د. شريف الجيار
اللوحة: الفنان الفرنسي إدموند دولاك
تناولنا في الحلقة الماضية من دراسة الدكتور شريف الجيار لرواية نجيب محفوظ «ليالي ألف ليلة»، كيف ساهم الاستلهام التراثي – لمحفوظ وغيره – في تأصيل الخطاب الروائي العربي من جهة، وفي رصد قضايا الواقع المعاش من جهة أخرى، أملاً في تغيير المسلَّمات الاجتماعية والسياسية التى تعاني منها الشعوب العربية.
ونواصل نشر هذه الدراسة القيمة التي يتوقف فيها الباحث عند انفتاح النص المحفوظي على عوالم وقضايا اجتماعية وسياسية ومعرفية، غريبة عن قضايا حكايات «ألف ليلة وليلة»؛ ليكشف العبث السياسي المرتبط بالحكم الاستبدادي، وغياب العدالة الاجتماعية.
يطالعنا الخطاب السَّردي لرواية «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ، بعتبة نصية مألوفة لدى المتلقي العربي والغربي؛ حيث يتناص عنوان الرواية – بشكل مباشر – مع عنوان الحكاية الشعبية «ألف ليلة وليلة»؛ ذات الشهرة العربية والعالمية، وهى مواصلة نصية تؤكد انفتاح النص المحفوظي المعاصر، على التراث الشفاهي المكتوب المتجذر في الحضارة الشرقية، بعوالمه المختلفة، والذي يدفع بالمتلقي إلى مغامرة تَكَشُّفٍ للعالم السَّردي المعاصر، في إطار تذكري للمصدر التراثي، من خلال إقامة نوع من الموازنة بين النصين، يرصد المتلقى من خلالها قدرة النص المعاصر على التفاعل مع النصوص التراثية، وكيفية توظيفه لعناصرها الشكلية والدلالية، لإثراء بنيته الحاضنة، للتعبير عن واقعه الحضاري المعاش.
على أن هذا التواصل النصي، الذي تجلى في عتبة «ليالي ألف ليلة» ما لبث أن تحول إلى مزاوجة فنية، تعتمد على الانتقاء والمغايرة، حيث أخذ سارد ليالي محفوظ، يستلهم نص «ألف ليلة وليلة»، من خلال قدرته على انتقاء جملة من العناصر السردية، التراثية، وبثها في خطابه السَّردي، بعد أن أعاد تقييمها، وغير من أدوار شخصياتها، بما يلائم طبيعة النص المحفوظي، وانفتاحه على عوالم وقضايا اجتماعية وسياسية ومعرفية، غريبة عن قضايا حكايات «ألف ليلة وليلة»؛ وهذا ما دفع نجيب محفوظ إلى القول: «أعتقد أنني، في هذه الرواية، قد عبرت عن اهتماماتي الكبرى الأساسية، وأنني قمت بذلك في مزيج بين ما يمكن أن تسميه «الواقعية السياسية» و«التأملات الميتافيزيقية»، ولك – إن شئت – أن تقول «التأملات الصوفية». لقد وجدت في (ألف ليلة) مساحة كبيرة تمكنني من التعبير عن هذا المزيج متباعد الأطراف»(10). وهذا ما تجسد – بشكل جلي – في أثناء الخطاب السردي لليالي المحفوظية، في هيئة عبث سياسي، يكشف أوضاع الحكم الاستبدادي، ومسئولية الخاصة والعامة، وحدود العقل ودور الدين في تحقيق الخلاص الصوفي الروحي، لتحقيق العدل الاجتماعي(11). الذي ينتج عنه الفوز بالدنيا والآخرة.
وقد كان لهذه الرؤية السياسية الوجودية الصوفية، أثرها الواضح في التشكيل الجمالي للخطاب المحفوظي، الذي تضمن سبعة عشر فصلاً؛ هي: «شهريار، شهرزاد، الشيخ، مقهى الأمراء، صنعان الجمالي، جمصة البلطي، الحمال، نور الدين ودنيازاد، مغامرات عجر الحلاق، أنيس الجليس، قوت القلوب، علاء الدين أبو الشامات، السلطان، طاقية الإخفاء، معروف الإسكافي، السندباد، البكاءون».
وجدير بالملاحظة في هذا الخطاب السَّردي، أنه يتواصل مع خطاب ألف ليلة وليلة؛ عبر سارده العليم، وصيغة المبنى للمجهول المتصدرة للإطار، وأسماء بعض شخصياته، غير أنه يغايره في الإطار العام، وسيميائية هذا الإطار، الذي انقلبت فيه أدوار الذوات النصية لألف ليلة، بما يلائم الطبيعة السياسية الصوفية للنص المحفوظي، وهو ما يؤكد قول «بوريس اوسبنسكي»: «…. لا بد من التشديد على الأهمية السيميائية العامة للإطار. وفي هذا الصدد تكتسب فكرة البداية والنهاية مغزى خاصًا وتتجلى أهميتها في صياغة الأنظمة الثقافية التى نعتقد أنها أنظمة تمثيلية ذات رؤية سيميائية للعالم (أو بتعبير أدق أنظمة تكشف عن تجربة شخصية واجتماعية…»(1).
انطلق النص المحفوظي، من إطار «ألف ليلة وليلة»؛ ولكن بهيئة سردية معكوسة، ومغايرة للنص الشهرزادي؛ حيث أعاد سارد محفوظ، سلطة النص ومقاليد الحكي إلى الرجل/شهريار، ليؤكد عودة الهيمنة البطريركية لهذا الرجل على الواقع الحضاري الذي ترصده «ليالي ألف ليلة»، وتصدُّره للمشهد الحكائي، بما يجعله مركز العالم على الصعيدين الفني والواقعي؛ بأبعاده الاجتماعية والسياسية. حيث يعلن الرجل (الحاكم/السلطة/شهريار)، في مفتتح «ليالي ألف ليلة»، الذي يمثل خاتمة «ألف ليلة وليلة»، خبر العفو عن شهرزاد، بعد ثلاثة أعوام مضت بين الخوف والرجاء، حيث يقول لوزيره «دندان»؛ في لحظة زمنية تحمل الأمل المشوب بالتردد: «عقب صلاة الفجر، وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة… اقتضت مشيئتنا أن تبقى شهرزاد زوجة لي ….»(3 )؛ معللاً ذلك بأن حكاياتها دعته إلى التأمل، وأنها – شهرزاد – أنجبت له وليدًا.
والمتأمل في هذا العفو الشهرياري؛ يلحظ أنه القرار يحمل الريبة، من ذات هذا الملك (السلطة/شهريار) الذي منح شهرزاد وبنات جنسها عفوًا يمثل عصرًا جديدًا (الفجر)، غير أن الظلام صامد في هذه الذات الحاكمة، وهو ما جعل شهرزاد محفوظ، تشعر بالتعاسة، رغم العفو عنها، وتشكك في مدى استيعاب شهريار لحكمة حكاياتها، لأنه «…الجريمة هي الجريمة.. كم من عذراء قتل، كم من تقي ورع أهلك، لم يبق في المملكة إلا المنافقون..»(14). وهو موقف من شهرزاد يبرز مدى تقلص دورها، في إصلاح هذا الملك، ومن ثم يغاير قرار العفو في نهاية «ألف ليلة وليلة»؛ الذي يعلن فيه شهريار (الرجل) انتصار شهرزاد (المرأة)، بعلمها ومعرفتها وذكائها «يا شهرزاد والله لقد عفوت عنك من قبل مجيء الأولاد، لأني وجدتك عفيفة تقية، وإني أشهد الله على توبتي من قتل بنات الناس»(15)، وبالتالي عاد شهريار إلى عدله الذي حكم به مملكته ساسان عشرين سنة(16).
ومن ثم؛ نلحظ أن دور شهرزاد في ليالي محفوظ، لم يتعد التعقيب على ظلم شهريار، وفساده؛ حتى حكاياتها التي مثلت سببًا قويًّا من أسباب العفو الشهرياري عنها، وعن بنات جنسها، لم يعد الفضل فيه إلى سعة معرفة شهرزاد العقلية، كما في (ألف ليلة وليلة)؛ بل يعود إلى أستاذها وأستاذ غيرها من القدامى والمحدثين، الشيخ الأكبر عبدالله البلخي، «… والرواية لا تطرح الشيخ البلخي باعتباره مصدرًا للمعرفة الصوفية، التي تعد لديها جانبًا من جوانب المعرفة، ولكنها تقدمه باعتباره القطب/العلم الذي يدور حوله العالم…»(17)، وأن شهرزاد بكل ما عرف عنها من سعة معرفية في (ألف ليلة وليلة)، ليست إلا مجرد تلميذة من تلاميذه المتعددين. لذا فهو مصدر المعرفة الدنيوية واللدنية، ومستودع القيم الاجتماعية والروحية معًا في عالم الليالي المحفوظية. وهذا ما دفع الطبيب عبد القادر المهيني، رمز الفكر العقلاني في الرواية صديق الشيخ؛ ليقول له متعجبًا، «الحناجر تدعو لشهرزاد بينما أنك أنت صاحب الفضل الأول … لولا أنها تتلمذت على يديك صبية ما كانت شهرزاد… لولا كلماتك ما وجدت من الحكايات ما تصرف به السلطان عن سفك الدماء…»(18) وبذلك يؤكد النص المحفوظي، قدرة المعرفة الصوفية الروحية، وأهميتها في مساندة العقل، وتطويعه، لتعديل المصير الإنساني، «رب روح طاهرة تنقذ أمة كاملة..»(19)، فهذا المصدر الصوفي الذي شربت منه شهرزاد – لا شهرزاد ذاتها- هو الذي دفع بالسلطة الفاسدة، شهريار إلى إعادة التفكير في عالمه، وفي ذاته، ووجوده، «الوجود أغمض ما في الوجود!»(20)، فيبدو السلطان في منزلة بين منزلتين، بين الخير والشر. ورغم هذا يصر النص المحفوظي على فساد هذه السلطة رأسًا وجسدًا، لأن فسادها لم يقتصر على سلطانها فحسب، بل استشرى في حكوماتها المتتالية، والمتغيرة، ست مرات بأمر شهريار، لأنها تمثل صورة فاسدة لهذا السلطان، كما يتضح في الجدول التالي:
| حاكم الحي | كاتم السر | كبير الشرطة |
| 1-علي السلولي | بطيشة مرجان | جمصة البلطي |
| 2-خليل الهمذاني | بطيشة مرجان | جمصة البلطي |
| 3- يوسف الطاهر | حسام الفقي | عدنان شومة/بيومي الأرمل |
| 4- سليمان الزيني | الفضل بين خلقان | بيومي الأرمل/المعين بن ساوى |
| 5- الفضل بن خاقان | هيكل الزعفراني | درويش عمران |
| 6- عباس الخليجي | سامي شكري | خليل فارس* |
والمتابع لتوالي هذه الحكومات الشهريارية، في أثناء الخطاب المحفوظي (حاكمًا، وكاتمًا للسر، وكبيرًا للشرطة)، يدرك أن الفساد في هذه السلطنة قد استشرى؛ لأنها كسلطانها تفتقر إلى العدل، والتقى، فها هو «جمعة البلطي» كبير الشرطة، في سلطنة شهريار، يقول لنفسه: «من تعفف جاع في هذه المدينة».. وتساءل ساخرا «ماذا يجري علينا لو تولى أمورنا حاكم عادل؟!».. أليس السلطان نفسه هو من قتل من العذارى والعشرات من أهل الورع والتقى؟!. ما أخف موازينه إذا قيس بغيره من أكابر السلطنة..»(21)، على أن «جمصة البلطي»، في هذا الحوار الداخلي – يشير بشكل مباشر، إلى أن سبب ضياع هذه المدينة، هو ضياع الرأس الحاكمة/شهريار، ومن ثم ضاع الجسد؛ لأنه بظلمه وفساده قتل الورع والتقى، والخلاص الصوفي، المتمثل في الدين.
في الحلقة القادمة يتوقف الباحث عند تفسير النص المحفوظي لصور فساد السلطنة التى يقودها شهريار، والتى تعاني من الفوضى والاغتيالات والسرقات، وكيف نتج هذا الخلل الاجتماعي والسياسي عن توازي العقل الفاسد (السلطة – شهريار وحكوماته) مع الدين، وعدم تلاقيهم، ولإصلاح هذا الفساد لا بد من العودة إلى الخلاص الصوفي المرتبط بالشيخ البلخي؛ وهو ما يعوِّل عليه العقل الجمعي (الشعب الخاص والعام) للإطاحة بهذا الاستبداد السياسي أو إصلاحه.
(١٠) نجيب محفوظ- «ألف ليلة» أحاطت بالحضارة الشرقية – حوار أجراه معه: حسين حمودة- فصول- الهيئة المصرية العامة للكتاب – مجلد B ، – عدد 2 – صيف1994م – ص 380.
(11) انظر – فوزي الزمرلي- شعرية الرواية العربية، بحث في أشكال تأصيل الرواية العربية ودلالاتها- مركز النشر الجامعي – تونس -2002-ص144.
(12) بوريس أوسبنسكي- شعرية التأليف، بنية النص الفني وأنماط الشكل التاليفي- ترجمة: سعيد الغانمي، وناصر حلاوي- المشروع القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة – مصر 1999م – ص 149.
(13) نجيب محفوظ – ليالي ألف ليلة – صصـ .4-3
(14) المصدر نفسه – ص 6.
(15) ألف ليلة وليلة – روايات الهلال – مجلة شهرية لنشر القصص العالمي – دار الهلال – د.ت الجزء الثامن – ص 135.
(16) ألف ليلة وليلة- طبعة برسلاو – دار الكتب والوثائق المصرية – مجلد1 – ط3 – 2003م – ص6.
(17) صبري حافظ – جدليات البنية السردية المركبة في ليالي شهرزاد ونجيب محفوظ – فصول – مجلد13 – عدد2- صيف1994م- ص35.
(18) نجيب محفوظ – ليالي ألف ليلة – ص8.
(19) نفسه – ص 8.
(20) نفسه – ص4.
*انظر صبري حافظ – السابق – ص49.
(21) نفسه – ص37.