الطريق

الطريق

مصطفى البلكي

اللوحة: الفنان الأكراني دانييل فولكوف

 دخل من الباب، على وجهه تتراقص أمارات الحزن والخيبة، وفي أذنيه تسكن الهتافات، لم يوجه إلى أمه وإخوته الصغار أي تحية، تجاهلهم واتجه مباشرة إلى الأريكة، ألقى بجسده عليها، وأراح رأسه إلى سياج الشرفة، بعد أن سند بجواره الجراب الفارغ، تنهد، وفكر؛ متى تنفرج المشكلة؟ نظر في وجوه الصغار، وتابع. ربما غدا.. وربما بعد غد.. الذي أفهمه أنه لا بد من حل، ما هو؟ أنا بالذات لا أعرف.

سكت، وشرع في رفع الجراب من مكانه، ثبته أمام عينيه، خصه بنظرة فيها أمل الحلم بالعودة به وهو محشو بما يعين إخوته على الحياة.

 لمحت أمه حيرته وحزنه، فقامت وصرفت الصغار، أدخلتهم غرفة مقابلة، وعادت إليه بوجه جاهدت أن يكون عليه مسحة من الإشراق، اختارت مكاناً قريباً منه، جلست فيه، ومدت يدها، وأمسكت بالجراب، أخذته من يده، وأعادته إلي مكانه، قالت:

ـ غدا سوف تزول الغمة.

تنهد ونظر إليها، وقال مخاطبا نفسه “منذ ثمانية عشر يوما ًونقول نفس الكلام، فلا الغمة ذهبت، ولا من بيده الأمر شعر بنا، فمن أين يأتى الفرج؟!”. 

تابعت هي:

ـ كثيرة هي الأوقات العصيبة التي لحقت بنا، تذكر تحملنا حتي مرت، كانت علينا وعلي الجميع، الكل صبر.

ويسود صمت ثقيل، تعلّق هو بسياج الشرفة، فلمح علي شجرة ملاصقة للسور عصفورين، أعجبه المنظر، فشرد مفكراً:

“آه كم أنا فى حيرة، لا أعرف متى أخرج منها، متى؟ لا أعرف، ربما قريب منى الفرج، وربما بعيد؟”

 يفارق الشباك، ويعود بعينيه إلي فسحاية البيت وتتعلق عيناه بالربابة.                  

تقوم الأم متعللة بإعداد الأكل، تصحبها رغبة أن يغادر ابنها حالة الصمت ويعود كما كان مرحا، وقادرا على اتخاذ قرار المشاركة.

في طريقها تنزع قدرا صغيرا معلقا على العمود، تأخذه وتدخل غرفة جانبية، تقف في المسافة الفاصلة، بينها وبين الردهة، مسافة يدخل منها الضوء، الذي يعين علي الرؤية في تلك الأماكن المغلقة، تنزل بواسطة بضع درجات إلي غرفة الخزين، ترافقها أمنية العثور علي شيء يصلح تكون قد نسيته، يصلح لعمل وجبة، حلم تؤيده تجارب سابقة.

الغرفة مفعمة بالهدوء والوضوح، والأشياء الموجودة بها كما هى فى أماكنها، تناغي عينيها نور الشمس المنسرب من كوة في الحائط. تقترب من السلال، يعلو وجيب قلبها، وتمد يدها مترددة، تقتلها فكرة عدم وجود أي شئ بها، شعورها يصعد لرأسها، فيُضرب بسخونة، تحول بينها وبين الاستمرار، حالة لا ترضى بها، فتجمع قواها وتدفع بيدها فى فتحت أول سلة، لم تجد شيئا، ففارقها بعض الأمل، ثم ما يلبث أن يغادرها نهائيا وهي تخرج يدها من آخر السلال، تفكر. لم يبق إلا نبش الأرض بحثا عن شىء يكون قد تسرب في غفلة منى. تحول يديها إلي معول وتروح بهمة يغلفها إحساس الخيبة بنبش الأرض كما كانت تفعل أفراخها التي ذبحتها واحدة بعد أخرى في الأزمة المستحكمة.. محاولاتها لم تفض إلا إلى خيبة مريرة، وتعب نال منها، فتقرر الخروج، وهي تقول ” لم يبق إلا المطبخ “.

 تفارق الغرفة، تصل إلي الطرقة الفاصلة، ومنها تنحدر عبر ثلاث درجات، وتدخل المطبخ مفتوح السقف، تقف يملأ جسدها عقب الباب، تناغى مكوناته عينيها، أول نظرة تجعلها للمطحنة الحجرية، تغمض عينيها حتى لا ترى خلوها من أثار الحب المطحون، لكن حاجتها، ترغمها علي فض تزاوج الجفون، تفعل، وتتابع النظر متجاوزة هاون الطحن الكبير، تصل إلي الفرن الساكتة، المشتاق جوفها إلي نار تضرب بلاطتها، لتذوب إلي جمر، يلهب قطع الخبز، فتتراقص منتفخة، منظر يراودها، فيغرى العين فتنظر إلي فمها المفتوح، تتصور نفسها جالسة أمامها، وهى في وطيس معركة الخبيز لصنع الخبز المفلطح، والمتبل بالبهارات، مثل السمسم والكزبرة والينسون…

الواقع يعيدها، مجبرة تعود إليه، فلا تجد إلا الخواء، يدفعها إلي الصمت الثقيل، فيتلبسها للحظات، يتحوّل خلالها الخوف إلى وخز، يجعلها تنتفض، وتدمع عيناها، وكادت شهقاتها تخونها، وكحل لما هى فيه، تفضل الخروج، فتكون بمثابة البوق الذى يجعل أهل الدار يغادرون أماكنهم ويأتون إليها، فيقفون علي ضعفها، وهي تكتم دموعها بيدين سدتا محجر العينين، هي في وقفتها، تبدو كمن نزلت عليه مفاجأة شلت حواسه، لحظات وتبدأ في التحكم في نفسها بأخذ النفس القوى القادر علي إخراج كل الجمر الساكن صدرها، فعلت، وأغلقت منفذ الدموع، وألقت بنظرة إلى آنية الفخار المسكونة بالماء، وابتسمت ابتسامة شاهدها ولدها. حينما رأت الصرة المودعة في شق في جدار. تسرع إليها، تجدها، وبهدوء تشرع في فك عقدتها، تجد حفنتين من القمح، كانت قد احتفظت بهما وقت الرخاء من أجل إطعام دجاجة كانت ترغب في تربيتها، من أجل الانتفاع ببيضها..

أشعلت النار، وضعت قدراً صغيرا فوقها، لم تمض دقائق قليلة إلا وكانت رائحة القمح الآخذ في النضوج تملأ البيت الحجرى، وتوقظ شهوة الأكل، وترسم في الأفق صور الشبع المقرون بكسل ينال من أجساد سوف تتمدد في الردهة، تغالب نعاسا يدنو.

هو شم الرائحة والتقط الربابة وضمها إلي صدره، وصعد، الآن يمشى ببطء علي السطح، مستمتعا بهواء العصارى، وبالقرب من الحافة يجلس مقفرصا، واضعا الربابة علي حجر جلبابه، تغريه أوتارها، فيمد أصابعه، بغرض مداعبتها، فتمر مهتزة، لا تنتج إلا صوتا واهنا مزعجا، ينتفض. ماذا جرى؟ يعود مرة أخرى لنفس الفعل، فلا ينال إلا نفس النتيجة، يهز رأسه، ويقول. منذ متى اللحن الجميل يخرج من بين أصابع مهتزة. تصدمه الحقيقة، فيقوم، يوجه ناظريه إلي سطح بيت جارتهم. 

 يشعر بأن المسافة أصبحت ـ منذ بداية تأخر الرواتب ـ بعيدة، هي من وجهة نظره من تسببت في البعاد، لتأكيد ذلك يقترب، ويلقى بعينيه، البيت هناك، بعد بيتين، المسافة قريبة، لكنها بعيدة بداخله، هكذا يشعر، ربما هو ساعد في نمو البعاد، كونه أنصت لما قالته منذ البداية، حينما قالت له:

ـ ابعد نفسك عن موطن القلق.

خاف من زعلها فابتعد عن الحدث، اكتفي بالمشاهدة، لكن من يملك قلبه العاشق، الذى يود التحليق حيث مكان المحب، تلك الخاطرة، تجعله ينتبه، ويتراجع للوراء، والربابة في يده، ساكتة، كأنها نسمة طرية كانت تروح عن نفسه، فلما سكن الهواء، وكفت أوراق الشجر عن الحفيف، رحلت.

 إلى متى سوف تخوننى وأنفاسى؟ سؤال جعله يرفع الربابة، ويداعب أوتارها مرة ثانية، تصر هى وتمنحه نفس الصوت النشاز…

 يركنها متحسرا علي أيام سطوته عليها، ويتذكر كم من المرات، جعلها تفصح، فتثير في الأجساد حمية الرقص، يقرر النزول والخروج، قراره عززته الشمس التى راحت تلم خيوطها لترحل.

في الساحة وصلته الهمهمات التي بدأت تخرج من الحضور والتى سرعان ما وضحت، وملأت المكان، يهم بالتقدم فيلمح خيال حبيبته يقف بينه وبين الجموع، يدعك عينيه، من أجل إبعاد الرؤية، حركة لم تبعد الخيال الذي راح يكبر، لدرجة إنه ما عاد يرى الجموع، هذا الوضع يجعله يلوذ بالصمت ساكنا في مكانه، ينظر إلي خيالها المسيطر، وفي نفس الوقت منصتا إلي الهتافات، لكن رؤيته الرغيف ويد ترفعه، حرك فيه قوة كانت غائبة عنه، فنقل قدمه، وتحرك.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.