نجوى الرّوح الهمّامي
اللوحة: الفنان الفرنسي كلـود مـونيـه
(كلما كان الزمن الذي نخلفه وراءنا أكبر، كلما أصبح الصوت الذي يحثنا على العودة لا يقاوم*)
باب البيت ومفتاحه، بوّابتي إلى عالمي. أعتقد أحيانا أنّني لم أملك غيرهما؛ فهما وحدهما يُسلمانني إلى مكاني مطمئنةً. وإذا ما تركتهما خلفي أسلماني إلى المجهول ومنه إلى أبواب أخرى آخرها نقطة الوصول في عودتي.
أنا المُمزّقة بين بوّابتين، أمضيت حيّزا من العمر بينهما.
لا أتوقف إلاّ لأحلم بعودة في الاتّجاه الآخر، صنو بندول ساعة معلّقة في جدار الزّمن. كساعيةٍ بين الصّفا والمروة،غير أنّه سعي لا ينتهي.
كلّما أنخت ركائبي اعتراني شعور حادّ بالرّغبة في الرّحيل.
بين العودة والعادة وشائج تتجاوزالاشتراك في جذر الكلمة فالشّخص لا يعود إلاّ لما تعوّد عليه تاركا وراءه مالم يتعوّده، هي العودة إلى الأصل أو هكذا تتراءى لنا الأشياء.
هذا الانشداد الإنساني إلى الثّبات والرّكون إلى الطّمأنينة والخشية من التّغيير، ليس سوى انشداد واهم. فلئن كانت العودة حلما فإنّ الرّغبة فيها تتضاءل أحيانا كثيرة.
إنّها واقع مهدّد بخيبةٍ ما، سواء بعودتنا إلى مكان ما، أو عودة الأشخاص والأشياء والمشاعر إلينا كما تعودنّاهم وعهدناها. وهي إيذان برحيل ما واقتفاء لآثار السندباد فينا.
في لحظة من الزّمن يتنامى هاجس العودة بي إلى الوراء، ربما لأنّني أعاني بذخا في الأمكنة.. فلدي مكانان أُيمّم وجهي شطرهما.
الآن أحلم بالعودة إلى كراسي الدّراسة، أحلم بعودة بيتنا القديم، ذلك الحوش الذي ينفتح على شجرة كرم تُضلٍّل فناء البيت وتحت الدّرج الاسمنتي المُوشّى بحبّات الجليز، ترتفع شجرة مشمش كلما بدأت ملامح الصّيف تلوح تدلت ثمارها الناضحة أنوثة.. ماذا لو عادت إليّ كل الوجوه التي كانت حولي وأحببتها، ماذا لو عادت إلي لحظات الفرح وكلمات الثّناء التي كنت أسمعها.
ماذا لو عادت إلي قدرتي على مقاومة النّوم والكسل، قدرتي على الجِدال.
ماذا لو عادت إليّ خفقة القلب الأولى؟ إنّها الرّغبة الخالدة في عودة الزّمن.
كم نحن مسكونون بطوباوية لا تنتهي وحلم العودة إلى المكان المكتمل الكامل: الجنّة، في كل حلمِ عودةٍ حلمٌ بجنّةٍ ما.. لكن كلّ جنان الأرض التي تسكن ذاكرتنا والتي أسبغ عليها خيالنا من الجمال ما أسبغ لم تعد كما كانت ولن تعود. تغيَّر وجهها أو اندثرت..نحن لا نرغب في عودة الألم ولا مُسبّبيه، ولا في عودة الظّلم ولا الطّغاة، ولا في عودة الحرمان وبين “الله لا يعودها أيام” وبين “يا ليتها تعود” و”على الله تعود يا غايب في بلاد الله”، نتأرجح مأخوذين بحلم البقاء والخلود.. وبين “عائدون” و”حقّ العودة” تمتدّ يد لتُربّت على قلوب منفيّةٍ قسرا..
ونكتفي من حلم العودة ب”الذّاكرة السعيدة”**
*كونديرا (ميلان )، رواية الجهل
** “الذّاكرة السّعيدة” عبارة أوردها بول ريكور في كتابه (تحت التاريخ، الذّاكرة والنسيان)