مقاربة نقدية في المجموعة الشعرية “طوارف” لأحمد عباس

مقاربة نقدية في المجموعة الشعرية “طوارف” لأحمد عباس

عبدالرقيب الوصابي

اللوحة: الفنان المغربي حصاري معطي 

الشعر لا يطلب الثقة من النقد: ثم أن الكلمة تثير سؤالا آخر هل الشعر يطلب الثقة من النقد أم العكس؟ وحسب رأي الكلمة فإن التجمع الشعري يطلب الثقة من النقاد أو من النقد لكن أين هو النقد الذي يطلب الشعر منه الثقة ثم إن الشعر كينونة وتاريخا هو دائما قبل النقد وكم من شعر لم تعط له الثقة من النقد ولكنه استمر وعاش في حين لم يستمر ولم يعش النقد.. ثم إن النقد في مفهومه الأصيل هو خلق آخر للعمل الأدبي ومن الضروري أن يواكب الشعر فالشعر يزدهر بالنقد والنقد يزدهر بالشعر فإذا كانت الثقة أساسية فإنها ثقة متبادلة إنما القضية في بلادنا أن هناك حركة شعرية تشق الطريق وإن كانت تتعثر بين الحين والآخر في حين ليست هناك حركة نقدية في المستوى نفسه ففي الوقت الذي يمكن أن نشير من الآن إلى شعراء لا يقلون في المستوى عن شعراء في الدول العربية المجاورة لكننا لا نستطيع أن نشير إلى ناقد ما ولكن رغم ذلك فإن هؤلاء النقاد على قلتهم قد يتوهمون أن الشعر يطلب منهم الثقة. إن الشعر لا يطلب الثقة من الناقد الذي قد يكتب لمجرد الكتابة ثم بلا منهجية أحيانا معينة.

ولست أزعم أني في مقاربتي هذه أن أمنح الشاعر / أحمد عباس ثقة ما يحتاجها فهو من قبل كتابة هذه السطور شاعر موهوب ومبدع إنسان وسيبقى كذلك بعد التثاقف معه عبر قصائد مجموعته الشعرية ” طوارف ” الصادرة عن مؤسسة أروقة للطباعة والنشر.. ولست أنكر في هذا السياق أن الشاعر قد حقق قفزة نوعية إلى _ حد ما _ عما كان عليه حال خطابه ووعيه الشعري في مجموعته الشعرية الأولى ” ضمدت جرحك ” وبالمناسبة فالشاعر / أحمد عباس شاعر يملك ثقافة متعددة وواسعة في مجالات شتى وقارئ نهم ومحاور ذكي هضم مدونة التراث جيدا ولم يتخذ موقفا قطعيا من الحداثة وإن كان يقف منها حذرا  متخذا مسافة تمنكه من أختبار جدوى هذه الأفكار والمشاريع الوافدة كما تتجلى محاولاته التجريبية في متن هذه المجموعة الشعري وإن كان تمضهرها يبدو  _ على استحياء – قد لا يتوافق مع اتساع قراءاته و ثقافته المتنوعة والمأمول منه في التوقيت ذاته.

ولعل معرفة أخلاق الشاعر وطباعه تسهم إسهاما كبيرا في كشف حقيقة العوامل التي تتدافع وتتوالد وراء ما يسفر وينجلي في معان واضحة في القصائد فالطبع هو الذي يؤدي إلى تنازع الشاعر مع المؤثرات الخارجية وهو ما يدفعه لا تخاذ موقف شعري معين يقول الشاعر في قصيدة “الأمل المكبوت“:

         أيكتوي اليأس من صبري ومن جلدي

                           وتطفئ اللهب المصفر مأساتي

             خلف المخاوف أخفي كل أمنية

                          أقلها…. أن لي سحري وآياتي

     سنبت الأمل المكبوت في جسدي

                        ويرتوي الحلم من ألحان آهاتي.  

إن تحقيق ما يشخص فيه من ميول ونوازع يولد في النفس غبطة الانتصار كما أن تعذر ميوله ورغباته يذكي في النفس الشعور بالبؤس والاسوداد ويوري فيها ذلك التوتر الحي الذي تتولد منه الرؤى والصور الشعرية.. يقول الشاعر في قصيدة “ضروع الذئاب

             ألا ليت لي ألف قلب قنوع

                        أوزعها خلف هذي الضلوع

             أواسي بها دمعة أحجمت

                     عن البوح مثل جميع الدموع

              وأهدي لها من دمي نفحة

                        تخلصها من أنين الخضوع

إن الطبع هو الذي يواجه الحقائق الإنسانية العامة اللامبالية ويحولها إلى جذوة ومعاناة في النفس كما أفصحت الأبيات السابقة..

وفي أحيان كثيرة يشتد الترابط بين السيرة والطبع بحيث يؤثر أحدهما على الآخر ويتفاعلان تفاعلا حميما فما قد يصيب المرء يقع في النفس وفقا لطبعها وميولها يسعدها أو يتعسها ترضى به أو ترفضه تسيغه أو تتنازع معه وهنا يسجل الشاعر موقفا شعريا يؤكد. فيه عدم التفريط بمبادئه والقيم تربى عليها يقول الشاعر في قصيدة بعنوان “موقف “..

         لا زلت أحيا بعصر مر من زمن

                   ولم يصبني من الأضواء أي سنا

        والعيب في وما للناس من سبب

                     فقد تأخرت…. لكني بقيت أنا

فالسيرة والنفسية هما قطبا الحتمية.. السيرة تمثل الحتمية الخارجية والنفسية أو الطبع يمثل الحتمية الداخلية.. ومن تفاعلهما تتولد التجربة الشعرية القلقة التي هي مادة الشعر الأولى.. فهذا النزاع بين حتمية النفس وحتمية الحياة والقدر والمصير يفجر ينابيع النفس عند الشاعر وسنجتزئ شواهد شعرية من قصائد المجموعة لكي تظهر طبيعة العلاقة بين السيرة والنفسية والصراع المحتد في ثنايا هذه التجربة الشعرية.. يقول الشاعر في قصيدة بعنوان “موقف

             إذا استمعت لعقلي لا أرى أملا

                           وإن رأيت بقلبي لا أرى حزنا

              لكنني لن أري التاريخ سطوته

                         ولن أقول لشيء سيء “حسنا ” 

ويقول في قصيدة أخرى مؤكدا هذا القلق والتوتر: _ 

             قلبي يفيض ومنطقي يحتار

                         يا ويلتي عبثت بي الأشعار

              نفسي تحرضني وأخرى لم تزل

                            ولسان حالي صامت ثرثار

ويقيني أن هذا التوتر الداخلي هو الذي كان يفيض في نفس الشاعر بتلك الصور الشاحبة المكدودة ويذكي في وجدانه التجربة الشعرية، فالشاعر ما انفك يتنازع بقاءه صفر اليدين نازحا من بلدة إلى أخرى متجالدا على قدميه شاعرا أن الزمن يضطهده وأن الناس يمالئون القدر في اضطهاده يقول الشاعر في قصيدته “تاجر الرصيف

             أعاني….  ولكنني أفخر

                     وهذي المنى في يدي جوهر

             أروح وأغدو… “كعصفورة

                            وأجتاز بالصبر ما ينذر

 ولعل احتياجات الحياة هي ما كان يشده _ دائما _ من عالم الطموح والمثل إلى عالم الكسب والمعيشة إذ تروج تجارة الكذب والنفاق فتتولد اللحظة الشعرية من احتكاك النفس ومدها وجزرها بين راحة اليقين والشعور بالضياع والاختلال عندما تقف الذات الشاعرة أمام الواقع منعمة بالتحديق فيه.

يقول الشاعر في قصيدته “مهزلة الدنيا

            وأرى وطني أجمل وطن

                      والكل يرى وطني عابس

                ماذا؟ لص يسرق قوتي

                          ويقال له نعم الحارس

              و ” أبو جهل” يفزع ابني

                          وبمصحفه ألفي فارس

حتى يصل آخر القصيدة مؤكدا إصراره في مفارقة عجيبة يكسر معها التوقع فيقول:

               شمس الدنيا ستظللني

                               ويدفئني برد قارس

ولعل وضوح الموقف الشعري يتعزز من مبدأ الحرية على الفعل الذاتي النابع من يقين النفس ومن العصيان والتمرد على المسلمات التي يقتفي عليها المجتمع وعلى القيم المادية المظلمة التي توهم الإنسان بأنها تسعده وتنقذه فإذا هي تتعسه وتهلكه الانتصار على المادة والثراء وتخير الفقر بالإرادة والفعل الروحي هي بدء طريق الحرية ومتى قامت مملكة الروح بالإرادة والاختيار والتخلي عن غواية المادة عندئذ تتم بنود الحرية وتستوفي شروطها ولقد أستعان الشاعر في سبيل تحقيق ذلك بالتشكيك في القناعات. وهز المسلمات وإثارة الأسئلة..

يقول الشاعر في قصيدة “سؤال 

           هل العيش في كنف الأقدمين

                           سيسمح للعقل أن يرتقي

          وهل للحضارات من موقع

                              إذا أمها جاهل أو شقي

            شببت عن الطوق يا أمة

                           تخيط بأسمالها منطقي

فالحرية هي فعل تقدم وتحقيق لإنسانية الإنسان وسعادته إنها تفد من الداخل من فعل الحرية وتتكامل في الطبيعة والعودة إلى حياة الروح..

يقول الشاعر في قصيدة “عدم “:

               تصبرت أحيانا وفلسفت تارة

                       وقد عشتها حرا وإن كنت مجبرا

            فيا كل هذا الحب والقبح والأنا

                          أما من جنون غير هذا الذي أرى

يرنو الشاعر إلى واقع بلده فيرى الناس مستعبدين بالسياسة ولكنهم مستعبدون من أنفسهم بالتقاليد والعادات التي تبلى وتفنى وتقيم في الشعب كالجثث التي تطلب من يدفنها.

يقول الشاعر في قصيدة “جوقة اليوم“:

           فهذه الألسن العمياء في وطني

                     بنت من القبح مجدا فاستوى لهبا

         واستبدلوا صوت أيوب بجوقتهم

                     فأجهش المهيد المغدور وانتحبا

إن الظالم لا يولد من ذاته بل إنه يولد من رحم الشعب الخانع القاعد عن الكفاح والمتلهي بالطاعة العمياء لذوي البطش.. يقول الشاعر في قصيدة “رسالة إلى فلان“:

            تصعلكت يا ذاك رغم الغنى

                            وصرت تحبذ هدم البنا

إلى أن يبلغ قوله:

                  وأرغمتنا كي نرى ما نرى

                              فلا نعرف اليوم من أمسنا

                  وألبستنا يا أخي ” حلة ” 

                               أذقنا بها بعضنا بأسنا

                 ولكننا الآن في محنة

                                 فدعنا نحقق أحلامنا

كانت الحرية ووضوح الموقف الصادر عنها منذ البدء فعل وجود وتحقيق ذات بوجه الظلم والطغاة وسائر مبتزي كفاح الإنسان وكرامته وتجربة الحرية تتعصف وتخطف وتقصف في شعر الشاعر / أحمد عباس فنجده يطل من خلال قصائده ثائرا متمردا رافضا وينتهي مسالما حكيما..

يقول الشاعر:

         وإذا الهموم تسيدت قلب شاعر

                       جعلته في عز الفصاحة يلحن

          ويقدم القربان من أشلائه

                         ويموت أحيانا وحينا يحزن

ويتجلى موقف الشاعر أزيد من خلال قصائد المجموعة عبر احتماء الشاعر بالحب إذ نرى الحب يتجلى كوسيلة تحقيق للسعادة وإكمال نقص للنفس والعثور على العزاء من وحشة العالم وكمعادل موضوعي تحضر المرأة وتحيط بفضاءات القصائد أقصد المرأة الملاك يقول الشاعر في قصيدة “ملهمة

           يا وردة ألهمتني كل أمنية

                       وحبها عن جميع الناس يغنيني

         تركت أفياء إحساسي تظللها

                        وظلها في ثنايا الناس يرويني

         وعطرها صار إكسيرا أعيش به

                  فأصبحت في ذرى نفسي وتكويني

والمقصود ب _ المرأة الملاك _ هي تلك التي تكمل الذات وتنشر ألوية التفاؤل والعزاء.. المرأة الملاك تتمثل في شعر أحمد عباس بنوع من الفرح الذي يعيده إلى مثل الفردوس المفقود وكأنه عاد إلى أصله القديم وعثر على حريته وكأن كل شيء قد تحرر وفقد ثقله الترابي والمادي وبذلك تغدو المرأة وكأنها رمز للكمال القديم المستحدث فيها آيات الطبيعة وتآلفت وتضافرت يقول الشاعر في قصيدة بعنوان ” بلابل وحمام“:

            بحبي للحياة حفظت نفسا

                         يحاصرها التمترس والخصام

حتى يبلغ قوله:

              وأعلم أنني بالحب أحيا

                      وأعشق كلما شب الضرام

              قتيل الحب يبقى كل دهر

                         ويزرع في ثناياه الغرام  

والمرأة الملاك لا تنال بنوال يبرح الوجد إليها بل نلمحها مقيمة ونازحة مع الشاعر كأنها لصيقة النفس تتشكل من الحنين والألم والغربة وكأنها المثال الذي يتراءى في سراب طموحاته على الواقع ومن هنا صحب الشاعر الألم الدامي والسويداء والتغرب ونوع من الالتياع الأصم يقول الشاعر من قصيدة بعنوان ” مدار وهوى“:

         بظل رموشها قلبي سحين

                         وبأسي في هواها يستكين

       ومشيتها _ تموسق _ ناظري

                            ويغمرني بهيبتها الجبين

       هي الدنيا وما الدنيا عداها

                            سوى عدم يبدده الأنين

      بضحكتها أضاحك كل شيء

                          ويزهر في تبسمها اللحين

وحضور _ المرأة / الملاك _ على هذا المستوى في قصائد الشاعر وبهذه الفاعلية والتأثير يدفعنا للقول بإن المرأة أصبحت حافزا للحرية وتبني الموقف المناهض والرافض الموقف الشجاع الذي يعيد ترتيب العالم يقول الشاعر في قصيدة له بعنوان “شك“:

             على الإطلاق كلا لا أخاف

                            ولا هد القوى هذا الكفاف

            أيمكن أن أكون غريق قومي

                            وقد شهدت بقوتي الضفاف

            أنا _ بالشعر _ أصنع معجزات

                              ويغري أحرفي ذاك العفاف.

جميل أن يكون للشاعر موقف شعري خاص والأجمل من ذلك أن يكون موقفه هذا صادرا عن رؤية شعرية واعية نشدانا للحلم بالحرية وسعيا إلى تمثلها وتحقيقها في المتن الشعري  إلى الحد الذي يتماهى فيه الذات الشاعرة فتمتزج بآلام الإنسانية واحتياجاتها فنراها تعبر من خلال قصائد المجموعة عنها متبنية مواقفها في الحياة طلبا للعدالة والمساواة ولكن حتى يتحقق للشاعر ذلك على مستوى أوسع وبوقت قياسي فإنه يستوجب على الشاعر بذل قصارى جهده في تنويع أساليب بناء القصيدة والإعلاء من دور التجريب الشعري والعمل على تجاوز أوزان البحور الصافية والغنائية بما من شأنه تعضيد القصيدة بالعديد من التقنيات المعاصرة كالحوار وتعدد الأصوات وحضور النصوص الغائبة والاقدام بوعي شعري شجاع على تعزيز روافد بناء القصيدة المتجاوز للمستويات الأولى للتصوير الفني المتمثلة ب ” بالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز  ” وصولا إلى توظيف الرموز والأقنعة والأساطير والملامح الشعبية والاعتناء أكثر بالموضوع الشعري رؤية وتشكيلا وهذا ما نأمل تحقيقه في المجموعات الشعرية اللاحقة  للشاعر المثقف / أحمد عباس.

ويكفي من الإفصاح ما يدهش العصافير..

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.