سعد عبد الرحمن
اللوحة: الفنانة الأردنية صباح السيوف
نواصل نشر هذه الحكايات التاريخية من كتاب مخطوط بعنوان (مائة حكاية وحكاية من التاريخ) للكاتب والباحث سعد عبد الرحمن، الذي خصنا مشكوراً بمادته.
من الحوادث المهولة التي وقعت إبان شهر شعبان من سنة 758 ھ من سلطنة الناصر حسن بن محمد بن قلاوون الثانية (تولى السلطنة مرتين الأولى من 748 ھ حتى 752 ھ، والثانية من 755 ھ حتى وفاته في 762 ھ) أن شخصا من المماليك السلطانية يقال له: قطلو قجاه السلحدار غافل الأتابكي شيخوا العمري (الأتابكي منصب عسكري مملوكي كبير يقارب منصب رئيس أركان الجيش الآن) وهو واقف في الخدمة بالإيوان (إيوان القلعة حيث مقر الحكم) في يوم الموكب و ضربه بالسيف في وجهه ثلاث ضربات فوقع إلى الأرض مغشيا عليه فلما جرى ذلك قام السلطان من مجلسه وهو مرعوب مما جرى.
فلما بلغ الأمير خليل بن قوصون صهر الأتابكي شيخوا ومماليكه طلعوا إلى القلعة وحملوا شيخوا على جنوية خشب (جنوية أي تعريشة) ونزلوا به إلى بيته الذي عند حدرة البقر (منطقة كانت تقع آنذاك خارج نطاق القاهرة ما بين قلعة الجبل وبركة الفيل) فوجدوا فيه الروح وبعض نفس فأتوه بمزين قطب له تلك الجراحات التي في وجه (خاطها له كي تلتئم) وكان ذلك يوم الاثنين حادي عشر من شهر شعبان.
ولما أصبح السلطان نزل من القلعة إلى بيت شيخوا، وهناك ترجل عن فرسه ودخل إلى شيخوا الذي كان ممددا على فراشه يعاني آلام جراحه البالغة فجلس عند رأسه وشرع يحلف له: أن الذي جرى لم يكن بعلمه و لا له خبر بما وقع من هذا المملوك قطلوا جاه السلحدار.
ثم رسم السلطان بإحضار قطلو جاه بين يديه فلما حضر قال له السلطان: من قال لك اقتل أمير كبير (لقب كبار الأمراء في الدولة)؟ فقال قطلو جاه: والله ما أحد قال لي اقتله، وإنما أنا كان في نفسي منه شيء بسبب إقطاع (أرض تم إقطاعها أي تخصيصها لشخص معين) كان لشخص من خشداشيني توفي (خدشاشين المملوك أي زميله ودفعته في التربية العسكرية)، فكتبت له قصة (شكوى يحكي فيها ما حدث) و وقفت للسلطان فلم يساعدني و أخرج الإقطاع لشخص آخر من جماعته فعز علي ذلك فقتلته من شدة قهري منه.
فلما سمع السلطان منه ذلك، رسم (أمر) بتسمير قطلوجاه (أي تثبيته على لوح خشب بالمسامير) ففعلوا وطافوا به القاهرة على جمل ثم وسطوه (قتلوه بقطع وسطه بالسيف) في الرملة (ميدان كبير للاستعراضات والتدريبات وألعاب الفرسان كان بالقرب من القلعة) على باب الأمير شيخوا بحضرة مماليك الأمير شيخوا، وكان عند شيخوا سبعمائة مملوك.
واستمر الأمير شيخوا ملازم الفراش وهو عليل حتى توفي إلى رحمة الله تعالى، وكانت وفاته يوم الجمعة سادس عشرين من ذي القعدة الحرام، وكانت مدة انقطاعه في هذا العارض ثلاثة أشهر وبضعة أيام.
فلما مات نزل السلطان وصلى عليه في سبيل المؤمني وكانت جنازته مشهودة ورجعوا به إلى الصليبة (الصليبة منطقة عريقة قريبة من القلعة تكونت في بدايتها من شارعين متقاطعين و ما تزال المنطقة تعرف بهذا الاسم حتى الآن) والسلطان ماش قدام نعشه، حتى طلعوا به إلى الخانقاه التي أنشأها داخل القبة بالصليبة فووري الثرى، وحضر السلطان دفنه.
ولأن الأتابكي شيخوا كان أميرا دينا خيرا كثير البر والصدقات وله إيثار كبير فقد كثر عليه الأسف والحزن من الناس كما يقول إياس.
واتفق يوم موته أن وقعت بالقاهرة زلزلة خفيفة وأمطرت السماء مطرا غزيرا ولم يكن أوان المطر فعجب الناس من ذلك الاتفاق وأنشأ بعض الشعراء شعرا في ذلك ومنهم صلاح الدين الصفدي الذي قال يرثي الأمير شيخوا:
لما أفلت عن المنازل أظلمت .. تلك الديار وغاب عنها المشفق
وتقول مصر لفقد شيخوا شفني .. أرق على أرق ومثلي يأرق