نفيسة خاتون.. من جارية إلى سيدة من صفوة النخبة المملوكية

نفيسة خاتون.. من جارية إلى سيدة من صفوة النخبة المملوكية

د. ناصر أحمد إبراهيم

اللوحة: الفنان الفرنسي رودولف ارنست

إن الاعتقاد الشائع بأن المرأة الشرقية هي جزء من “الخاص” الذي يقترب من مفهوم ما هو محظور تناوله أو كشفه؛ باعتباره منطقة مقدسة وشبه محرمة، تسبب في إضفاء ظلال كثيفة على دور المرأة كفاعل في العملية التاريخية. وتدعم هذا الاتجاه بإثارة مسألة المصادر ومحدودية المادة الإخبارية التى وصلتنا وما بها من ثغرات، مقارنة بما نعرفه عما هو “عام” أو “سياسي” أو “تاريخي”. وهى حقيقة لا يمكن أن ننكرها، ليس للمرأة وحدها، ولكن كذلك بالنسبة لفئات اجتماعية أخرى ممن أطلق عليهم جان كلود شميت “المنبوذين والصامتين والمنسيين في التاريخ الذين لم يحظوا بالاعتراف”؛ ومن ثم ظلوا على هامش الكتابة التاريخية.

على أنه يجب التمييز بين تهميش الفئات الضعيفة في المجتمع التى لم تحظ بالاهتمام، وبين تهميش بعض الفئات المنتمية لأرباب السلطة وكبار الأعيان وعائلات الطبقة الوسطى؛ والتى انحسر عنها الضوء لصالح فئات أخرى، بالرغم من كونها لعبت دورًا أساسيًا في قلب الأحداث التاريخية والاجتماعية، ولكن حظها العاثر فحسب أنها لم تجد من ينزع إلى الاهتمام بدراسة المساحة التى تحركت فيها، والربط بينها وبين السياق العام لتطورات الأحداث. ومن هنا فالتهميش للفئات الأخيرة هو نوع من التهميش التجريدي لا الواقعي Abstraite، سرعان ما تزول ضبابيته الكثيفة بمجرد الالتفات إليها ورد الاعتبار إلى دورها الحقيقي داخل شبكة الأحداث الواقعية المعقدة. 

 بيد أن المناهج الجديدة التى تطورت، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، في إطار ما يعرف “بالتاريخ الاجتماعى”، أمكنها أن تدفع الكثير من فئات الهامشيين إلى بؤرة الأحداث، وإدماجهم داخل السياق التاريخى العام. ومع ظهور دراسات الجندر (أى النوع) في الآونة الأخيرة، أخذ مجال الكتابة عن المرأة مساحة أكبر، وخاصة بعد أن ساهم المؤرخون بدراسات جادة تعتمد على وثائق اجتماعية جديدة، والمتمثلة في وثائق المحاكم الشرعية التى تفيض برصد تفاصيل الحياة اليومية للناس، بمختلف شرائحهم وأجناسهم وثقافتهم وممارساتهم المختلفة اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا. كان لذلك – ولا شك – أكبر الأثر في إعادة تنشيط الذاكرة التاريخية بعالم المهمشين، والتي تعد المرأة أحد موضوعاته الأساسية، لتبدأ عملية دمجها في سياق تطورى، يحاول أن يكشف عن حقيقة المساحة التى كانت تشغلها، ليس في ” عالم الحريم ” وحده فحسب، بل وبدورها فى الحياة العامة وفى مسار التجربة التاريخية ككل.

يتناول هذا المقال شخصية نسائية من نوع خاص، كانت في قلب الأحداث ولم تكن على هامشها، تنتمي إلى صفوة نساء الطبقة العليا، في مرحلة شديدة التقلب وعدم الاستقرار، بين أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، وهى شخصية “الست نفيسة” زوجة حاكم مصر القوى “على بك الكبير” الذي عمل أول محاولة، في العصر الحديث، لاستقلال مصر عن الدولة العثمانية، والذى أثار فضول المراقبين الأوربيين الذين تابعوا باهتمام بالغ مشروعه السياسي الكبير. وإذا كان هذا المشروع قد لاقى الفشل، وانتهى بقتله، فإن وضعية الست نفيسة لم تتأثر كثيرًا، إذ أقبل سريعًا أحد الأمراء الطموحين ويدعى “مراد بك” على الاقتران بها، مما عزز من استمرارية تمتعها بمكانتها، لاسيما وأن هذا الأخير انفرد بحكم مصر، متقاسمًا مع نظير له يُدعى الأمير إبراهيم بك، وأدارا البلاد كذلك بطريقة فعلية شبه مستقلة عن المركز العثمانى، وذلك على مدار العقدين الأخيرين من القرن الثامن عشر.

 ومن هنا ظلت “الست نفيسة” محتفظة بوضعيتها الاجتماعية المرموقة، “كمحظية ثم زوجة” لأقوى أميرين حكما البلاد، أغدقا عليها الكثير من الأموال، واختصاها بعدد كبير من التزامات القرى ببلاد الأرياف، مما جعلها بالفعل من أثرى نساء النخبة المملوكية. وكان قصرها المنيف، على بركة الأزبكية، تحفة معمارية تخلب نظر الناظرين. وكان مزودًا بكل احتياجاتها المادية، كما تقيض بخدمتها عدد كبير من الخدم والمماليك والجوارى الحسان.

 بيد أن هذا المنحنى الصاعد من الحياة الرغدة والرفاهية غير المعهودة، لم يلبث أن قطعته تطورات الأحداث الكبرى بين أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، تلك التطورات التى قلبت لها ظهر المِجَن، وجعلتها تدخل في دوامة المعاناة، وخاصة مع اتجاه السلطة الجديدة، ممثلة في محمد على باشا، الذي تبنى مشروع تصفية الطبقة المملوكية التى تنتمي إليها الست نفيسة، والعمل على إقصائها بصورة نهائية عن دائرة الحكم والنفوذ، ليحل محلها طبقة بيروقراطية جديدة من أصول عرقية وثقافية مختلفة.

 وكان لابد أن تنعكس كل هذه التداعيات السريعة على حياة الست نفيسة، التى وجدت نفسها في النهاية على هامش طبقة “الحريم العالى”، مجردة من مصادر ثروتها ومن مكانتها الاجتماعية التى كانت عليها زمن البكوات المماليك، لتنزوى داخل قصرها حتى أيامها الأخيرة، ثم ما تلبث سلطة الباشا المركزية أن تصادر أملاكها العقارية، عقب وفاتها مباشرة، بما في ذلك قصرها بالأزبكية، لتُطوَى بذلك صفحتها الأخيرة التى ترمز إلى نهاية عصر البكوات المماليك.

وهكذا، فإن سيرة الست نفيسة بحق مثيرة للاهتمام؛ فهى شاهدة على مرحلة مكتملة لبلوغ الطبقة المملوكية أوج ذروتها في المجالين السياسي والاجتماعي، ثم مرحلة تزلزل أركان النظام المملوكي بفعل تحديات خارجية وداخلية، لتنهار أو بالأحرى لتتلاشى معه تلك النخبة، وتتحول إلى ذكرى من الماضي. وعلاوة على ذلك، تكشف دراسة الست نفيسة عن خبرة امرأة من صفوة النخبة المملوكية، واجهت تحديات التحول الاجتماعي والسياسي الذي شهدته مصر، خلال مرحلة الانتقال إلى النظام المركزي، الذي أعاد هيكلة النظام الطبقي وفقًا لمقتضيات عملية التحديث التي اضطلع بها محمد على باشا. ومن هنا تحيلنا دراسة الست نفيسة إلى فهم ما فعلته الدولة الحديثة بالنخبة التقليدية التي لم يعد لها ما يبرر جدوى استمراريتها داخل وحدة النسيج الاجتماعي لمصر في القرن التاسع عشر.  

 فمن هي الست نفيسة؟ وما هي الظروف التي حولتها إلى رمز خاص في ذاكرة المصريين الذين أبدوا الاحترام الكامل لشخصها، وميزوها عن أترابها بل عن طبقتها المملوكية ككل؟ ثم أخيرًا ما هي الظروف التي هيأت لها المجال لتبرز على الساحة، فارضة نفسها بصورة تلقائية ومحبوبة عند الناس، حتى أن مراقبًا حاذقًا مثل شيخنا الجبرتي، أفرد لها ترجمة استثنائية خاصة، وهو ما لم يخص به أى من حريم البكوات المماليك فضلا عن غياب أي ترجمة نسائية أخرى بكتابه الشهير “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”؟ وأخيرًا نتساءل عن دلالة الحظوة التي نالتها بالقدر نفسه عند المعاصرين الأجانب (الفرنسيين)، بدءًا من نابوليون بونابرت الذي تذكرها في منفاه بسانت هيلانة وكتب عنها في مذكراته عن حملة مصر والشام، مرورا بالقنصل الفرنسي ماجلون الذي سجل في تقاريره للخارجية الفرنسية عن دورها في رفع الإتاوات التعسفية عن التجار الفرنسيين، والجنرالان كليبير ومينو اللذين أبديا لها احترامًا من نوع خاص، وتقديرًا لدورها في الوساطة بين الفرنسيين وزوجها الأمير مراد، ونهاية بالمراقب الفرنسي “فليكس مانجان”، الذي عاصر سنواتها الأخيرة وتابع باهتمام تعلق الناس بها وحزنهم الشديد على فراقها حين وافتها المنية في عام 1816م؟ 

بداية درامية: صيد الفتيات وإعادة إنتاج الهوية 

ولدت نفيسة – على الأرجح – قرابة منتصف القرن الثامن عشر في إقليم جورجيا. وإذا كانت قصة مجيئها إلى مصر، وبيعها في سوق الجواري، غير معروفة على نحو دقيق، إلا أنه بالإمكان تصور مشهدها الدرامي، وذلك في ضوء ما نعرفه عن تجارة الجواري: فبخلاف وقوع بعضهن بين أسرى الحروب، كان معظم هؤلاء الفتيات قد جُلِبن إلى أسواق العبيد بعد تعرضهن للخطف والوقوع في شباك صائدي الأطفال، وهو ما كان يتم بصورة متكررة في الأوقات التي يغفل فيها الأهالي عن متابعة أطفالهم وهم يمرحون ويلعبون في فضاء القرى الجبلية بجورجيا. والمعروف أن ثمة تجارة رائجة في الجواري والغلمان مارسها الأتراك العثمانيون أنفسهم، وكانت مصر في مقدمة الأسواق التي كان يستهدفها الجلابة الأتراك لنقل المئات منهم إلى القاهرة، وذلك منذ البدايات الأولى من بناء الإمبراطورية(١).   

ولطالما شكل هذا الحدث المؤلم نقطة تحول في حياة كل جارية؛ انقطعت صلتها وللأبد بأهلها وبموطنها الأول، ولم يبق في ذاكرتها عن هذه المرحلة سوى مشاهد محدودة، تتذكرها بمرارة، ولا تكاد تنساها؛ إذ إنها اللحظة الفارقة التي شهدت استلابها من محيطها الثقافي والاجتماعي، محيط عائلتها وجذورها وهويتها وحريتها، وتحولها في النهاية إلى أمة تابعة لكل سيد يدفع فيها مالاً مناسبًا. 

ومن ثم ليس ببعيد أن نتوقع صورة مشابهة لبداية درامية على هذا النحو قد حدثت لنفيسة حين تم خطفها وهي فتاة صغيرة بلغت بالكاد سن المراهقة، لتباع في سوق الجلابة إلي إحدى بيوت البكوات الكبار نحو ستينيات القرن الثامن عشر. وبقدر ما كانت حياتها بعد انتقالها إلى مصر تبدو – إلى حد كبير – معروفة لنا، بقدر ما نجهل تمامًا نشأتها الأولى في جورجيا، ومستوى عائلتها الثقافي والاجتماعي، فضلاً عن أسمها الجورجي الأصلي؛ فالمعروف أن الأسماء التي عُرِفوا بها في القاهرة هي أسماء عربية، أُطلِقت عليهن لاحقًا بعد تعلمهن مبادئ الإسلام، وتدريبهن على واجبات الطاعة، وتلقيهن أخلاقيات التعامل والسلوك وبعض المهارات الخاصة في بيوت الأمراء. والمعروف أن منح الجارية أسمًا عربيًا أصيلاً، مثل اسم نفيسة (وهو اسم عزيز عند المصريين بصفة خاصة)، كان من قبيل التشريف والتكريم لها. 

 وبطبيعة الحال كانت الجارية تفقد اسم والدها وتصير مُعرفة بالبيت الذي تنتسب إليه؛ فيشار إليها على أنها معتوقة سيدها (فلان)، بيد أن نفيسة مثل غيرها من كبار سيدات القصور المملوكية اللائي سبقنها، كانت تلقب بـ “نفيسة بنت عبد الله”؛ وذلك لجهلها باسم الأب أو لأنها لم تعد، بعد اعتناقها للإسلام، تنتمي لعائلتها المسيحية في جورجيا. ويعنى هذا أنه قد تم إعادة إنتاج هويتها الخاصة في المجتمع المصري الذي قُدِر لها أن تندمج فيه، وأصبحت شديدة الارتباط بثقافته وتقاليده وعاداته. ولم تفكر قط في العودة إلى بلادها؛ فقد صارت مصر بمثابة موطنها الأصيل الذي أعطاها الكثير: الهوية والثروة والنفوذ. 

ويلاحظ في الوثائق اقتران اسمها بصفة توضح لون بشرتها – وهو أمر شائع في ذلك العصر كجزء من تمييز هوية الفرد – حيث كان يُشار إليها بـ “نفيسة بنت عبد الله البيضا”؛ تمييزًا بأنها من المملوكيات البيض، المنحدرات من المنطقة القوقازية، وليست من ثم من “الحبوش” السود المجلوبات من إفريقيا. ويبدو أنها كانت على درجة ملحوظة من الجمال، حتى إننا نجد اسمها في المصادر الفرنسية يأت مقرونًا دائمًا بـصفة “الست نفيسة الجميلة”  la belle Sitty Nafiçah، فيما يركز شيخنا الجبرتى على قوة وبهاء شخصيتها الآثرة وطيب ذكرها وسمعتها بين الناس فيشير إليها في ترجمته لها: “الست نفيسة الجليلة نفيسة خاتون… الشهيرة الذكر بالخير… كانت من الخيِّرات ولها على الفقراء بر وإحسان”. كذلك يجمع المراقبون الفرنسيون على اتزان شخصيتها، وثقتها في نفسها ومهارتها في تحقيق التواصل مع المصريين من خارج وسطها الاجتماعى، وأنها استطاعت الحصول على احترام وتقدير الرأى العام، وذلك من خلال التأثير الذي كانت تمارسه في جميع طبقات المجتمع كله، وأن شهرتها امتدت إلى خارج البلاد، وهو ما يُعطي انطباعًا عن مدى قوة تأثيرها فى حياة الناس الذين نقلوا أخبارها خارج البلاد.

ومما لا شك فيه أن ثقل شخصيتها وما نُعِتت به من جميل الصفات قد جعلها تتفوق على أترابها من سيدات القصور المملوكية، كما أنها حظيت أكثر من غيرها باحترام وتقدير علماء وكبار شيوخ الأزهر المعروفين أمثال الشيخ عمر مكرم والشيخ السادات والشيخ المهدى والشيخ الفيومى، والشيخ الجبرتى ومن إليهم، ممن أشادوا بها، وأعجبوا بتمكنها من اللغة العربية قراءة وكتابة، برغم أنها تعلمتها في فترة متأخرة من حياتها. وقد أرهفت قراءة الكُتَّاب الموهوبين إحساسها، وكانت تحب قراءة دواوين شعراء العربية المعاصرين. ولا يخفى دلالة حرصها على التحدث باللغة العربية كواحدة من الوسائل التى لجأت إليها لتحقيق التواصل والاندماج في المجتمع؛ حيث كانت على قناعة بضرورة مد جسور العلاقة مع الناس من حولها، رافضة أن تُجارى أترابها بالبقاء داخل الإطار الانعزالي والسلبي الذي يمثله عالم الحريم المملوكى. ودللت بذلك على استقلاليتها في اختيار طريقة حياتها، وإثراء ثقافتها وتفاعلاتها الاجتماعية، خارج سطوة النظام الأبوى système patriarcalLe.  

الجارية تصبح زوجة أقوى رجل في الشرق الأوسط (1760-1773)

تزامن التحاق نفيسة ببيت على بك الكبير مع اتساع حظوظه في الكشوفية والإمارة: فقد صار كاشفًا ثم أميرًا للحج، وبعد أن صارت هي أحدى محظياته المفضلات، كان قد أصبح شيخًا للبلد بتزكية ودعم من الأمير عبد الرحمن كتخدا، لتجد نفسها وقد أشرقت لها الدنيا مستقبلاً لم تكن تتوقعه على الإطلاق، فمن محظية في الرق، مجهولة في حريم القصر المملوكى، إلى زوجة شيخ البلد، الرجل الأقوى والمتربع على السلطة في مصر دون شريك أو منازع: فقد استحوذت نفيسة الفتاة الشابة على قلب سيدها على بك الكبير، الذى هام بها حبًا، واعتز بشخصيتها القوية، وما ازدانت به من جمال الهيئة وبهاء الطلعة والذكاء المتقد، ما جعله يصطفيها من دون الأخريات من حريمه، وما أكثرهن؛ فيرفعها من رتبة سرية إلى “قادين” أى زوجة شرعية، وهى أعلى مكانة تطمح إليها جارية في بيت سيدها، إذ تصبح بمقتضاها معتوقة حرة، وتنال كامل حقوقها الشرعية في الميراث. ومنذ ذلك الحين صارت تلقب بـ”الست نفيسة خاتون”، زوجة شيخ البلد الذي يقبض على زمام السلطة وحكم البلاد.

أحبت نفيسة سيدها على بك، وتابعت باهتمام بالغ مشروعه السياسى الكبير فى التوسع إقليميًا على حساب العثمانيين، مستغلاً حالة الارتباك الشديد التى كانت عليها الدولة جراء نشوب حربها الضروس مع روسيا (1768 – 1774). ولطالما أفصح على بك، وهو في ديوانه بمنزل نفيسة بالأزبكية، عن أحقية المماليك في الإنفراد بحكم مصر والأقاليم التابعة لها، وأن العثمانيين غزاة غرباء، قضوا على السلطنة المملوكية التى هم ورثتها الطبيعيين لا العثمانيين، ووفقًا لذلك كان يرى أنه قد حانت اللحظة التى يتعين فيها استرداد هذا “الملك المسلوب”، وإعادة بناء إمبراطورية مملوكية جديدة، تشمل الإطار الجغرافى الذي يضم إلى مصر بلاد الشام والحجاز واليمن.

 كانت أبعاد المشروع السياسى وقوة شخصية على بك، وصرامته وما تمتع به من هيبة وقوة، قد أثارت إعجاب نفيسة به وبطموحه السياسى، وإصراره على المضى في مضماره حتى النهاية. وقد دعمته في كل المراحل التى مر بها، وهو ما ظل يمثل لها خطًا فكريًا وسياسيًا، ازداد قوة مع الأيام: فلم تفكر قط في تعديل موقفها حتى فى أحلك اللحظات التى مرت بها حين داهمت البلاد جيوش بونابرت (1798م)؛ فقد آثرت البقاء في مواجهة مخاطر الاحتلال الفرنسي عن اللجوء إلى معسكر الجيش العثماني ببلاد الشام، بل إنها كذا لم تحفل بعودة العثمانيين بعد جلاء الاحتلال الفرنسى. وكان ذلك هو نفس الخط السياسى الذي انتهجه زوجها الثانى مراد بك في مسيرته السياسة ومواقفه إزاء العثمانيين.

كانت نفيسة عزيزة على قلب زوجها على بك، وقد عبر هو عن حبه لها وتقديره لشخصها، حين راح يختصها بقصر عظيم تعيش فيه بمفردها دون سائر حريمه اللاتى وزعهن على قصوره الأخرى المتناثرة داخل محيط القاهرة، وزودها بالخدم والجوارى، يقمن على خدمتها، أناء الليل وأطراف النهار، وقد بلغ عددهن ستًا وخمسين جارية واثنين من الخصيان. وسعيًا إلى تأمين مستقبلها من بعده، راح يسجل باسمها عددًا كبيرًا من التزامات القرى التى تُدر عليها، في كل عام، بفوائض مادية معتبرة، ساعدتها – برغم ما تعرضت له من مصادرات- على أن تحيا في رفاهية من العيش على مدار حياتها. 

وحمدت كرمه وعطاءه، وظلت له وافية أمينة حتى أيامه الأخيرة: فحين بلغها انكساره بالصالحية، ووقوعه مثخنًا بجراحه، أرسلت إلى الأمراء المماليك، أن يأتوا به إلى قصرها لترعاه بنفسها وتسهر على معالجته، وعلى ما يبدو كانت هذه أيضا رغبة على بك نفسه الذي لم يتوجه إلى أى من حريمه الآخرين الموزعين على قصوره الأربعة الأخرى (والواقعة بخط قوصون / وباب الخرق/ ومصر القديمة/ وسبيل قيماز بالعادلية) وجميعها داخل القاهرة. على أنه ما لبث أن فارق الحياة، بعد سبعة أيام فقط، قضاها تحت رعاية الست نفيسة. وأعدت له نفيسة جنازة تليق بمكانته ومقامه؛ وخرجت جنازته من قصرها فـي مشهد حافل، ودفنته بتربة أستاذه إبراهيم كتخدا القازدوغلي بالقرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي. 


(١) كات فليت: التجارة بين أوربا والبلدان الإسلامية في ظل الدولة العثمانية، تعريب أيمن الأرمنازى، مكتبة العبيكان، الرياض 2004، ص ص 95- 96.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.