الخامسة علاوي
اللوحة: الفنانة السعودية زهراء البناي
كانت باقة الورد التي أثارت فضوله كلما زار قبر والدته، يحملها بين يديه يقربها من أنفه بكل عناية، يستنشق أريجها المميز جدا ثمّ يردها حيث وجدها، هناك عند الشاهدة، وذات يوم راجع الحارس وطلب منه أن يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يراقب زوار قبر أمه ليعرف له صاحب الباقة، تغيّب أياما عن المقبرة، ثمّ عاد لزياراته المنتظمة لقبر الغالية، وقبل المثول أمام القبر، التقى الحارس، فأخبره أنّ هناك سيدة يبدو عليها الوقار والوجاهة تأتي في كل أسبوع مرة، وفي يدها باقة ورد مميزة بألوانها الزاهية، تجلس الى قبر الوالدة في خشوع، ترفع يديها بالدعاء لروحها، ثمّ تفتح مصحفا صغيرا تقرأ منه للحظات، بعدها تغلقه، وتطلق العنان لحديث طويل مع القبر وهي تنزع عنه ما اعشوشب من نبات وحين تهمُّ بالانصراف، تُخرِج كيسا صغيرا من حقيبتها تضع فيه بقايا الوردات القديمة، وتروي عطش القبر وتنصرف.. وحين سأله عن يوم الزيارة أكّد له أنها لا تتخلف عن التاسعة صباحا من كلّ جمعة، فقرر ألا يتخلف عن موعد زيارتها في الجمعة المقبلة، لكنه لما بلغ المكان وهو يدخل المقبرة مهرولا اصطدم بسيدة كانت في طريق خروجها، مدثرة بالسواد من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، وتغطي عيونها بنظارة شمس سوداء، اعتذر منها دون أن يرفع معها رأسه وراح باتجاه القبر، فلما مثل أمامه سلمّ على الراقدة في مثواها الأخيرة وعلى كل الرقود حولها ثم رفع يديه بالدعاء وعيونه عند الشاهدة شاخصة ليكتشف أن قبر أمه رحمة الله عليها سبقه إليه أحدهم بل سبقته إليه صاحبة الباقة لأن القبر مرتوٍ، وباقة الورد ترقد عند الشاهدة بألوانها المنعشة، جرت يده إليها سائلا روح الغالية: ترى ما سر هذه الورادت أمي؟ بل ما سر هذه السيدة صاحبة الوردات؟ هل هي أخت لك أمي أم أخت لنا وآثرت إخفاءها؟ وبينما هو كذلك يقلب الوردات الجميلات وإذ بالحارس أمامه يخبره أنّ السيدة المقصودة، سيدة السواد قد حضرت هذا الصباح مبكرة على غير العادة وقد جلست طويلا إلى المغفور لها، ولقد رأيتها من بعيد تهمّ بالمغادرة قبل وصولك بلحظات، فانسحب قليلا من أمام القبر قائلا: هل تقصد أنها هي تلك المرأة المتألقة في حزنها، نعم هي، قال الحارس، ألم تلتقيها؟ لا لم التق بأحد عند القبر. فلماذا إذاً رأيتها عند الباب مهرولة وهي تغادر سأل الحارس؟ فرد عليه أحمد: بل وأنا أدخل تعثرت بها عند الباب لماذا عادت يا ترى؟ واستدار يتفقد المكا ن، فرأى كيسا عند شاهد قبر والده، أسرع اليه وفتحه فإذا به باقة الورد القديمة.. حينها قال: لابد أنها نسيت أن تأخذها معها ككل مرة، وربما عادت لتأخذها فلما رأتني جالسا على القبر عادت من حيث أتت..
وهو يفتح الكيس تنبّه إلى أنّ للوردات بعد جفافها ريح مميزة جدا، كأنها مسك وعنبر، عاد وجلس مرة ثانية للقبر وأخذ الباقة الجديدة وراح يقارن بين الرائحتين، وهو يتساءل عن سر هذه الرائحة التي يكتسبها الورد عند بقائه زمنا على القبر، ثمّ ودع موتاه ورحل حاملا معه كيس الورد الجاف والباقة الجميلة وفي رأسه ألف سؤال وسؤال…فلما بلغ البيت، قرر أن يجتمع بإخوانه وأخواته ليعلمهم بأمر سيدة الباقة السحرية..
وفي المساء لما اجتمع الجميع وضع الباقة في إناء كريستالي ومرره بين إخوانه وأخواته طالبا منهم جميعا أن يتحسسوا أريج الوردات وهي منتعشة بالماء، بعدها مرر بينهم كيس الباقة الجافة طالبا منهم أن يقارنوا بين الرائحتين.. تعجب الإخوان جميعهم لأمر الوردات التي كلما ازدادت جفافا زاد عبقها؛ بل تحوّلت رائحتها الى رائحة العنبر بل عنبر بمسك..وعلى قدر تعجبهم كان لكل واحد منهم ربما سؤال واحد في جعبته هو ما سر اهتمام أخينا أحمد بهذه الباقة؟ وقبل أن يتجشم أحدهم مهمة طرح السؤال قال أحمد: لا شك أن كلّ واحد منكم يسأل من أين لي بهذه الورود السحرية لونا وأريجا؟ بل ما سر هذه الباقة بهيئتيها؟
وقف أوسطهم فقال: أتحفنا أحمد بإجابة سريعة، فالفضول ينخر النفس، يلا تكلم رجاءً…
فردّ احمد: هاتان الباقتان وجدتها عند قبر الوالدة رحمة الله عليها، فشخص كل واحد في الآخر يتنظر منه أن يقول أنا صاحب الباقة، وقبل أن يقاطعه أحدهم واصل الحديث: هناك مرأة بعد كل الوقت الذي مرّ على وفاة الوالدة تغمد الله روحها برحمته الواسعة مازالت ترتدي السواد وتزور قبرها وتعنتي به عناية خاصة. قاطعه الجميع منْ هذه المرأة أحمد؟ هل تحدثت إليها؟ هل عرفت سر علاقتها بالوالدة رحمها الله؟ ضحك أوسطهم مقهقها هذه أختنا الجديدة..أهلا بوارث جديد لإخواني..قاطعته أصغر البنات: ما سن المرأة أحمد؟ رد عليها: من سن أوسطنا أو ربما أقل بسنة أو سنتين حسب ما نقله إليّ الحارس. جميل قال الأوسط: محظوظ أنا، لي أخت منك أمي تتوسط بيني وبينك شقيقي أحمد، ثم تراجع مستنكرا حديثه: ولكن كيف؟..
لا شك أنّ في الأمر سرا، ربما أخطأ الحارس في تقدير سنها. فعادةً، المرأة لا يمكن أن تعطي لها سنا لأول وهلة، وأيا كان فهذا من عطاءات أمي لنا، وهدية نحسبها قدرية، فلنتفاءل خيرا، والأيام كفيلة بمنحنا مفتاح هذا اللغز.
وقف أحمد متوسطا الجميع منوها بما سمع من كلام، مخبرهم: لقد رأيتها هذا الصباح وهي تغادر المقبرة بل اصطدمت بها وأنا أدخلها، ولكنني لم أكن أعلم أنها هي حتى أخبرني الحارس فيما بعد، إنها امرأة فارهة، يبدو عليها الوقار والوجاهة والنضج.. قاطعه أوسطهم: وماذا أيضا أحمد؟ هل من مزيد؟ تبسم أحمد وهو ينظر إلى صورة الوالدة رحمها الله التي تتوسط جدار القاعة، هذا كلّ ما يمكنني قوله إخواني وأخواتي، ولكن قبل الرحيل لنقف وقفة ترحم على روح والدينا داعين لهما بالرحمة والسكينة، فوقف الجميع امتثالا لطلبه في خشوع.
وفي صباح اليوم التالي راجع واسطة العقد أحمد وطلب منه أن يتولى هو مهمة الكشف عن سر سيدة الباقة، بعدها قرر أن يراقب القبر من بعيد طيلة الأسبوع.
وفي صبيحة يوم الجمعة خرج قبل الثامنة حاملا باقة من زهر النرجس ووجهته المقبرة، فلما وصل فتح الباب ودخل، كان المكان ساكنا كلّ ركن فيه يحكي قصة حي لفظت به الحياة بعد مد وجزر، وضع الباقة بين القبرين، ثمّ جلس محييا كل واحد باسمه وهو يسأل روح أمّه: ترى ما سر زائرة الجمعة أمي؟ بل ما سر سيدة الباقة التي يتحدث عنها أحمد؟ أمي، استسمح روحك الطاهرة.. لقد جئت اليوم لكشف هذا السر، ثمّ قام وألصق كاميرا صغيرة جدا مجهزة بمسجلة على ظهر الشاهدة الرخامية وربطها بجهاز هاتفه وابتعد عن القبر مختفيا وراء أشجار السرو، فلما كانت التاسعة بالضبط توسط باب المقبرة امرأة متألقة في حزنها، ترتدي شوقها الأبدي، وتحمل بين يديها باقتها المميزة، مشت بين القبور قليلا ثمّ وقفت عند قبر الوالدة فقال المختبئ هناك في نفسه: هذه هي، ودون تردد شغّل الكاميرا عن بعد وراح يترصد حركاتها حركة حركة.. وقبل أن تنبس ببت شفة رمت يدها إلى باقة النرجس وقد كان أريجها قد ملأ المكان، ضمتها إلى صدرها للحظات وهي تتمتم بالتحية، ووضعت مكانها باقتها، بعدها راحت تتحدث إلى روح الفقيدة مستهلة حديثها بقولها: هل تقاسمينني أمي حتى ولعي وحبي الكبير لزهرة النرجس، فاهتز الاخر من هناك للفظها، بل لصوتها الملائكي الذي ردّه وفي لمح البصر إلى مشاهدَ عمرها أكثر من ثلاثين سنة فراح يهذي: آه حبيبتي، كم كنت مشتاقا لسماع صوتك الجميل، فنبراته لم تتغير إنها منقوشة بذاكرتي حتى قبل ولادتي، ورغم ذلك ظلّ محافظا على هدوئه، يبكي من غير بكاء حبه الضائع، شوقه الكبير إليها، حنينه اللامتناهي لحديثها، وفي نفس الوقت مستمتعا بالسمع حتى غطى السمع وظيفة كلّ الحواس،هذه كانت حال المتلصص عند جذع شجرة السرو، أما هي فقد أكملت حديثها لروح الوالدة مؤكدة لها أنّها ما عرفت زهرة النرجس إلا على يد مدللها، ومنذ ذلك الحين اعتبرتها زهرة الحظ في قاموسها، نعم زهرة الحظ هي أمي لأنها جمعتني بمدللك ذات سنة وها هي اليوم تمنحني سرها في ارتباطها الابدي بي وبك غاليتي، فهل تدرين أمي أنني لم أقبل لأريجها بديلا في حياتي إلا أريج ورداتي بعد أن يعيشوا على قبر الغالية زمنا؟ بعدها انحنت كشجرة عصفت بها الكثير من العواصف، ورغم ذلك ظلت صامدة، واثقة وهي تقول لها: أمي جئتك اليوم مودعة فقد قررت الرحيل، إذ لم يعد لي في هذا المكان سند..صحيح أنني لم أقف بين يديك يوما أمي..لكنني كنت أحس دائما بأنني مسنودة بك، ومنك أستمد قوتي.. وإذا اشتقت إليك طيلة هذا العمر كانت عناية الرحمن تمنحني فرصة اللقاء بك في الحلم، أعيش معك فيه أحلى اللحظات، أتدثّر فيها بدفء صدرك الحاني الذي حرموني منه كلّ هذا العمر.
آه يا أمي وأم الروح التي سكنت هذا الجسد وما عنه رحلت كل هاذي السنين، نعم سأرحل هذه المرة إلى أقصى الأقاصي، ربما هناك فقط سأقطع الأمل، ويستقيل القلب من حبٍّ بات إحياؤه مستحيلا…وتأكدي أن ذكراك غاليتي محفورة في ذاكرتي تماما كما حُفرت ذكريات حبِّه على صخور مدينتي التي لا تنام…
كان هذا حديثها للقبر وهي تجلس بمحاذاته، محتضنة باقة النرجس، مسترجعة بها لوعة آخر لحظة لقاء بينهما.. فلما أنهت حديثها الذي ما غفل عن حرف منه، وكلّ كله يبكي، ويردد متحسرا: آه، لوكان صوتك قابلا للعناق حبيبتي. استدارت حملتها مرش الماء وانحنت راكعة تروي تراب الراحلين بمائها المُرَقَى بسورة يس، وآيات الشوق والحنين، تحت نظرات آخر يختلس النظر لتفاصيل جسد رشيق جانبي أهلكه الفراق وأشعل ناره الفقد..تماما كما أشعلت نبرة صوتها التي لم تتغير، وكلماتها المشبعة بأرق وأعذب الأحاسيس لهيب قلب ما ظنّ صاحبه يوما أنه يمكن أن يعيش هذه اللحظة، فتلون حرفه بصمت تدَثَّر لأول مرة بعباءة سعادة وإن خالطها ألمه الدفين، الذي سكن دهرا تجاويف التجاويف، لكنّ تأهبها للمغادرة وهي تستأذن روح الوالدة في اصطحاب باقة النرجس معها، اشعل صهيله فرمى بنفسه من وراء الشجر وأسرع الخطى نحو القبر، فلما استدارت ورفعت رأسها لم تصدق ما رأت، حتى راحت تقول في نفسها: يا لأقداري، بل يا لحظي في جمعتي هذه، باقته ثمّ هو..