الماعز الراقص في حضرة القهوة

الماعز الراقص في حضرة القهوة

جولييت المصري

اللوحة: الفنان الإسباني فرانثيسكو غويا

بمناسبة اليوم العالمي للقهوة الذي يصادف 1 أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام

كم أنت ظالم أيها الإنسان! وحشي وناكر للجميل، دائما لا ترد الفضل لأصحابه، تقتات على جهود غيرك واكتشافاتهم، ولا يحظى صاحب التجربة الأولى أبدا باهتمامك.

تدعي أنك صاحب العقل المفكر المبتكر؟ هاها.. يا للعجب! كم أنت مغرور متكبر تتجبر بقوتك، وتعيش عالة على الأرض ومخلوقاتها دون شكر أو عرفان، بل تسعى لخرابها وإبادتها بجهلك واستغلالك، ولا تحسب أبدا أين ستحط بك رحالك إن أفنيتنا جميعا، نحن كائنات الأرض الحية التي تعرف أهمية التواصل والتكافل والتعايش بين بعضنا بعضا.

من كان يدري عنك أو عن وجودك لولانا؟ من كان سيلتفت إلى اكتشافاتك لو لم نسبقك إليها لترى آثارها علينا، أو تدرس أسباب تجنبنا لها فتأخذ حذرك أو تقدم إليها، ثم تدعي أنها اكتشافك وحدك من دوننا؟

كم اتخذت منا مساجين تجرب عليهم خزعبلاتك ولا تهتم أنحيا أم نموت؟ لقد أسرفت في غيك وجبروتك حتى اتخذت من بني جنسك عبيدا تستبيحهم ولا يردعك شيء عن إجراء تجاربك عليهم، كم نشفق عليك أيها المغرور، فقد امتدت يد إبادتك حتى إلى ذاتك وفصيلتك التي ستقضي عليها قريبا بظلمك واستغلالك، ولن يظل على ظهر الكوكب إلا المحبون المتكافلون ليصنعوا حياة جديدة تسع الجميع.

تسألني من أنا؟ لك الحق، فالبعد التاريخي ينسيك، وصلفك يغريك، وكبرك يغنيك، آن أن أهز ذاكرتك قليلا، أنظر إلي مليا، ألا تحسن التفرقة بيني وبين رفيقاتي؟ نعم، فقد أعماك جهلك عن الحقيقة.. فليكن، ولنمنح ذاكرتك بعض الإنعاش.

 سنأخذك إلى رحلة ترقص فيها على موسيقى الراوئح المنبعثة من الأكواخ هناك، في القرى النائية من ربوعي التي نشأت فيها، أنا قائدة الماعز الراقص، في منطقة “كافا”، حيث المرتفعات في الجنوب، هناك طقوس خاصة لتناول المشروب الذي استخلصته من ثمرة شهيرة لأعظم شجرة سقناك إليها أيها الراعي المستبد.

أتذكر أول مرة أكلنا من ذلك الكرز الغريب المتدلي من أقدم شجرة في غابة مانكيرا؟ أتذكر لم أطلق علينا الماعز الراقص؟ أتذكر يا “كالدي” ذلك اليوم الذي انطلقنا فيه بين أشجار الغابات، غابات كافا المطيرة وارفة الظلال؟ كان يتدلى منها كرز مختلف الألوان، فأغرانا على التهامه، صرنا بعدها نقفز ونرقص ونتسلق المرتفعات بحيوية ونشاط، ونصطف كراقصات الإسكيستا(١) على نغمات الموسيقا الأمهرية، ولما عرفت الثمار التي أكلنا منها، اطمأننت أنها غير سامة فجربتها بنفسك، وسرعان ما انضممت إلينا في رقصنا الأرعن، وأنت ترفع عقيرتك بالغناء بلغتك المحببة إلينا “الكافي نونو”(٢)، والتي نسمعك تغني بها وأنت تعزف لنا على نغمات القصب الشجي، من يومها، أطلق علينا الماعز الراقص.

لقد اعجبتك التجربة يا “كالدي”، فانطلقت إلى عمك الراهب مسرورا تكاد تطير فرحا بهذا الاكتشاف الجديد، فجمع زملاءه من الرهبان ليروا في الأمر رأيهم، لكنهم خافوا، ونسبوها وفعلها للشيطان، لذلك ألقوا ما جمعت من الثمار في النار خوفا من الأرواح الشريرة، وعندما تسللت رائحة القهوة المحمصة إلى أنوفهم انتابهم نفس الشعور الذي انتابنا جميعا، فتراجعوا عن رأيهم بعدما تصوروا مدى الحماس الذي ستضفيه هذه الحبوب ذات الطاقة الجديدة على الطقوس الدينية، فأصبحالمتصوفون والرهبان وطلاب العلم، الأكثر شرباً للقهوة.

وسرعان ما انتقلت تلك الحبوب التي اكتشفناها قبلكم إلى كل بقاع العالم، وأصبح لشربها طقوسًا خاصة، ولأنواعها مسميات، فبسبب قربكم من اليمن انتقلت القهوة معكم إليها، ومنها وصلت لبلاد الشام وبلاد الترك الذين على أيديهم سافر المشروب السحري إلى فرنسا وانجلترا وفيتنام وصار جزءا من حياة الكتاب والفنانين، كما أصبح للقهوة في مدينة البندقية الإيطالية مزاج خاص، وفي البرازيل أصبح لها موطن جديد، وتنقلت تباعا من مشارق الأرض إلى مغاربها، وتعددت طقوسها ومسمياتها عبر قرون من الزمان نسيتمونا فيها.

نعم، استأثرتم بها، ونسيتمونا، تركتمونا نغيب في النسيان، وأهملتم بيئتنا، والمراعي التي طالما أدرت عليكم الربح والشهرة، مراعي غابة مانكيرا التي باتت معرضة للانقراض والجفاف، فأي بشر أنتم أيها الجاحدون؟.


(١) رقصة إثيوبية تقليدية يقوم بها كل من الرجال والنساء، وتركز الرقصة على دحرجة شفرات الكتف، وارتداد الكتفين، والتقلص في الصدر، وتعتبر واحدة من أشكال الرقص التقليدية الأكثر تعقيدا في إثيوبيا بسبب طبيعتها التقنية.

(٢) وهي اللغة المحلية لمنطقة كافا.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.