ريما إبراهيم حمود
اللوحة: الفنان الكويتي ناجي الحاي
كل الكؤوس مصفوفة على الرف المتوسط لخزانة زجاجية احتلت زاوية الصالة قريبة من طاولة الطعام الشفافة، بكراسيها الخمرية، وفي وسط الصالة طبق عميق كبير من الزجاج الأسود يمتلئ بفواكه زجاجية لا لون لها.
النوافذ كبيرة جدا، مطلة على فراغات مساحية مقلقة، تغطيها ستائر شفافة بلون خمري مطرز بخيوط ذهبية رفيعة.
تحت التلفاز الكبير العريض الرفيع، خزانة سوداء بأبواب زجاجية وكثير من التحف لا يُفهم لها مغزى.
وأنا.. أكره الزجاج، يوترني، يستفزني بحمقه حين يعكس صورتي كلما مررت بجانبه فأراني طويلة جدا، أوعريضة جدا، وفمي كبير بوسع طبق وعيناي بعيدتان عنه، فأسرع خطوي مبتعدة عنه، لأجده يسخر مني في خزانة التلفاز أوفوق رأسي عند حوض غسيل الصحون، أوفي لمعان المعدن في الفرن أوالثلاجة.
أهمله فيتغير لونه بالغبار، أوتطغى عليه بقع الماء والزيت في المطبخ، لتتناقص تدريجيا قدرته على استفزازي، فأرتاح لبعض الوقت، حتى أعرف أن إحداهن قادمة لزيارتي، فأحمل الخرقة الزرقاء المخصصة للزجاج، وسائل التنظيف، أرش كل قطعة زجاجية بنزق لأمسح عنها الغبار، ثم أعيدها إلى مكانها ببطء خوفا من أن تنكسر وينكسر ما تحتها من زجاج.
أظل أياما أعاني من استطالات غريبة في شكلي، تدفعني معظم الوقت إلى الاحتماء بغرفة النوم التي توسطتها مرآة كبيرة أغطيها أحيانا فلا أرى صورتي فيها.
حينها أختلي بذاتي، أحادثها، أطبطب عليها، أمسح عنها الغبار بحرص ورقة، أعيدها إلى قالبها المهترئ، أقفل عليها بابتسامة، وأخرج من عزلتي بوجه مستكين مرة تلوأخرى.
لكنني في المرة التي استقبلت فيها إحداهن، دخلتْ المكان بحذائها، داستْ سجادتي الجديدة، جلستْ على الكنبة الكبيرة أزاحتْ بفظاظة الوسادة المزركشة وألقتها على الأرض.
حاولتُ أن أكتم كشرة كانت قريبة جدا من السطح، بدأنا الحديث.. كانت تلوّح بيدها كثيراً، تتحرك كثيرا، حانتْ مني التفاتة إلى الخزانة الزجاجية تحت التلفاز، رأيت انعكاسي فيها كعادته، طويلا جدا ومشوها، لاحظت انعكاسها، كان كما هي، لا اختلاف أبدا، لم يتمدد طولا ولا عرضا، توترت.. أخذتُ أهزّ قدمي اليمنى، أزحتُ الكنبة التي أجلس عليها لأعطي ظهري للتلفاز والخزانة، لكنني كنتُ أحس انعكاسي يقف ورائي، يتطاول حتى أرى ظله يمتدّ أمامي ويغطيها، ثم يقصر، فيتمدد عرضا،وأراه تحتي ومن جانبي، وهي تجلس بلا انعكاس عنيد قليل الذوق لئيم كانعكاسي.
كان الهواء في حضورها لزجا، لم أستطع أن أكتم غيظي فبان على وجهي متقطعا بابتسامات باردة.
شعرت أنني بحاجة لأن أجرح يدي بسكين الهواء، وألطخ كل الزجاج بدمي عله يهدأ.
وحين وضعتُ أمامها الكأسين الزجاجيين بشراب الورد، قفز الشراب علي، لطخني، انحنيت لأمسحه عن ثوبي، فرأيت أنفي عريضا جدا في انعكاسه على أرضية السيراميك التي حرصت على تلميعها قبل وصولها، أما انعاكسها يجلس باردا هادئا عاديا.
كدت أختنق قبل أن تغادر المكان، أقفلت الباب وراءها بهدوء، شتمت كل شيء من حولي، بحثت عن الهواء واصطدته، كان كل الزجاج في المكان ينظر إلي كثقب أسود، يراقبني ليحاول ابتلاعي على حين غفلة، وكم أكره أن يراقبني أي شيء.. رفعت ثوبي عن السيراميك البارد، أحضرت صناديق كبيرة من الكرتون كنت أخفيها وراء الخزانة، لملمت كل الزجاج في المكان، نزعت الأبواب الزجاجية للخزائن، دسسته في الصناديق بغيظ، ومن سور الشرفة استمتعت بصوت تهشمه على أرض الشارع.