الهوية ورياح التجديد في قصة «بيتزا» لحسام القاضي

الهوية ورياح التجديد في قصة «بيتزا» لحسام القاضي

د. مصطفى عراقي 

اللوحة: الفنان السوري إسماعيل أبو ترابه

مساحة إنسانية جميلة جليلة في الزمان والمكان والإنسان، تمدها لنا عبر تقنية قصصية بارعة أحداث قصة “بيتزا” للقاص حسام القاضي، وكان البدء بلحظة “الحمى” إشارة ذكية لما يعتمل في قلب الأب مما أصابه من ضعفٍ، لم يستسلم له بل “حاول الوقوف على قدميه سقط محدثا دويا “.
لنضع أيدينا على طبيعة شخصية الرجل، وقوة المرض في صراع داخلي يمور في قلب الرجل.
وها هي الزوجة الممزقة بين عاطفتين، تلجأ إلى تأجيل صراع آخر خارجي، بعد أن أدركت فشلها في تفاديه، فتكون فرصة للرجل للرجوع بذكرياته (وبنا) إلى أصل القضية في رحلة الزمان؛ لنكتشف أن المكان (محل الفطاطري) يضرب بجذوره في عمق الوطن، بل حتى يكاد يكون صورة له في تحرره من “براثن المحتل الأجنبي”، وأن تثبيت اللافتة كان إعلانا للاستقلال من التبعية والخروج من مرحلة “غياب الوعي” متمثلا في “الخمارة” إلى مرحلة جديدة تبشر بالخير، لتبيان أن نزع الابن لهذه اللافتة (محور القصة) ليس مجرد نزع للافتة، وإنما هو تنكر لهذا الرمز الثري بزخمه التاريخي والشعوري.
ولكن الواقع وإلحاح المشكلة لن يتركا الرجل يسترسل مع هذه الذكريات الجميلة فقد
“لسعته حرارة الكوب فتنبه”
وكأن حرارة الكوب صارت هنا المعادل الموضوعي لقسوة اللحظة الراهنة !
حيث المفارقة الصارخة بين جيلين، جيل الكفاح الشريف، وجيل الضياع والتقليد الأجوف الذي “يرطن بالأجنبي” ليس من أجل السعي إلى ثقافة وتجديد إيجابي، بل للتبعية والتقليد الأعمى: “جيل يتعب ويشقى، وجيل يضيع كل شيء في التراب، ويحط رأسه في الوحل”.
ويمدنا السرد بإشارة غاية في الأهمية ذلك أن الأب هنا ليس ضد مبدأ التجديد فعندما أخبره الابن في البداية، أنه يريد تطوير المحل (فالمستقبل للديكور الجديد والشكل الجذاب) وجد كلامه معقولا فوافق، لكنه اشترط عليه أن تبقى اللافتة كما أرادها جده؛ بألوانها الثلاثة : الأحمر ثم الأبيض فالأسود، وباللون الأخضر على المساحة البيضاء (فطاطري ابن البلد)
فهو مع التجديد ولكن بشرط الحفاظ على الهوية، ومما يدل على مدى ما تحمل اللافتة من معان ودلالات، أثار مجرد استعادة ذكرها شجون البطولة في أيام الكفاح ضد المحتل “ياه.. كانت أيام.. كان يتفنن في اصطيادهم بعد مطاردتهم في حواري القلعة الضيقة الملتوية”.
” أوشك على الصراخ عندما تجاسر وأنبأه أن فطيرهم أصبح موضة قديمة، وأن هناك أنواعا جديدة واردة من الخارج عندما سمع اسمها أول مرة هب كمن لدغه عقرب لم يدر بنفسه إلا وهو في فراشه”
لندرك الآن سر الحمى التي بدأ بها القاص قصته، في بناء ذكي لا يلتزم الترتيب الواقعي للأحداث؛ بل يتخير اللحظة المتوترة المناسبة للتجربة في سياق قصصي متسق معها.
وكما لسعته حرارة الكوب، ها هي برودة الجو أيضا تلسعه، بما يدل على أن الرجل صار واقعا في مهب المؤثرات الخارجية، لكنه يقف أمامها رغم “الضعف الحالي” متماسكا فيقابلها بزفرة تدل على الوعي والصمود:
“زفر في ضيق، ( تجديد وقلنا ماشي بيتزا وما قدرناش نقول لأ.. لكن كله كوم واليافطة كوم)، ولكنه لا يقنع بهذا الزفير المعبر المصور لمشاعره وأفكاره، بل يتجاوز ذلك في رغبة صادقة زادها اشتعالا رؤية ابنه وهو يستقدم للمكان سيدا جديدا، لا سيما وقد “شاهد ابنه ينحني مفسحاً الطريق لشريكه الخبير”.
ثم تحين لحظة النهاية الموفقة، لقد حبسنا أنفاسنا مترقبين أن يحطم الرجل اللافتة بعد أن نقرأ عبارة مثل: “لاح في عينيه إصرار عنيد”، ولكنه لا يلجأ إلى هذه النهاية الساذجة
لأنه يدرك قيمة اللافتة في ذاتها، ولهذا نطالعه وقد: “حملها تحت إبطه الأيمن، و.. مضى.. إلى أقرب محل دهانات”.. في إشارة كاشفة إلى أن كل محاولات طمس الهوية مجرد طلاء خارجي، يزول بالإصرار والرغبة الصادقة.
لقد تمكن القاص حسام القاضي من التعبير عن تلك المعاني السامية بمقدرة فنية متميزة في صياغتها الإبداعية، من خلال سرد درامي معبر عن حركة الأحداث والمشاعر،
وفي حوار قصصي كاشف، وتجسيد حي للشخوص بمهارة وإتقان.


قصة «بيتـزا» للكاتب حسام القاضي

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.