شىء سيبقى بيننا

شىء سيبقى بيننا

حسام أبو العلا

اللوحة: الفنان الفرنسي إدموند دولاك

أوراق وكتب مبعثرة هنا، وأخرى هناك، مظهرها لا يوحي بقيمتها على رغم أنها ترتبط بذكريات لأجمل وأتعس سنوات العمر، بعضها حلو وأكثرها مر، ولكنها محفورة في سويداء القلب، وتسكن كل زواياه.. 

بصعوبة انتشلت بعضها الذي أصفر لونه بفعل الزمن، وأخرى تمزقت تماما، تسللت يدي وتلقفت بعضها، تطاير تراب كثيف على وجهي، ولكني لم انتبه له، فكان هول الصدمة والمفاجأة كفيلا أن يسقطني سريعا صريعا في أول ركن من زوايا غرفتي. 

رحمتك يا رب، هكذا نطق لساني، أخيرا عثرت على هذا الكتاب العزيز على قلبي، كان أول هدية لي من أستاذى بالجامعة الذى كنت أكن له احتراما يفوق قدرتى على الوصف، وكنت وقتها في أول خطواتي في المرحلة الجامعية، وكانت هديته لى هو هذا الديوان الشعرى الذى حفظت كلماته عن ظهر قلب، وكان سببا في حبي للشعر والأدب، وكنت دوما أحمله معى لأقرأه في فترات الراحة بين المحاضرات، ولم أكن أدرى أنه سيكون مصدرا لعذابي يوما ما.

كنت – فى تلك الفترة – شديد الخجل من زملائي الذين كانوا يشفقون عليَّ أحياناً ويتهكمون أحياناً أخرى، وربما كانت ظروف حياتى القاسية قد جعلتني شخصية منطوية، فكنت أدفن رأسي في أوراقي بينما أذني تسمعهم بشغف عندما يتحدثون عن الفتيات ومغامراتهم معهن، أما والدتى فقد أصابها اليأس من محاولاتها الدائمة لإخراجى من حالة الانطواء والسكون والصمت الدائم.

لم أعش مثل بقية رفاقي في فترة المراهقة قصة حبة ملتهبة لكنني كنت تواقا لقلب يحتويني ويحطم قيود عزلتي ووحدتي، ويفك شفرة صمتي، كنت أشعر بأنني شخص مختلف ولكني لست الأفضل، فعشقت الشعر وكتبت عن الحب دون أن أعيشه فى الحقيقة، وكنت انتظر أن يخفق قلبي يوما بالحب الصادق، تعلق قلبي بفتاة وتوهمت أن حبها سيروي عطش السنين، لكنه تحول لكابوس وعقاب قاسي لقلب تمرد يوما على الأحزان، الصدمة كادت تفقدني الوعي لولا أن حياتي كانت لا تسمح بأن أهدر وقتا جديدا في وجع وحزن.

 جففت الدموع سريعا وطويت ألامي، وكرست وقتي للكتابة فكنت أكتب في مجلات الحائط بالجامعة، كثيرون أعجبهم ما أكتبه وطالبوني بالمزيد، ولكن كان أكثر من أعلن إعجابه بقصائدى تلك الفتاة ذات العيون الخضراء، التى كانت من أجمل فتيات الكلية، يتسابق الجميع على الحديث معها، لرقتها وجمالها، بينما كنت أراقب أنا ذلك من بعيد، دون أن أعيرها أى اهتمام.

 وفى يوم طلبت مني استعارة ذلك الديوان الذى أهداه لى أستاذى، وبكل خجل الدنيا مددت يدى به، أخذته وبعد أيام أعادته لي وشكرتني وطلبت مني أن اعيد تصفحه مرة أخرى، لم اكترث كثيرا بكلامها، فقد كنت قد حفظت قصائده عن ظهر قلب، وقررت أن أتحرر من سطوته بعد أن قرأته مئات المرات، فأخذته منها وضعته بين أوراقي، وكتبي، ونسيته، وانشغلت في المذاكرة استعدادا لامتحانات نهاية العام. 

كانت ذات العيون الخضراء تلاحقني بنظراتها دون أن أفهم ماذا تعني هذه النظرات، كان بداخلي إحساس جميل نحوها، ولكن كيف لجميلة الجميلات هذه أن يتعلق قلبها بي؟، فلم أجد بشخصيتي المنعزلة المنطوية ما يجعل فتاة تعجب بي، هكذا كنت أحدث نفسي، كبحت لجام ذاتي حتى انتهت فترة الدراسة الجامعة، وانشغلت فى العمل والكتابة، وحققت نجاحاً سريعاً، ساعدنى عليه تفرغى وتركيزى التام فى العمل، بعد أن أعلنت فشلى فى العثور على من تقبل منح ذلك الصامت جزءا من مشاعرها، لكنى كل فترة كنت أتذكرها فأسأل نفسي: ماذا كانت تقصد بنظراتها الحائرة؟! حتى جاءت الإجابة بعد سنوات طويلة… 

فبينما أقلب أوراقي وكتبي القديمة باحثا عن ذلك الديوان الذى اشتقت لقراءته بعد مرور ما يزيد عن عشر سنوات على إلقائى له بين كتبى، وفى لهفة قلَّبت صفحاته التى بدأ اللون الأصفر يفرض سيطرته عليها، وإذا بورقة صغيرة تسقط من بينها، تساءلت: من أين أتت تلك الورقة؟ ومتى تسللت إلى صفحات كتابى المفضل؟.. وبفضول شديد طالعت سطورها القليلة، ولهفة عينىَّ تسابق الكلمات.. فقد كانت رسالة رقيقة من ذات العيون الخضراء تقول فيها: “أحبك، واختارك قلبي من بين كل من حولي، أنت فقط من اخترق مشاعري وأحاسيسي، واعدك أني ساتحمل الكثير من أجل أن تخرج من أحزانك، أثق انك ستشعر يوما بحبي، سأنتظر ولن ايأس”. 

تساقطت دموعي وأنا اقرأ الرسالة التي كتبتها من أحبتني بصدق، بينما أضعتها أنا بصمتي وعجزي.. طويت الرسالة التى بللتها الدموع، ووضعتها مجددا بين صفحات الكتاب وأعدته إلى مكانه دون أن أقرأه.


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.