة حتى وصلنا إلى مشارف قريتنا، ودعني، فركضت في طريق البيت حتى بلغته، ودخلت متسللا كي أفاجئ، أبي فوجدته ساجدا يصلي، فوقفت قريبا منه إلى أن سلّم يمنة ثم يسرة، حين وقعت عيناه عليّ، فأغمضهما وتمتم بأدعية لم أميزها، ثم فتح عينيه ثانية فرآني وقال بسم الله الرحمن الرحيم.. من أنت؟ فقلت فالح! أبي أنا فالح.
- لا.. قالها بوضوح، أو هكذا خيل إلي، ثم أغمض عينيه وانكفأ على وجهه مغشيا عليه، أخذت أنادي وأصيح أبي.. أبي، واندفعت إلى داخل البيت، فوجدت أمي متسربلة بالسواد، وقفت خلفها وحضنتها وقلت احزري من أنا. انتزعت نفسها بهلع واستدارت لتواجهني.. من أنت ؟ من؟
- أنا ابنك فالح يا حاجّة!
- لا.. فقلت بلى، وصرخت: لا لا، فالح مات! تراجعت ببطء إلى الخلف محاولة الهرب بظهرها.
- – أمي، صدقيني أنا فالح ولم أمت.. كل من كانوا معي ماتوا.. أما أنا ابنك فقد قررت العودة إليكم!
- دخل الموجودون من إخوتي وأخواتي والجميع في السواد: من هذا؟
تردد الصوت وأصداؤه.. أنا فالح، أخوك أنا يا فضة، يا سيف أنا أخوك، يا عارف.. يا.. صرخت المسكينة أم فالح لا.. لا، ابني استشهد.. نسيت أبي المكور على نفسه هناك وقلت لأمي : المسيني يا أم فالح .
اقتربت منها فاستمرت بالتراجع إلى أن سقطت على صدر والدي، الذي دخل في تلك اللحظة وهو يتمتم بالقرآن.. إنه ولدي، ولدك.
تشجعت واقتربت منها قائلا: المسي شعري يا أمي، فصرخت: لا ولدي شعره أسود
ضحكت كثيرا، وقلت في نفسي لا بد أن أمي وصلت إلى السن التي تبدأ فيها أعراض الخرف! هاهاها، والله بكرت يا أمي: أم فالح أنا أمامك، وهذا شعري أسود كما كنت دائما تحبين، فأشارت إلى خزانتها العتيقة الباقية من جهاز عرسها، وإلى ما تبقى من مرآتها أن أنظر، فنظرت وصرخت: أنا لست أنا فمن أنا؟ أخذني أبي بين ذراعيه الواهيتين، ودموعه تغسل لحيته الحمراء: بل أنت هو، طفلي .. خذيه بحضنك يا امرأة يكفيه ما لاقى من هول.
فك أهلي الحداد، وتوافد أهل الضيعة للتهنئة، حتى إقطاعي قريتنا حضر، وهذا يعني الكثير، فهو والد سليْمى حبيبة الروح.. كان مجرد النظر إلى سليْمى الجميلة يكفيني فلم أكن أحلم بأكثر من ذلك، ولكني الآن بطل القرية العائد من معركة أو من جبهة! لالا . لا تسل يا صاحبي لأني لا أعرف.. حسنا ماذا كنت أقول؟ لا تقاطعني أبدا، نعم تذكرت.. أنا البطل المكلف فالح الفهد العائد من خط المواجهة في أعلى ذلك الجبل، وقد زادني الشيب وقارا كما أسمعهم يقولون، وأضاف لعمري ضعفه أو أكثر فأصبحت لائقا بحبيبتي التي تكبرني بعشر من السنوات.
يقولون لي إن سليْمى عانس، ولم أفهم إلا أنها نجمة تتلألأ في سمائي، طلبت من أمي أن تخطبها؛ فصعقت بحجة أننا نعمل أجراء في مزارعهم، كيف؟ هل أنت بعقلك؟ ثم ابتسمت ابتسامة ذات معنى لم أتبينه.
ذهبت أمي أمام إلحاحي وهي تتعوذ بالله، وتتمتم بلا حول ولا قوة إلاّ بالله.. وخطبتها؛ فوافق أهلها فورا دون أن يطلبوا مهرا، فأنا بطل تتمنى أي فتاة أن تصبح زوجته نعم.. وعندما كان أهلها منهمكين في الإعداد للعرس، تركت سليْمى شالها المورّد ينزلق عن شعرها الأشقر وهي تقول : يكفيني أنت يا فالح، فرددت قائلا : أنا أكتفي بك مع مجموعة من الأطفال الأبطال الشجعان كأبيهم، فقالت بخجل وهي تتسلل هاربة: سأنجبهم لك.
أقيم العرس وتزوجنا !
صمت فالح وزاغت عيناه، ثم التقم خرطوم نرجيلته بين شفتيه الباهتتين.
هنا تنبه المستمع الجالس: أكمل يا فالح لقد شجعتني على المواصلة.
– هذا كل شيء.
– احك لي.. ماذا حدث؟
– لم يحدث شيء.
– كم طفلا أنجبت؟
– لا جواب
هي؟
صمت
أنت؟؟
نفخة دخان كبيرة جديدة، وأشكال لا تريد أن تتشكل.