الطفلة ذات الساقين المختلفتين

الطفلة ذات الساقين المختلفتين

أمل بشير

اللوحة: الفنان المصري رمسيس يونان

سنبقى دوما نبحث عما فقدناه، نحبس أنفسنا في الحزن عليه، نسترجع ذكرياته، نشتمه في كل الروائح، نراه في كل الصور، نسمعه في كل الأصوات، نتوقف عن الحركة، نبقى في تلك اللحظة التي فقدناه فيها، نعتقد أن سعادتنا ضاعت معه وأن بهجة الأيام فقدت معه ولا حياة لنا بعده، وننسى أننا حين نفعل ذلك نحرم أنفسنا بأيدينا من كل فرصة لنكون بخير بدونه، لا شيء يمكن أن يحرمنا أن نعيش إلا أنفسنا. 

يحرمنا ذاك الماضي أن نكون في المستقبل، ويسرق سعادتنا التي سمحنا له بالتسلل ليسرقها، ولا نذكر أننا نسينا أن نسمح للنسيان بحمل ما يؤلمنا لنستطيع المضي قدما بدون أن تشل الذكريات أطرافنا، وأننا مصدر سعادتنا وليس أي شيء أو أي شخص فبإرادتنا نستطيع أن نتغلب على كل الحزن ونتجاوز أي فقد.

وضعت تلك المفكرة جانبا وهي تبتسم، فقد كانت بلا أمل بالغد، اعتقدت لسنوات طوال أن عجزها وفقدها سيبقيا ذلك الحاجز المقام يحول بين قلبها وسعادتها، بين روحها والحياة، اعتقدت أنها لن تعود يوما كما كانت، ظنت أنها النهاية، أنها ماتت ولم تدفن بعد.

مرت خمس سنوات على ذلك الحادث الذي حرمها من أشياء لم تعتقد يوما أنها قد تتخطى وجودها في حياتها أو أنها قد تعود بدونها شخصا ينبض قلبه بحب الحياة ويملؤه الأمل، فقدت قدرتها على المشي والتوازن فما عادت قادرة على الإمساك بكوب ماء، تحول ذلك الجسد الممشوق الذي طالما تباهت به إلى كومة لحم على كرسي متحرك، لم تفكر يوما أن كل فصاحة القول ورزانة السلوك قد تتبدل، وأن صوتها الفاتن قد يصبح مهتزا يتراقص رقص نشاز لا يتبع أي لحن.

حين أفاقت في تلك الغرفة لم يصدق الجميع أنها قد تعود للحياة، قضت في ظلام الغيبوبة أشهرا لم تعلم كيف مرت، وعندما أفاقت ظنت أنها رحلت وعادت أخرى مكانها، لن تنسى فضل الجميع ممن ساندوها، لكنهم رغم كل الجهود لم يستطيعوا انتشالها من بئر الحزن الذي غرقت فيه؛ فلاذت بالصمت خوفا أن تسمع ذلك الصوت الذي كانت واثقة أنه لم يعد صوتها يسكن هذه الرفات التي كانت لامرأة فاتنة الجمال راجحة العقل.

تذكرت تلك الليلة حين قررت أن تنهي حياتها البائسة، طلبت من سهام شقيقتها أن تأخذها للبحر لتشاهد جماله فقد اشتاقت لصوت الموج، طلبت منها أن تدفعها وتقربها من الماء فيلمس الموج أقدامها ويداعب أطرافها وفعلت شقيقتها، عندها طلبت منها أن تتركها وترحل؛ فهي تريد أن تخلو قليلا لنفسها ونفذت سهام بدقة ما طلبته منها.

 نظرت لأمواج البحر المتسابقة للمس قدميها العاجزتين فشعرت ببرودة المياه تهتز تحت تلك الأقدام العاجزة باستسلام، كانت تنتظر أن تبتعد سهام فتلقي بنفسها إلى الماء وبينما هي تستعد لتنتقم لنفسها المفقودة، شعرت بيد تربت على كتفها، وصوت ضعيف كادت أصوات الموج أن تبتلعه.

 التفت لتجد فتاة صغيرة تقف بالقرب منها وتقول كيف حالك يا خالة؟ نظرت إليها باندهاش وحاولت لملمة ذلك الصوت المشتت لتخرج جملة، ردت بصوتها المتقطع على التحية ونظرت لتلك الطفلة بإمعان، كانت في السابعة من العمر، نحيلة الجسد جميلة الوجه بيضاء اللون، تضفر شعرها الأسود الناعم في جديلة طويلة تكاد تصل لنهاية ظهرها، ترتدي بنطالا من القماش وقميصا بأكمام طويلة كانت الطفلة جميلة. سألتها: هل أصبت أنت أيضا بالسرطان؟ صعقت ولم تستطع الرد، تابعت الطفلة حديثها لا تقلقي يا خالة، فقد تحصلين على قدمين اصطناعيتين، فأهم ما يملكه الإنسان هو أن يبقى على قيد الحياة، وربما أراد الله أن يعطيك قدمين تختلفان عن بقية البشر، هل تعلمين أن بإمكانك ارتداء الأحذية الرياضية؟ وكشفت الفتاة عن ساقيها. 

في تلك اللحظة أحست بانقباض يعتصر قلبها وما تبقى من الحياة بداخلها، وبدون أن تشعر بدأت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة، ولم تعد تستطيع النطق بأي حرف..

تلك الفتاة الصغيرة تملك قدمين اصطناعيتين. 

مسحت الصغيرة بكفها الصغير دموعها، واقتربت منها، ثم وضعت رأسها على صدرها وتابعت الحديث بصوتها العذب لا تقلقي ستكونين بخير، لا تخافي فالله موجود لأجلنا، ندعوه فنكون بخير، لن يستطيع أي شيء أن يسرق منا حياتنا.

 كانت الطفلة تتحدث وهي تبكي بحرقة، وأكملت الفتاة حديثها أنت جميلة وأشارت لصدرها هنا يكمن جمالنا الحقيقي لا هنا وأشارت لقدميها، أنا أستطيع أن أكون ما أريد، أنا مميزة، وسأبقى مميزة لأني قوية هزمت المرض وانتصرت عليه، ولن اترك شيئا يحرمني من أن أعيش سعيدة، وأنت كذلك تستطيعين.

سمعت صوتا ينادي من بعيد ياسمين.. ياسمين، نظرت الطفلة للخلف وأشارت لصاحبة الصوت وقبل أن تبتعد قالت أنا أيضا أحب أن أداعب الأمواج بقدمي الجديدين كما كنت أفعل من قبل فاختلاف الأقدام لم يحرمني من متعة أحبها.

 ودعتها وهي تبتسم ومشت بصعوبة حتى وصلت السيدة التي أجلستها على الكرسي المتحرك، وابتعدت بها، وهي تنظر إليها وتلوح حتى غابت عن مدى بصرها.

استعادت نفسها التي خسرتها؛ لتعود أكثر جمالا وتألقا، وها هي اليوم بحروفها ترسم الأمل والتفاؤل وتعيد البسمة والحياة لشبيهاتها، فقد عطرت ياسمين حياتها بعطر الأمل، وبعثت في روحها الحياة من جديد؛ لتكون منارة لسواها، ترشد كل ضال للطريق وتقود السفن لبر الأمان، مواصلة رحلة الحياة بلا حواجز أو عقبات.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.