فن الرقص في الشعر العربي

فن الرقص في الشعر العربي

د. ركان الصفدي

اللوحة: الفنانة اللبنانية رندا رحايل دو شدرفيان

  تجلّى فن الرقص في الشعر العربي القديم من خلال وصف الجسد الراقص ولباسه وحركاته، ومن خلال تناول الرقص الرياضي والصوفي وترقيص الحيوان، ودخل في مجازات الشعراء، وترك أثراً في إيقاع الشعر وأوزانه.

  وإذا ارتقينا في مستوى علاقة الشعراء بفن الرقص، وجدناهم يصوّرون حركات الراقصين، وهو ما يدلّ على أنّهم كانوا يتلمّسون جمال هذا الفن في عنصره الأساس، وهو الحركة، واتّسع خيال الشعراء لحركات الرقص، فصوّروها تصويراً مبتكراً، وأصبحت عنصراً فنّيّاً في لوحة زاخرة بالحياة، كقول أحدهم في راقص:

إذا اخْتَلَسَ الخُطا وَاهْتَزَّ لِينا

                  رَأَيْتَ لِرَقْصِهِ سِحْراً مُبِينا

يَمَسُّ الأَرْضَ مِن قَدَمَيْهِ وَهْمٌ

                  كرَجْعِ الطَّرْفِ يَخْفَى أَنْ يَبِينا

تَرَى الحَرَكاتِ مِنْهُ بِلا سُكونٍ

                  فتَحْسَبُها لِخِفَّتِها سُكونا

كَسَيْرِ النَّجْمِ لَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ

                  ولَيْسَ بِمُمْكِنٍ أَنْ يَسْتَبِينا

  فهذا الراقص البارع يسرق حركاته بخفة، فلا ينتبه مشاهدوه كيف يحرّكها، وينقلها برشاقة عجيبة وسرعة شديدة كأنه لا يمسّ الأرض، وكأنها وهمٌ أو كرَمْش العين من سرعتها؛ إنها حركات لا تتوقّف ولا تضطرب حتى ليظنّها الرائي ساكنة لانتظامها وسرعتها وخفتها، فهي كحركة النجم، ومن ذا يرى حركته؟

  ووصف ابن بابك (ت 410 ه) راقصاً متخفّفاً من الثياب، أو يرتدي ثياباً لاصقة تبرز عضلات جسمه وحركاته، يثني جسمه بكل اقتدار ويلويه كيفما أراد، بحركات سريعة متتالية كخفق جناحي الطائر الصاعد إلى السماء، فقال:

 وراقصاً يَنْثَني تِيهاً فتَحْسَبُهُ

                  غُصْناً من البانِ لم يُسْتَرْ بأوراقِ

كأنّ أعضاءَهُ، والرقصُ يُزعجُها

                  تصفيقُ ريشِ جناحِ الطائرِ الراقي

   ونصل إلى شاعر من كبار شعراء القرن الخامس الهجري ذي ارتباط وثيق بفنون الموسيقى والرقص والغناء، بل جعلها من نظام حياته الأرستقراطية، هو الشاعر الشريف العَقيلي (ت 450 ه)، الذي انتقل إلى القاهرة فعاش في بيئة مصرية تحترم الرقص وتقدّره، وجعله إقباله على الحياة والرفاهية يعيش للفرح والانشراح والتنزّه والولائم والتمتّع بكل ما يبهج نفسه، وقد كان للغناء والموسيقى والرقص مكانة خاصة في حياته، حتى إنه كان يؤلّف قطعاً شعرية ويغنيها بنفسه أو يغنّيها مغنّوه، فليس مستغرباً إذاً أن تكون علاقته بالرقص متميّزة بروح جديد، وموقف احترام وإعجاب، وقد خصّ هذا الفن بعدة قطع شعرية مستقلّة بذاتها، فها هو ذا يصف راقصاً مُجيداً ملتفتاً إلى جودة الإيقاع في حركاته، وحسن تعطّفه وإشاراته، فيقول:

 لَقَدْ تَكامَلَ فيهِ اللِّينُ والهَيَفُ

                  لِراقِصٍ كُلُّ ما يأتي بهِ طُرَفُ

إيقاعُهُ كَمَعانٍ غَيْرِ ناقصةٍ

                  وحَثُّهُ كقَوافٍ ليسَ تَخْتَلِفُ

يُبْدي لنا حَرَكاتٍ في تَخَلُّعِهِ

                  كأنّها رَجَزٌ ما فيهِ مُنْزَحِفُ

استجمع الشاعر كما هو واضح عناصر هذا الرقص، كالإيقاع، والحثّ، والحركات، والإشارات. ويلفت الانتباه أن الشاعر يوازي بين فنّ الرقص وفنّ الشعر، فالإيقاع الواضح كالمعاني الكاملة التامة، والحثّ المنتظم كالقوافي في اتساقها، وحركاته منسجمة متماثلة مثل تفعيلات الرجز من غير زحاف، إذ تكون (مستفعلن) مكرّرة متسقة سريعة رشيقة. 

  وعلى غرار السري الرفّاء أصبح الرقص عند الشريف العقيلي نوعاً من الشعر، وهذا أوج تقدير لهذا الفن من شاعر، ولم يكن هذا الموقف عابراً عند الشريف العَقيلي، فقد أكّده في قطعة أخرى في ذروة من الإبداع تصويراً وبلاغة، إذ رأى الرقص الجميل مثل شعره هو، فقال:

ورَقْصٍ كَشِعْريَ في الإفْتِتانِ

                  إذا حُثَّ حُثَّتْ كُمَيْتُ الدِّنانِ

لِأَهْيَفَ قَدْ بانَ في قَدِّهِ

                  مِن الحُسْنِ ما ليسَ في غُصْنِ بانِ

قَصيدةُ رُؤياهُ طَنّانةٌ

                  ومَقْطوعُ لُقْياهُ حُلْوُ المَعاني

  ويفاجئنا بقوله “قصيدة رؤياه طنّانة”، فهو يمازج بين الشعر والرقص ممازجة تامة، ويرفع هذا الفنّ إلى مستوى الإبداع والسموّ، وهو ما لا نجده عند شاعر آخر، ويرى مقاطع الرقص كمقاطع الشعر، كلاهما يحتوي على معان جميلة، فقد أصبح الرقص عند العَقيلي لغة معبّرة، بالحركات والإشارات التي يقوم بها الراقص ليوحي بها بمضمون مقطوعه الراقص.

  أمّا أبو عبد الله بن الطوبي (ق 5 ه) فقد أجاد في وصف راقصة وصفاً يدلّ على تمكّن هذا الفنّ من وجدانه، فقال:

تَلْهَبُ مِثْلَ النّارِ في رَقْصِها

                  وَهْيَ مِنَ النِّعْمَةِ كالماءِ

كأنّما في رِجْلِها عُودُها

                  وزامِرٌ يَتْبَعُ بِالنّاءِ

ساحرةُ الرَّقْصِ غُلامِيّةٌ

                  مِنها دَوائي وبِها دائي

إذا بَدَتْ تَرْقُصُ ما بَيْنَنا

                  يَرْقُصُ قلبي بينَ أحشائي

  فقد رسم لوحة جميلة مؤثّرة لهذه الراقصة الرشيقة التي ترتدي ثياب الغلمان الضيقة، وتهتزّ كالغصن على ما فيه من دلالات كامنة، كالرقة والنعومة والثمر، ثم رسم صورة طريفة بتشبيهها بشعلة النار المتراقصة بما فيها من ضياء ورشاقة وحرارة، ثم جعلها كالماء حياة ونعمة، فجمع ضدين في خيال عجيب. أما رقصها فغاية في الجمال، كأنما حركات رجليها أنغام عذبة كعزف عود وناي، فرقصها موسيقى منسجمة مؤثرة ساحرة ترقص له القلوب.

  أما ابن حمديس (ت 527 ه)، أشهر شعراء صقلية، فوصف تأثير الرقص في الحاضرين، فجعله كأنه تباريح الهوى والغرام، إذ إن تناسب حركات أقدام الراقصات يأخذ بالقلوب والألباب، ويستثير الكوامن والمكبوتات، ويؤثر في حواس الإنسان وأعضائه كلها، فيصيب كلاً منها بكرب الحب واللوعة، فقال:

وسُودِ الذَّوائبِ يَسْحَبْنَها

                  كَسَعْيِ الأَساوِدِ فَوقَ الكَثيبِ

تَوافَقُ بِالرَّقْصِ أَقْدامُهُنَّ

                  يَطَأْنَ بِها نَغَماتِ الذُّنوبِ

يُشِرْنَ إلى كُلِّ عُضْوٍ بِما

                  يَحُلُّ بِهِ في الهَوَى مِن كُروبِ

  وتلاعب ابن كسرى المالَقي (ت 643 ه) بالتورية، فوصف رشاقة الراقصة وتلوّي جسدها قائلاً:

 إذا رَقَصَتْ أَبْصَرْتَ كُلَّ بَديعةٍ

                  تُرَى أَلِفاً حِيناً، وحِيناً هيَ النّونُ

 فرسم بالتورية صورتين متوازيتين: الألف العدد (ألف بديعة)، والألف الحرف (شبّه به قوامها منتصبة)، والنون الحرف (حين تتلوّى بجسدها وتلتفّ)، والنون السمكة (بتلوّيها ورشاقتها)، وكأن الرقص عند الشاعر أصبح كتابة جسدية، وسباحة في بحر جمال وانبهار.

  ويمكن أن نتصوّر حركات الراقصة بجسدها ويديها، وهي تتدفّق إلى الأعلى، وتنهمر إلى الأسفل، كفوّارة رشيقة، كما قال بعض المتأخّرين:

جاريةٌ راقصةٌ أشبهَتْ

                  في وَصْفِها فَوّارةَ الماءِ

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.