محمد نديم علي
اللوحة: الفنانة المصرية إيمان أحمد
بيني وبين مطر الشتاء ما طرق الحداد، كنت قبل سنوات المدرسة ممن يرتادون كتاب الشيخ علي، وكانت الطريق إليه على مسافة بعيدة على طفل غرير نحيل الساقين ضعيف البصر، وكان أن ألبسوني قفطانا مقصبا، ما زالت أذكر ملمسه وألوانه، على كتفي كيس من ذات القماش يحوي لوحا معدنيا، يكتب عليه العريف قصار السور لنحفظها في البيت، ويعاود مسحها وكتابة غيرها في اليوم التالي.
وبين كتابتها ومسحها وكتابة غيرها، كانت تقام جلسات التسميع وحفلات العقاب والتعليق بالفلكة والمد على القدمين، وما زالت دهشتي حتى الآن، لا أدري لماذا لم يكن يسمح لنا بحمل المصاحف؟ وفي قاع الكيس شئ من خبز، وحبيبات من حلوى يحبها الأطفال شاعت في ذلك الزمان.
وبين بيتنا ومقر الشيخ، يمتد الطريق متعرجا بين شوارع وحارات ومشاهدات ومعالم؛ مقاه ودكاكين للخياطين واللبانين والكوائين، وصانعي الفوانيس والبقالين والحلاقين، وكانت عادة المصريين آن ذاك الاستيقاظ مبكرين.
ويوما ما، غامت السماء وأظلم الأفق، وبرق البرق وزمجر الرعد، وكنت في منتصف الطريق، فجريت وصحبي إلى مقر الشيخ، وقد قربنا منه قبيل هطول المطر.
التأمنا فوق الحصير داخل غرفة يتصدرها الشيخ، كنا كأفراخ الدجاج الصغير، يستدفئ كل منا بزغب الآخر، غير أن (العريف)، وهو صبي يكبرنا ويساعد الشيخ على ضبطنا أو المراجعة لنا، وبإشارة من الشيخ الأعمى، فصلنا عن بعضنا ورتب جلستنا، حين التصقت دون وعي مني بمن كانت جانبي، وتم فصل الصبية عن الفتيات الصغيرات.
كان الرعد خارج المقر يقصف بصوته الرهيب، ولم يثبت في ذهني شيء مما قرأ الشيخ أو رتل الأطفال، وصوت انهمار الماء خارج الدار لا تخطئه أذن واعية.
انتهى الدرس، وما زال خوفي يسكنني، وانتظر الشيخ إلى أن هدأت العاصفة، قبل أن يأذن لنا بالانصراف، وماهي إلا لحظات على الطريق، حتى استأنف الماء انهماره، وبين خروجي من دار العلم حتى وصولي إلى دارنا العامر بدفء أمي وحنانها، سقطت في ثلاث برك للوحل، إذ انزلقت قدمي الصغيرة ثلاث مرات، ما كان يحزنني في رحلة السقوط والقيام، هو أنني قد رأيت بأم عيني بالقرب مني، رجلا ضخما يمارس معنا نحن الصغار هواية السقوط، ولم يغادر ذاكرتي الصغيرة أن ضج المقهى بالضحكات.
استمسكت بكيس اللوح، وحزنت جدا على ألوان قفطاني المبتل، ولم أدر حتى الآن ما حدث لقطعة الخبز وحبات الحلوى، وللرجل الضخم، وارتميت على عتبة دارنا بين ذراعي أمي مرتعشا مقهورا موجوع القلب والساقين والقدمين، وقد ظننت أني قد ازددت نحولا جراء ذلك المطر الغزير.