أمل بشير
اللوحة: الفنانة العراقية هبه فاضل ياسين
ما زالت ابتسامة أمي أجمل ابتسامة في الكون، لطالما تخطت كونها مجرد ابتسامة لتكون يدا تطبطب علي في كل لحظة، وعدا جميلا بأني سأكون بخير، عين تتعهد برعايتي على الدوام، مرآة تراني بها أكمل البشر وأفضلهم.. ورغم ذلك كنت أرى تلك الدموع التي تحاول جاهدة أن تمنعها من التحرر من خلف أسوار عينيها، كانت تحاول حبسها، وتعيدها إلى المكان الذي خرجت منه، كنت استشعر ذلك الأنين والحزن خلف كل دعاء ينطق به لسانها، وكل كلمة توجهها إليّ، كنت أعلم مدى حزنها، تحاول بكل طاقتها أن تخفي ذلك الحزن، ولكنها لم تعلم يوما أني كنت أعلم، لم تتخيل أنني أشعر بأنّاتها وآهاتها وإن لم تنطقها، أرى دموعها وإن لم تذرفها؛ وكنت أعلم يقينا أني سبب كل هذا الحزن، سبب تلك الآهات وهذي الدموع، لكنني كنت أبادل ابتسامتها بابتسامة حتى لا تشعر بالضيق إن علمت أني أعلم.
وُجِدت في الحياة مختلفا، لم أشبه أحدا من أفراد أسرتي، كانت تخبرني دائما أني أشبهها، وكنت أسعد بذلك، هي تراني بقلبها لا بعيونها؛ فملامحي تشبه من يشاركوني الخلل الجيني الذي شاء القدير أن تحدثه الطفرة التي قلبت موازين الطبيعة، لأكون وإخوتي فيها، تلك الطفرة التي قلبت موازين الحياة.
منذ صغري أعلم أني بطيء عن أقراني، فعلت بعضا مما يفعلون متأخرا عنهم، أصبحت الأقصر بينهم، إن هذا يضايقني أحيانا، لكنه لا يترك أثرا يتعدى ضيقي لوهلة حين أفكر بالأمر، ولكنه كان يحفر عميقا في قلب أمي ويصنع ندوبا في روحها.
ما لم تعلمه أمي أني لم أشعر يوما بأن اختلافي يؤلمني أو يحزنني، أو يحرمني من أن أكون شخصا له مكانة ما في هذه الحياة، كنت دوما اقرأ تلك النظرات المتسللة التي تحاول أن تشعرني باختلافي، وتلك الضحكات الساخرة التي طالما سمعتها أو حاول من هو أكثر تهذيبا إخفاءها، إلا أنني لم أسمح لها أبدا أن تهزمني؛ قد تحبطني أحيانا لكنني كنت أركض لحضن أمي أحتمي به، فتشملني بابتسامتها الرائعة، وأراني في مرآة عينيها كاملا لا ينقصني شيء.
إن لي عالمي الخاص، أراني موسيقيا ناجحا، حين أعزف على آلاتي الموسيقية، رغم عدم إجادتي لها، أو مؤديا عظيما حين أغني؛ فأشعر بسعادة تغمرني، وتنبت أجنحة تحملتني لأرض الشهرة حيث أنتمي، وعندما أجدتُ القراءة والكتابة والحساب، كانت سعادة أمي هي أكبر وسام أعلقه على صدري.
حياتي طريق شاق وطويل، أزالت أمي الحجارة عنه بيديها لتمهده فلا يؤذيني، دائما ما تحكي لي قصصا عن نجاحي، تصور لي حلما جميلا أكون فيه طيارا.. طبيبا.. أو حتى عالما، لم تكن تشعرني بأن هذا مستحيل، رغم ما يشي به صوتها المليء بالحماس، أنها تعدني بما قد لا يحدث يوما، وهي تعلم أنني قد لا أستطيع إحراز هذا إلا في أحلامها الجميلة التي كانت تصورها لي.
عاشت أمي طوال سنوات عمري وهي تحاول أن تدخل السعادة على قلبي، وتبعد الإحباط عن دربي؛ فتمتص كل ما قد يحزنني، إلى أن غلف الحزن روحها تماما، فنسيت كيف تفرح، حتى ضحكاتها وابتساماتها كانت مجرد تمثيلية تقوم بها لأجلي، أو لتخفي عن المتطفلين وجعها، أو ربما كانت تقنع نفسها أنها قد تقبلتني كما أنا مختلفا.
اعتقدت أمي دوما أنني ضعيف، فحاولت تلقي كل الضربات عني، حتى تكسرت روحها أشلاء وتفتت قلبها، وبات جرحها نازفا لا يبرأ، لم تعلم اني رغم اختلافي لست ضعيفاً، وأنها لم تكن بحاجة لتموت كي تنقذني مما لم يكن ليصيبني، فلي قلب أيضا مختلف لا يعرف الحزن ولا الغضب، يفرغ كل الشحنات السلبية بسرعة البرق، فلا يوشك السهم أن يصله حتى يخجل منه فيسقط دون أن يصيبه بأذى، لم تعلم أمي أن طيبتي كانت سلاحي، وبراءتي كانت درعي، وأن قلة إدراكي لسوء النوايا كان وقاية لي، وأنها لم تكن تحتاج لبذل كل هذا الجهد لتحميني.
لم تدرك يوما ولم استطع أن شرح لها قدر سعادتي بابتسامتها التي كانت هي كل دنياي، وأن السعادة بأي إنجاز صغير أراه في عينيها هو أقصى حدود فرحي، فلم أسعَ يوما لأكون بطلا إلا في عينيها، وهذا ما كنت أراه كلما نظرت في مرآة أمي التي لم تجعلني يوما ناقصا، ولم أبدُ فيها أبدا معاقا، بل كنت دوما جميلا وكاملا.