نهج السعادة

نهج السعادة

نورة عبيد

اللوحة: الفنانة الجزائرية سهام كباس

 

اِنتظرنا المساء لنسبح بالبحر. وزاد انتظاري للمساء وللبحر بانتظاره إنهاء مباراة فريقه المفضّل هذا المساء.

كان الحرّ يعتصر جسدي ويزيد أرقي. وأنا أقاوم الاهتداء للمكيّف.. فهو يقتات من عظامي ورئتيّ حسب آخر ما ظهر للمكيّف من مساوئ على مستهلكيه إن لم يضعوا في زاوية ما “بانو ماء”!
أخبرتني بذلك ونحن نحتسي قهوة على عجل في ركن أسود من شارع فسيح يطلّ على محطّة القطار. فبادرتها قائلة :” وكيف كان البحر؟ “.فأجابت مستهزئة: “كالبحر صيفا ،على قدر نصيبك منه!”    كانت إجابتها كافيّة لأستحضر كلّ تلك الصور التي رسخت بذاكرتي حول عالم البحر؛ أحواله وأهواله ثمّ سألت:” هل سبحتما؟” فواصلت الرواية. اتّخدنا الطريق إلى الشاطئ فرصة للتحادث على خطوات رحيمة وديعة. واتّفقنا على أن نأخذ قهوة “سرّي” من المقهى المجاور لنهج السعادة نهجنا.

والحقّ نهجنا سعيد فعلا. لا ينام حسّه ليلا نهارا. والناس فيه يتمتّعون بكلّ شيء. تبادل الحديث بصوت مرتفع. فلا فائدة من مقولة” للحيوط آذان”. فهذه مقولة فسدت. فأسرار الناس هنا معلومة.. تأتيك من أفواههم الصائحة وأصواتهم المرتفعة وجرّ أقدامهم و”شلايكهم” في كلّ وقت. حتّى أنّه لا وقت لك لأيّ شيء. حتّى لتقبيل من تحبّ على صوت وأنغام من تحبّ. 

تخيّلت كلّ ذلك.. لم اشفق على صديقتي، فكثيرا ما أطلعتني على لحظات سرقت فيها  كلّ تفاصيل سعادتها. ضحكت في سرّي كثيرا حتّى كدت أنسى ما تقول، وسرعان ما تابعتها وهي تضيف: في نهج السعادة ينعم الناس بالقرب من كلّ شيء؛ من الخضّار والخبّاز والخيّاط والإسكافيّ والمغسلة والعطّار والمدرسة، والمستشفى و المعهد الأعلى للغات والصيدليّة والكنام  ووو…

وقاعة الرياضة المغلقة، و”معامل” الخزف المصغّرة، وتقوم البلديّة بدورها على أحسن وجه في رفع أكياس القمامة، ولكنّها لا ترفع قوارير الجعّة إذا لم تغلّف بأكياس أو جرائد تخفي هويّتها.

وفي نهج السعادة أيضا الناس لا ينامون، يخرسون في القيلولة فقط، كلّهم يخافون الشمس فينسحبون من النهج وتنسحب أيضا أصواتهم من أفواههم، لكن إذا غابت الشمس ودائما تغيب، يخرجون أفواجا أفواجا، كبارا وصغارا وشبابا، نساء ورجالا، أولادا وبناتا تسبقهم أصواتهم إلى عتبات المنازل حيث يجثم الكبار، بينما يتحوّل النهج إلى حلبة للمارّين وللعابرين.. للبشر الرّاكبين الدرّاجات الهوائيّة والناريّة والسيّارات والشاحنات.. يمرّون تحت سياط منبّهات الطريق.. فينطق الجالسون على حافتي النهج، في قرف “يزي من التزمير”، ويغوص النهج في هرج ومرج لا يكاد يهدأ حتّى ساعة متأخّرة من الليل.

في الليل يستعيد النهار نشاطه.. يضاء النهج والبيوت والعيون؛ عيون البشر والقطط على حدّ السواء. العيون تشيّع الحسناوات وغير الحسناوات، تتابع كلّ نافذة ستفتح، وكلّ شرفة ستشرّع قضبانها للنّسيم.

في نهج السعادة أيضا يعترضك الكلام ماشيا وراكضا ومتبخترا.

غزل وتحايا الليل ووصايا الأمّهات بمتطلّبات فطور الصباح “زب.. دة وجب.. ن” وطبعا “خب.. ز” و الأحسن باڨات..

عليك أن تسمع الكلام كلّه فأنت من كنت بالشارع.. والشارع ليس ملكك ولا ملك أبيك وجدّك.. الشارع ملك الشارع؛ فارض بما فيه.. تسير مطأطئا نادما متوعّدا بترك نهج السعادة للسّعداء.. تسرع نحو شرفتك أو حرمتك وبيتك فتضربك كلمة نابيّة من هنا وهناك.. كلّها تشجيع على المعاشرة الجنسيّة الحرّة السعيدة. “برا نيك”.

هربنا من نهج السعادة إلى البحر. كنت سأقول له كلاما كثيرا.. ولكن نهج السعادة أبطل شهيّتي فعدلت. بلغنا الشاطئ والليل يسبقنا. لم نجد غير الحفاة يداعبون أمواجا متتاليّة. افترشنا الرمال النقديّة، نظرنا إلى السماء القريبة، وأسلمنا آذاننا للبحر نشكوه سعادتنا.

نظرت إلى حذائي، وغادرنا المقهى باتجاه محطّة القطار.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.