“العصفورية” لـ”غازي القصيبي” مَسْرواية ساخرة لوطن مأزوم

“العصفورية” لـ”غازي القصيبي” مَسْرواية ساخرة لوطن مأزوم

د. شريف الجيار

اللوحة: الفنان السوري خالد الساعي

   عاش الكاتب السعودي العروبي”غازي القصيبي”، سبعين عامًا(1940- 2010م)، دشن خلالها مشروعًا فكريًا تنويريًا، ومنجزًا إبداعيًا تجريبيًا، غزيرًا ومتنوعًا؛ يحمل جينات التجديد، والصراع مع سلطة الأفكار والقيم المتوارثة، عبر سياقات معرفية، وثقافية، وحضارية متنوعة، وخطابات جمالية منفتحة، على روافد العلم الحديث، والميراث العربي والعالمي، بدوائره المتداخلة؛ حيث خلف “القصيبي”، الرواية، والقصة القصيرة، والقصيدة الشعرية، والترجمة، والمقال الصحفي السياسي والاجتماعي، فضلًا عن مؤلفاته الخاصة بالتنمية والإدارة.

  وقد انعكست هذه الرؤى الليبرالية للقصيبي- بشكل أو بآخر- على إنتاجه؛ منذ فترة الستينيات، حتى وفاته في العقد الأول من الألفية الثالثة /2010م؛ لا سيما عبر دواوينه الشعرية، مثل:”أشعار من جزائر اللؤلؤ، معركة بلا راية، العودة إلى الأماكن القديمة، مرثية فارس، سحيم، البراعم،…وغيرها”، فضلًا عن خطابه السردي، مثل: “شقة الحرية، دنسكو، أبو شلاح البرمائي، سبعة، سلمى، العصفورية (محل الدراسة)…وغيرها”.

وعلى هذا؛ تأتي هذه المقاربة النقدية، لنص “العصفورية”، كنموذج سردي نتكشف – من خلاله- جانبًا من جوانب عالم “القصيبي” الروائي، ونقف على شعرية الخطاب السردي، والسياقات الجمالية لديه.

***

 يطالعنا نص “القصيبي”، بعنوان دال، يجسد عتبة نصية مركزية/العصفورية، ممثلة لسلطة النص، عبر بنية خبرية، تختزل النسيج الجمالي لعالم الرواية، وتحيل المتلقي إلى متخيل سردي، ذي هوية نفسية، تتكيء على بنية حوارية، وسياق تذكري، يجتر ماضيه بالبوح والتفريغ والفضفضة؛ وهو متخيل استلهم عالمه من الواقعي، حيث استعانت “عصفورية” القصيبي، بعوالم “العصفورية” في لبنان، وهي أول مصحة للأمراض النفسية والعقلية في لبنان، شيدتها بعضٌ من الإرساليات الأمريكية، نهاية القرن التاسع عشر (1890م)، فترة الحكم العثماني، وقد توقف العمل بها عام (1972م)، بعد أن أصبحت أكبر مصحة نفسية في الشرق الأوسط، مع مطلع القرن العشرين؛ وهو ما استقر في أذهان اللبنانيين، حتى أطلقوا اسم “العصفورية” على أية مستشفى نفسية في لبنان. 

وفق هذا السياق الدلالي التمهيدي لعتبة النص، يأتي الخطاب الروائي للعصفورية، في نسق حداثي تجريبي، وبنية سردية عَبْر نوعية، تمثل شكلًا من أشكال المَسْرواية، التي تضفر المسرحي بالروائي، وتدخلنا إلى عالمها، بانطلاقة سردية تتجاوز البداية السردية التقليدية، وتقترب من البداية المشهدية المسرحية؛ لذا يُفتتح النص بمدخل/صـ9، يمثل مشهدًا حواريًا افتتاحيًا، يكشف لنا مسرح الأحداث، بطبيعة مكانه، وزمانه، وشخصياته؛ حيث ينادي البروفسور السعودي بشار الغول، النزيل في جناح بمصحة العصفورية، في لبنان، على الممرض شفيق، كي يسأله عن الدكتور سمير ثابت، المعالج النفسي في المصحة. كي يروي له كل شيء، عبر ذاكرة استرجاعية، وسرد بوح، يجتر تفاصيل التجارب التي خاضها البروفسور، والخبرات التي اكتسبها؛ لذا يقول للدكتور:”…أنا لست مريضًا. أنا، يا مولانا، لــم  أجيء هنا للعـلاج. أتيـت للحـديـث. وأنت تتـــقاضى مائـة دولار في الدقيــقة، في الدقيـــقة لا في الساعة يا دكتور، مقابل الإنصات إلي. لا تقل مرة ثانية لا تصريحًا ولا تلميحًا إني مريض هنا”/ الرواية/صـ26.

  ويتخذ نص “القصيبي” من هذه الجلسات الحوارية، إطارًا فنيًا ممتدًا، وتقنية مركزية مهيمنة، على شعرية “العصفورية”، حتى يطرح النص موقفًا تجاه تراجع التجربة العربية، منذ سبعينيات القرن العشرين، راصدًا أسباب إخفاقاتها، مقارنة بالتجربة الأمريكية والأوروبية، مستعينًا في ذلك، بشــعرية البـــوح، وسياق ساخــــر، يمــزج الضحـك بالبــكاء، على حـال واقعــنــا العربي المعيش. فالسارد/ البرفسور السعودي يقدم استقراء لواقعه؛ محتشدًا في ذلك بثقافة موسوعية، في الأدبين: العربي والغربي، وخبرات حياتية وعلمية وعملية، وقدرة على استيعاب المشكلات القومية والوطنية، التي كانت سببًا في معاناة المجتمع العربي، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وفكريًا وعلميًا.

 ويكشف البروفسور، الذي كان وزيرًا في عربستان، أسباب التأخر المؤسسي، في عالمنا العربي، ويحصرها في الروتين والبيروقراطية والرشاوى، لذا يقول للدكتور:”…اعلم، يا دكتور، أن البيروقراطية تقتل خصمها عن أحد طريقين. إما إغراقه في التفاصيل إغراقًا تامًا، وإما حجب التفاصيل عنه كلية…”/ الرواية/ صـ286. 

ويستمر سارد الرواية في كشف المسكوت عنه، في المؤسسات العربية، وما تفشى فيها من سرطان الرشوة، والمحسوبية، مستعينًا في ذلك ببنية ساخرة، تتكيء على الاستطراد كثيرًا، وتمزج الجد بالهزل، مشبعة بروح الجاحظ، صاحب الأسلوب الساخر، من العادات والتقاليد السيئة، التي سادت في عصره، فكان يتخذ أسلوب الفكاهة والمرح في رصدها والتعليق عليها، ونقدها، كما تجلى في كتبه “البخلاء، الحيوان، البيان والتبيين، رسالة التربيع والتدوير…وغيرها”؛ فيقول البروفسور للدكتور:

“-الرشاوى! الرشاوى، قتلتني. الذي يريد توظيف ابن خالته يحضر لي دجاجة رشوة. والذي يريد أن يصبح سفيرًا يحضر لي سجادة رشوة…والذي يريد تعيين جميع أقاربه يحضر لي ثلاجة رشوة. هلكت يا دكتور! امتلأ المخزن الأول بالدجاج. تحول إلى مزرعة دجاج فيها مليون دجاجة وديك واحد. لا بد أن الديك هلك بدوره…” /الرواية/ صـ15.

ويكثف نص القصيبي من نقده للوضع العربي، وهو نقد من أجل التغيير للأفضل، عاقدًا مقارنات بين المجتمعات العربية، وغيرها في أمريكا وأوروبا، لا سيما في العمل المؤسسي وحقوق الإنسان؛ حتى يبرز ما حدث من تراجع للمشروع العربي، منذ سبعينيات القرن المنقضي؛ حيث يسترجع السارد، حلم جيله حينما كان يتعلم في أمريكا، كانوا يحلمون بوطن عربي موحد، يؤمن بحقوق المواطن العربي، في أن يعيش حياة كريمة:

“…كنا، جميعًا، نحلم بولايات عربية متحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية. نريد أن نسافر عبر الأمة العربية فلا يصدنا جمرك ولا يعترض طريقنا مخفر…  كنا نحلم بولايات عربية متحدة وبجيش عربي واحد وبعلم عربي واحد. كنا نحلم بمجتمع يحفظ للإنسان العربي كرامته…”/ الرواية/ صـ53. 

على أن هذا الواقع المؤلم، الذي رصده سارد القصيبي، يشي بأن الوطن العربي أضحى عصفورية كبيرة، مفعمة بالأمراض النفسية، الناتجة عن الضعف السياسي والاجتماعي ، ورغم هذه الحالة نجد نص القصيبي ينتصر لقوميته، وعروبته، مدافعًا عن بقاء هذا الوطن، بشرط أن يأخذ بسبل العلم، والتفكير في الشأن العام، والقضايا الوطنية، لا الشخصية، كما يروى البروفسور”حقيقة الأمر، أني في تلك الفترة كنت مهتمًا بالهدفين القوميين أكثر من اهتمامي بالهدف الشخصي. قررت استخدام الأسلوب العلمي في تحقيق نهضة العرب…”/الرواية/صـصـ157-158. وهو ما يؤكد أن الخروج من الواقع المأزوم، لا يكون إلا بالعلم، وحرية الإرادة؛ حتى نحقق نهضة حقيقية، تقوم على فكر جديد، يمتلك أدوات العلم والمعرفة والتكنولوجيا، وهو ما توفر في جيل السارد، الذي تعلم في أمريكا، وأصبح قادرًا على قيادة سفينة الوطن العربي، “كنت أقول لهم-لأصدقائه العرب- لا تنقص العرب إلا الفرصة. وسوف تتوفر الفرصة عندما نعود نحن ونتولى قيادة السفينة…”/الرواية/صـ55.

ويقف سارد القصيبي، موقفًا موضوعيًا، تجاه الواقع الأمريكي، والثقافة الغربية، مقارنة بثقافتنا العربية العريقة، “تستطيع أن تختصر الحضارة الأمريكية، إذا كان بالإمكان أن تسميها حضارة، في كلمتين: السعادة العنيفة. أو العنف السعيد…”/ الرواية/صـ146. فضلًا عن ذلك، يدافع البروفسور المثقف، عن ثقافته العربية، مقارنه بالثقافة الغربية، التي استوعبها جيدًا، “…اللغة الإنجليزية لم تظهر لغة مستقلة إلا منذ 5 قرون، وأدبنا مليء بالروائع منذ 15 قرنًا، ومع ذلك يزعمون أننا نقلنا كل فن قصصي من الغرب…”/الرواية/صـ32. 

***

 ومن اللافت للنظر -أيضًا- في نص القصيبي، أن سارده المشخص، قد مزج استقراءه لواقعه العربي، ببنية نصية معلوماتية، لا سيما في سرده عن العادات والتقاليد وأساليب الحياة، في الدول التي زارها، وعاش فيها، كأمريكا، وفرنسا، وإنجلترا، واليابان، حتى اقترن النص كثيرًا ، وفي غير موضع، بسياق أدب الرحلات، فها هو السارد يعطي لنا ملامح من حياة اليابانيين: “… موضوعنا أن اليابانيين لا يدعونك إلى منازلهم. ولكن إلى مطاعم فاخرة جدًا. وعريقة جدًا. وطبقية جدًا. وغالية جدًا… كما أن اليابانيين يدعونك إلى محلات الجيشا. وهي تختلف اختلافًا جذريًا عما تراه في الأفلام. المحلات محتشمة وهادئة. والجيشا الحقيقية تختلف عن جيشا الأفلام. الجيشا الحقيقية يندر أن تكون تحت الأربعين ويستحيل أن تكون جميلة. وهي موسوعة بشرية في الأدب والتاريخ والموسيقى والغناء والفلسفة. وترتدي كيمونو لا يمكن أن يقل ثمنه عن 200,000 دولار…”/الرواية/صـ259.

وإلى جانب هذا، نجد سارد القصيبي، يمزج الحقيقي بالفانتازي، في طوايا نصه؛ حيث تزوج البروفسور من زوجتين، أحدهما فضائية تظهر على هيئة فراشة، والأخرى جنية اسمها دفاية، وقد أصبحا حاملًا: “اسمع يا نطاسي! دفاية الآن، حامل. والفراشة حامل. ذات يوم، سيطلع لك من الأرض ابني نصف الجني ويسألك عن تاريخ أبيه. وسيهبط عليك من فوق ابني نصف الفضائي ليعرف أسرار أبيه. وكل شيء الآن في عهدتك. سيسلمك المستشفى كل أفلام الفيديو. كل كلمة قلتها لك مصورة ومسجلة. احذر أن يضيع شيء…”/الرواية/صـصـ301-302.

ولعب هذا السياق الفانتازي، دورًا مهمًا في تمهيد نص القصيبي، المسروائي، نحو نهاية فانتازية، بعنوان (مخرج)، تقترب من النهاية المسرحية؛ حيث ذهب البروفسور مع زوجتيه، الفضائية فراشة، والجنية دفاية، إلى عالمي الفضاء والجن، وكأن السارد يعلن رحيل الجيل الذي يحمل العلم والمعرفة، حتى يحين التغيير، ويأتي الزمن الذي تؤمن فيه عربستان، بعلمائها، فيعودون إليها مرة أخرى، حتى يحققوا نهضتها، وتقدمها، برؤيتهم الجديدة. لذا يبكي الدكتور سمير ثابت، على ضياع البروفسور، بعلمه، وخبراته، وثقافته الموسوعية، “يجلس الدكتور سمير ثابت على أرض الممر منخرطًا في ضحك عميق سرعان ما يتحول إلى بكاء عميق يردد خلاله:

  • ضيعانك، يا بروفسور! والله ضيعانك! ضيعانك!”/الرواية/صـ303.

وهي نهاية مسرحية رامزة، تؤكد هدف نص القصيبي، بأن عالمنا العربي، ينبغي أن يحافظ على علمائه، إذا أراد أن يتقدم ويحقق نهضة حقيقية، وإلا سيرحل هؤلاء العلماء إلى عوالم أخرى، جنية وفضائية مغرية، تمتلك كل جديد، يؤخر أمتنا العربية.  

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.