شروق

شروق

حسام أبو العلا

اللوحة: الفنان المصري أحمد الجنايني

أعشق المذياع ولا يغمض لي جفن قبل سماع أحد روائع صوت الشجن نجاة أو صوت الحب عبد الحليم حافظ، وفي ليلة شتوية ممطرة كنت احتسي قدحا من الشاي بينما كان العندليب يشدو بمقطع «وداع يا دنيا الهنا» في رائعة «في يوم في شهر في سنة».. فجأة نطق لساني: يا الله أليست هذه الأغنية التي كانت تعشقها «شروق»؟ نعم هي، كانت تدندن بها وكنت ألومها على اختيار كلمات حزينة في لحظات السعادة التي نقضيها معا وترفرف حولنا مشاعر الحب، لكنها كانت تلمح دائما إلى أن «السعادة قصيرة والحزن هو الذي يدوم».. لم أفهم وأدرك حينها ماذا كانت تعني بهذه العبارة لكني أدركت معناها فيما بعد. 

 تسللت يدي المرتجفة لأحد أدراج مكتبي والتقطت أوراق أصفر لونها بفعل الأيام.. نفضت عنها الغبار.. تهدَّجَ صَوْتُي وأنا أقرأها.. كانت وصية «شروق».. ظل قلبي يعاتبني: كيف كانت منسية بين أوراقي المطوية؟ لكنها في الحقيقة أبدا لم تكن منسية وتزاحم تفاصيل أيامي.. طالما حاولت أغمض عيناي لأهرب منها في الليالي لكنها كانت تطاردني في أحلامي.

في هذه اللحظة كنت اقترب بلهفة نحو الأوراق ثم أبعد نظراتي.. أوصالي ترتعد خوفا.. ترى هل من هول الكلام.. أم من قسوة ما بها من آلام؟ بعد فترة من التأمل بصمت واسترجاع ذكريات الماضي.. تمالكت نفسي رويدا رويدا.. وبدأت أقلب أوراق الوصية.. 

كتبت «شروق» في خطابها الأخير قبل أن أحزم حقائبي وأغادر إلى الخارج: «وحدك احتوى أحساسي وفجر دموعي من فرط سعادتي بحبه ثم أسقطني في بئر الأحزان بمرارة هجره، عشت العمر أناجي طيفك الجميل، كنت الدواء لقلبي العليل، والأنيس والجليس لوحدتي، والنور لعتمة ظلمتي، كنت أجمل وأرق الأماني.. سيظل حبك في حنايا قلبي حتى النفس الأخير وإن لم تكن نصيبي ستظل للأبد حبيبي». 

لم اتخيل حياتي يوما بدون «شروق» التي استمرت قصة حبنا أعوام وحال دون ارتباطنا ظروفي السيئة إذ كان ما اتحصل عليه من عملي لا يكفي مصاريف علاج أبي المريض قبل أن يختار الله إلى جواره ويتركني وحيدا، حينها بحثت عن فرصة للعمل بالخارج تنتشلني من هذا الإحباط في العمل والحياة، وعندما جاءت الفرصة كانت أمام خيارين أحلاهما مر، إما رفض السفر والبقاء في عمل اتقاضى منه جنيهات قليلة لا توفر حياة كريمة، أو ترك «شروق» التي اختارت أن تبقي بجوار أمها المريضة وحاولت إقناعي بعدم السفر وبأنها تقبل أن تبدأ معي حياة بسيطة.

دهست قلبي وسافرت وانقعطت كافة سبل التواصل مع «شروق» وفي إحدى إجازاتي حاولت معرفة أخبارها وعلمت من جارتها أنها اختفت منذ وفاة أمها، حينها أدركت أن القدر يعاقبني لتفريطي في إنسانة أحبتني بصدق وكانت على استعداد للتضحية وتحمل ظروفي القاسية لكني وقعت في فخ الرغبة في الثراء السريع وهو ما حققته بعد ربع قرن قضيته بالخارج وعدت لتأسيس شركة وإقامة مشروع تجاري كبير بمشاركة عدد من رفقاء الغربة.. كان يهابني كل من يعمل معي لقوة شخصيتي لكن لا أحد يعلم أن بداخل هذا الإنسان نقطة ضعف تهزمه دائما هى ذكريات الماضي الحزين.. ورغم ما وفرته زوجتي من أجواء ساعدتني على النجاح في العمل واعتناءها بتربية الأبناء الثلاثة دون أن ترهقني بتفاصيل ومشاكل دراستهم لكن قلبي لم يشتعل بحبها فلم تنطفئ يوما جذوة عشقه لـ«شروق». 

بدأت وشركائي في إجراء مقابلات للمتقدمين لوظائف بالشركة، وفي موقف قد لا يحدث إلا في الأفلام الهندية التي تعتمد على اللامنطق في الأحداث لتشويق المشاهد، رأيتها أمامي تتقدم لوظيفة إدارية بالشركة، نعم هي «شروق» لكن ماذا حدث لها؟ كانت حزينة منكسرة وعينيها ذابلتين، نحيت وقار منصبي جانبا وهرولت نحوها وطالبتها بتناول القهوة في مكتبي.. اخترقت حاجز الصمت الذي سيطر على بداية اللقاء وتخلله نظرات عتاب من عينيها.. تظاهرت بتجاهل ألم أعوام لم يلتئم وسألتها عن حياتها، بصعوبة تحدثت ويا ليتها صمتت فقد كانت كلماتها سهاما رشقت قلبي بوجع جديد.. وقالت: «بعد رحيلك في أحلك أيام حياتي، ماتت أمي ثم تزوجت من ابن عمي في مسقط رأسي في الجنوب لكنه قتل بسبب خصومة ثأرية وأخذ ابني بثأره وحاليا خلف قضبان السجن، وهربت بابنتي وعدت إلى بيت أمي القديم، وابحت عن عمل أنفق منه عليها بعد أن تركت بيتي وكل ما أملك».. 

تخيلت أن السعادة التي حرمت منها نفسي بإرادتي عادت بظهور «شروق» في حياتي، عرضت عليها وظيفة بمبلغ كبير، لكنها رفضت العرض وطلبت الانصراف، قدرت اعتزازها بكرامتها وتفهمت رفضها الظهور مهزومة للمرة الثانية أمام الشخص ذاته الذي تخلي عنها من قبل، طلبت رقم هاتفها للاطمئنان عليها فرفضت وخرجت مسرعة من مكتبي.

ظل الأمل يراودني بأن الحب سيغفر ذنبي بحق «شروق» وأن قلبها سيرق وقد نلتقي مجددا، ذهبت إلى زيارتها في بيتها القديم، استقبلتني بحفاوة رغم أن الزيارة بدون ميعاد.. نبشت جراح الماضي وحاولت تبرير موقفي بالسفر وأقسمت أنني لم أنساها وبحثت عنها كثيرا، طالبتها بأن نبدأ صفحة جديدة ووعدتها بتعويضها عن أي لحظة حزن.. ردت: الماضي سيلاحقنا بذكرياته المؤلمة وبعض الذنوب لا تمحى من القلوب لبشاعتها.. حينها علمت أنها ترفض فتح أي نافذة أمل للتسامح، وفجأة.. تقدمت نحوها شابة جميلة انفطر قلبي عندما رأيتها تجلس على كرسي متحرك.. نظرت «شروق» نحو ابنتها ثم وجهت كلامها صوبي: والمستقبل أيضا به هبات من الله تستحق أن نعيش لها.


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.