عبد الرقيب الوصابي
اللوحة: الفنانة المصرية تحية حليم
في روايتها “الحزن ينبت.. جنوبا” الصادرة عن دار العراب للدراسات والنشر والواقعة في 357 صفحة تتخذ الروائية ميثاق كريم الركابي في روايتها موقفا رافضا ومتمردا على الظلم الذي يقع على كاهل المرأة في المجتمعات الشرقية وتعمل بوعي على مناهضة مظاهر هذا الظلم والاقصاء التعسفي.
تبدأ أحداث الرواية من مشهد تزور فيه “حياة ” بناء الزقورة تتأمل البناء الشامخ بمهابة وقداسة تضع خدها على الجدران وتستعرض عبر المخيلة الحضارة السومرية المتجلية في أبهى حلتها وما أودعته هذه الحضارة في ذمة الزمان من آثار وشواهد للحضارة الحقيقية.. تلك الحضارة التي أولت الإنسان اهتماما بالغا ولم تغفل في _ الآن ذاته _ وجود المرأة بل وصل الاهتمام بها إلى حد تأليهها.
تدور أحداث الرواية في مدينة الناصرية وتعكس الأحداث مقدار التجاهل والإقصاء اللذان نالا من مكانة هذه المدينة الضاربة في جذور الامتداد التاريخي والحضاري هذا التجاهل والإقصاء اللذان يوازيان التجاهل والإقصاء المتعمد للمرأة ف “حياة/ الشخصية” تعكس عبر الأحداث والحوارات القيود الاجتماعية الظالمة التي تحول دون بلوغ المرأة المكانة الطبيعية لها وتحرمها حق المشاركة للتأسيس الحضاري في مجتمع ذكوري تحكم قبضته العقلية العشائرية والعقلية الدينية المتطرفة..
ينفتح الخطاب الروائي في رواية “ينبت الحزن.. جنوبا” على مدارات متعددة تحاول فيها “حياة” الإعلاء من شأو الحب تثبت به وجودها الحقيقي واستقلالية قرارها وتمحو بجرأة الفعل كل اختلالات العقلية الذكورية البائسة التي تحتكر القرار والحياة دونما إقامة اعتبار للمرأة.. هذه العقلية العشائرية/ الدينية التي تجرم الحب وتحرم المرأة من أبسط حقوقها في الحياة، كما تسهم الشخصية/ حياة في الحفر الأنثربولوجي لمدينة الناصرية/ القيمة المغيبة حفرا واعيا يعرفنا بتاريخ المدينة ومآثرها وأيامها وأسواقها والعادات والتقاليد الاجتماعية بلغة توصيفية شيقة توائم بين إقصاء دور المرأة وتغييب مدائن الحضارة، وكأنما تؤكد أن الاقصاء المتعمد يحول دون تحقيق أسباب الحضارة الإنسانية..
فالخطاب الروائي عبر تقنيات المذكرات اليومية والرسائل يناوئ ويرفض كل أشكال التسلط والقمع ويحيل بمؤشرات ذكية الى ما حققته المرأة في الحضارات الإنسانية “السومرية” كما يتعمد الكشف عن الاختلالات والشرخ الذي أصاب البنية الاجتماعية العراقية والعربية على – حد سواء – نتيجة الفهم المغلوط للخطاب الديني.. إذن نحن أمام خطاب روائي واع يحاور القناعات ويسائلها ولا يرتضي السكوت عن قضايا التمييز والتهميش والظلم والهيمنة التي تتعرض لها المرأة باعتبارها نصف المجتمع وكل الحضارة الإنسانية الأصيلة..
تعبر أحداث الرواية عن واقع المرأة/ البائس في المجتمع العراقي أو لنقل المجتمعات العربية بين الحاضر والمستقبل في لغة شاعرية تعمدت نسج حوارات عقلانية جادة لمختلف القضايا المغيبة والهامشية التي تتعلق بوضع المرأة سواء فيما يتعلق بحقوقها السياسية والاجتماعية، أو فيما يخص قضايا الهوية أو فيما يتعلق بمسائل الأخلاق والعلم، والميتافيزيقا، والبيئة، والحضارة.
تحاول “حياة” عبر تحركاتها وحوارتها تعرية الوضع الذكوري السائد القائم على التسلط والقمع وإقصاء الآخر تتأمل _ بدورها _ أوضاع المرأة من حولها ليس هذا فحسب بل نجدها تنتقد بعض السلوكيات النسوية المغلوطة والتصورات الذهنية الخاطئة التي تزيد من معاناة المرأة وتجعلها مستسلمة لكل مظاهر التهميش مؤكدة عبر تقنيات الرواية أن رقي المرأة واستعادة مكانتها في النظام الاجتماعي وفي بناء الحضارة هو الأمل الحقيقي لتجاوز الأزمة التي تعاني منها الحضارة المعاصرة.
تنسجم أحداث الرواية وتنمو شخصياتها باتجاه رؤى فكرية تتبناها الشخصية المحورية والراوي العليم/ حياة وهى رؤى مدافعة عن مصالح النساء وداعية إلى توسيع حقوقهن وإعادة الاعتبار لهن من خلال تعرية الزمن وكشف مظاهر العنف الأسري والمجتمعي تجاه المرأة وإدانته بكتابة مذكرات يومية تحررها حياة ابتداء من 17/ 7/ 2017 م وانتهاء ب 23/ 11/ 2018 م تخاطب “حياة” فيها وعيا – استثنائيا – للرجال باعتباره المخلص في مجتمع ذكوري يفقد هيبته في كل شيء ويتجلى هذا الالتزام في تحرير المذكرات اليومية إيمانا منها بأن الرؤى وخلق الوعي النسوي ليس حكرا على النساء وحدهن كما قد يتبادر إلى الأذهان فضلا عن الهدف منها بل هي مشكلة تعثر حضاري يشترك للمعالجة فيها الرجال مع النساء ولعل “حياة” وجدت في شخصية/ مراد الشخصية الواعية التي تتبنى أطروحاتها ومفاهيمها، وتقف إلى جوارها وتساندها في بحثها الدائم عن ذاتها في وسط ذكوري عشائري ديني متطرف، يؤمن بواحدية الموقف والرؤيا فتختاره للمراسلة وكتابة المذكرات، نجده يطل مخلصا في خطاب أولى مذكراتها المؤرخة ب 11/ 7/ 2017 م..
مرادي..
اليوم أنا عصبية المزاج لذا قررت أن أكتب إليك كل انكساراتي، عقول شـيطانية وباسـم الـدين تقـود هـذا المجتمـع/ القطيـع ولا ينبعث منها إلا أصوات الظلم والجوع والموت وما من مصابيح تنير عتمة الفكر.. ما عادت تلك البيوت تغفـو علـى ضفاف الأمان، كل شيء بكى على هذا الوطن المنكود، كل شيء سـال منه الضجر.. سال منه الدم.
حتى بقايا النخيل أصابها ذهول الحرب، ما يزيد رعشة الصمت هـو ذاك السؤال الذي طالما كان عاقراً.. طالما بقي في حيرة وهو يتسـلل إلى شفة البوح..
متى تنمو المدن بالحرية..؟
متى تثمر المجتمعات بحقوق النساء..؟
وهذا ما يؤكد أن خطاب الرواية يرفض مركزية العقل الذكوري ولا يتوافق مع التفسير الذكوري الواحد والوحيد المطروح للحضارة ويسعى بوعي إلى تغيير المواقف من المرأة كامرأة خلقت لخدمة الرجل وايضاح ما تتعرض له النساء من إجحاف كمواطنات على المستويات القانونية والحقوقية في العمل والعلم والتشارك في السلطة السياسية والمدنية.
يهدف خطاب الرواية “ينبت الحزن… جنوبا” إلى إعادة الاعتبار لجملة من المبادئ والقيم التي تم اقصاؤها ونبذها ومنحها صفة الدونية أو تهميشها من قبل النسق الذكوري المهيمن وهوما يدفع ” حياة ” لكسر قيود المهانة بجرأة تتمثل في هروبها من الناصرية/ الهامش باتجاه المركز/ بغداد طلبا للنجاة والسلامة من العنف الأسري وبحثا عن فرصة عمل تمكنها من اكتشاف ذاتها والانفتاح على الآخر ومتطلبات العصر وهناك تكتشف زيف مراد وتخليه عنها ببساطة لتنعم بعدئذ بدفء العيش مع صديقتها عواطف والحصول على فرصة عمل تمنحها الاستقرار واستقلالية الموقف والوجود.
تنتقل “حياة” بعد ذلك للعيش في بيت السيدة/ مريم وتعود بشريط ذكرياتها إلى ليالي الناصرية ثم بعد ذلك تتعرف على ابن العائلة الدكتور/ أمان العائد من أمريكا في زيارة _ مؤقتة _ للأهل في بغداد.. ويجب التنويه هنا أن للاسم “أمان” وكذلك “حياة” الدلالة السيميائية التي لا ينبغي القفز عليها فالأمان هو كل ما تنشده الأنثى لتستقيم لها الحياة.
يقترب “أمان” من “حياة” يتعرفان على بعض وينجذب كل منهما نحو الآخر لينعما – أخيرا – بدفء الحب وتكتشف “حياة” في أحاديثه وحوارته معها حبه الحقيقي للحضارة السومرية وهوما يدفعها للتعلق به أكثر يتشاركان حب “سومر” ثم يتواعدان على الزواج بعد عودته – ثانية – من أمريكا لكنها تكتشف بعد فترة من تأخره عن محادتثها تعرضه للإصابة بالسرطان وهنا تتجلى “العقدة الروائية” لكن “حياة” تأبى التخلي عنه وتبادر للقيام بواجبها في رفع معنوياته.
هاهنا خطاب روائي واع يحفر وينقب في أصول الفكر الإقصائي ويفضحه، وهو خطاب يؤكد على ضرورة الاختلاف، والتعدد، والاحتفاء بالتعدد والاختلاف وينبذ في – التوقيت ذاته – الإقصاء التعسفي للآخر المختلف سواء من حيث اللون أو الجنس أو العرق أو.. هو ما أدى إلى خلل واعتوار أصاب الحضارة وأمرض الإنسان والهدف الذي يضعه خطاب الرواية لنفسه هو أن يعيد التوازن للعالم.