السر

السر

د.محمد جابر لطفى

اللوحة: الفنان المصري أحمد الجنايني

سماء زرقاء فسيحة يمر بها موكب من سحب لاتنتهى، تلال من ماء تتحادث فى همسات ندية تنظر فى شوق الى نسمات تتراقص فى خفة تمد أياد من هواء خفي تدغدغ بها تلك السحب التى تهتز فى دلال، وتسقط حبات من لؤلؤ إلى المجهول.. شمس عذراء تخفي نورها الواهن خلف غلاله من غمام رمادى تتثاءب وتنزع شيئا فشيئا أحلام الليل المستكينة.. نهر يتهادى يبعث بالموج كى يقبل شطئان لا ترتوى لها أعين من فيروز، ترنو إلي في صمت مريب، تدفعني لكي أحول بصري إلى الأفق الذهبى لأجد نفس الأعين ترقبنى، السماء، الغيمم الشمس، وكل ماحولي ينظر إلي في ترقب، أكاد أرى أسئلة قديمة تتفجر من حولي، هل أنت حقا ترى مالايجب أن يرى؟ تكومت على ذاتي وعدوت إلى كل مكان أحمل السر الرهيب داخل ثنايا النفس، أهدهده في حنان وكأنه طفل يخشى قدوم أشباح الليل.

أسدلت جفوني حتى أتوارى من تلك الأعين التى لا ترى سواي، حتى تهادى على سمعى من ينادي بصوت خافت، ثم تعالت تلك الأصوات من كل مكان من حولي، ورأيت السحب البيضاء وهى تعدو إلى الأفق البعيد، وحمرة بلون الدم القانى تصبغ السماء الحزينة، حتى الشمس رأيتها تفتح عيناها في دهشة وترقب لتبعث بألسنة من لهيب، وأقبلت أشباح لا لون لها تشبه البشر تصرخ وتعدو بين بيوت تتهاوى.. كرات من حديد تتساقط من المجهول.. برق له ألف لون.. تسمرت عيناي وأنا أرى مايشبه بيتي.. نعم هو بيتي.. الباب الخشبى المتهالك يحترق.. النوافذ تقف وحيدة يملأها دخان أسود.. وها هي بائعة الليمون البدينة وهي تلطم خديها.. رجال الحي ونساؤه وحتى البهائم تتنافس فيما بينها من يلفظ أنفاسه أولا.. 

لم أهتم بكل مايجرى من حولي، وأخذت أجول ببصري نحو ذلك البيت البعيد الذى يقف شامخا منذ القدم، وله أسوار رشيقة تزينها مشربيات لها من خضرة الجنة مايسترها عن أعين الرقباء. كان الجحيم يطل برأسه وقرونه وفحيحه الذى لا ينقطع من كل فتحات ذلك القصر العالى.. رأيتها وهي تنظر إلي فى لهفة ممزوجة برعب لا يوصف.. أشارت إلي كي أمتطي جوادي الناصع وأساله أن يطلق جناحيه.. أمد إليها كل مالدي من أطراف واحملها كي نفر سوية من المكان واللهيب والموت. ثم تداعى كل شئ وتباعدت الشخوص والبيوت وألسنة الجحيم القانية، ولم يتبقى إلا تلك السماء الفيروزية التي لم تعد تحفل بأي من ساكنيها من السحب والنسائم.

لملمت ثيابى على عجل وأخذت أعدو وأعدو حتى جاوزت السوق.. رأيته يمتلأ بصنوف من البشر.. تركتهم خلفي وهم يتكالبون ويتصايحون حتى بدت لي الحارة التى يقبع بها بيتي هادئه مستسلمه لحكم الأقدار.. تلفت في لهفة.. وياللعجب وجدت كل شئ فى مكانه، الدور والناس وحتى بائعه الليمون البدينة لاتزال تلتهم مايقع عليه يداها.. ثم.وجدت نفسي أسعى فى شوق حتى أصل إلى بيتها وأطيل النظر إلى شجيرات اللبلاب التى كنت أحسدها فى قربها من تلك النوافذ الخشبية التى كانت تتسربل فى حياء بأغصان وارفة الظلال.. أفقت من ذلك الحلم النهاري وأخذت طريقي إلى بيتي وأنا أجتر همومي التى كانت ترافقني فى درب حياتي.

كانت الأيام القديمة تقف أمامى وهي حبلى بتلك الرؤى.. كنت من الذين يرون ما لا يجب أن يرى.. طفل صغير ينظر إلى مرآة العمر ويرقب ماسوف تلده الأيام.. لم تفارقني صورة أبي وهو يجثو على ركبتيه أمام لصوص يهيمون في صحراء قاحلة.. أسرعت إلى أمي أقص عليها ما رأيت.. إرتعدت فى سكون ثم إبتسمت فى هدوء طالبة مني أن أنسى تلك الأوهام التى كانت تمزق شراع حياتى.. لم تكن تلك أول أو آخر تلك الرؤى التى تنبع ولا شك من الجحيم.

ومرت السنون وأنا أرى أمي في ركن قصي تندب زوجها الذى ذهب.. حتى رأيتها وهي تقف على شاهد قبر كئيب نقشت عليه الأقدار حروف اسمها العزيز.. وهكذا صرت وحيدا تتجاذبني صيحات وأشباح تسكن الغد.

كانت قافلة الأيام تسير متباطئة رتيبة.. تكاد تقسم أن العمر ليس لديه إلا ثوب واحد لا يرتدى غيره.. الصبح الذي لا يريد أن يفيق والشمس الكسلى.. حتى جاء من ينادي حي على الجهاد فإن الفرنسيس قد غزوا البلاد.. لم ندر ما نفعله جميعا سوى التفرس فى وجه الأيام الخرساء.

كنت أصحو كل صباح وأحلم بألا أحلم.. كنت أخطو في السوق وأجول ببصري هنا وهناك وأرى حكايات قديمة وجديده تسكن ما حولي. ها هو سلامه العطار يخشى من الشياطين التى إستجلبها من خرائب الشر، وها هي بائعة الجبن التي قدمت من ريف الجيزة وهى تسرق الأطفال التائهين فى زحام المولد.. حتى ذلك المملوك الذى يقف فى زهو وهو يرتدى عمامة لها كل الألوان.. أراه وهو يسير مقطوع الرأس.. حدثت نفسي مرارا بأن لها حاضرها الذي لا يجب أن تتجاوزه، وأخبرتني بدورها أن علي الفرار من موكب الهائمين.

كنت أهز رأسي علها تنفض ما علق بها من رؤى لاتعرف لها زمنا.. لكني كنت أرى.. وأرى.. حتى لاأستطيع أن أرى.

أقدام تقترب.. روائح تهب تحمل طيبا فواح.. كانت هي.. وهي دائما.. تأتي كل يوم تحمل طعام أبيها الذى أعمل في دكانه وكذلك كل مايقتات عليه فؤادي.. تلقي إلي بنظرات ليس لها صوت وأنوار بلا رقيب، ثم تذهب لتقف خلف الشباك حتى غروب الشمس.. تسقي كل من يريد.. الزهر والأمل والليل.

ثم أدارت الأيام وجهها البالي وأبانت من عبوس الأقدار مايثقل الأرواح.. اصبحنا لنجد الفرنسيس في كل مكان.. الأسواق والبيوت، حتى مابين الخطا.. كانوا يتنفسون المكان ويحتضنون كل زمان.

ثم جاء ذلك الصباح الذى بدت فيه القاهرة ترتدى ثيابا من أمل.. القاهرة كعروس تجمع كل عشاقها الذين أقسموا بأن العرس قد إقترب.. ثم جاء من ينادي أن هلموا لشرب كؤوس النصر.. رأيت الأسواق تفيض بمن يحلم وبمن لا يريد أن يحلم.. ثم تعالت الصرخات.. نظرت حولي لأجد ذلك البرق وهو يلون السماء باللهيب وتلك الكرات الحديدية التى تنهال على بيوتنا وأسواقنا تأكل منها ماتريد.. ألسنه من نار تصبغ كل ما يتحرك.. كل ما عرفناه وعهدناه كان يتهاوى.. هرعت إلى بيتى لأجده حطاما له لون الليل، وخارجه تقف بائعه الليمون تندب من ذهبوا إلى طريق بلا نهاية.. أسرعت إلى بيتها يحدوني الأمل.. وجدته قد شارك من حوله من البيوت فى الرقص داخل نيران لا تشبع.

كان الموت يسرع ويدعو من يريد.. وجدتها تقف بعيدا تشير هنا وهناك تتوسل فى صمت.. هرعت إليها أناديها.. إلتفتت إليّ وأخذت تحرك يديها فى الفضاء.. تقول أين أنت.. وأين ذهبت الشمس.. لم أدر ساعتها أين أنا.. بل وأين ذهب كل شئ.. نور حياتي.. لم يعد يبصرني.. ضممتها إلى صدري.. ربت على شعرها الذى كان يحترق.. إنتظرت وإنتظرت حتى إختفى كل ما عدانا.. وجدتها تنساب من بين يدي.. أناديها ولا تجيب.. حتى أسلمتها إلى الأرض.. ولم يعد لي ما أناديه.

ثم وجدتنى أذهب كل يوم أنظر إلى السماء الزرقاء الباكية التى طردت كل السحب وأشارت إلى الشمس كى تجلس مستكينه، ترقب مقدم الليل المهيب.. وإنتظر. حتى أراها وهي تتقدم إلي في ثوب العروس تتهادى فى خفة، وتشير إلى أن اللقاء قد إقترب.. ومازلت أنتظر. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.