الخامسة علاوي
اللوحة: الفنانة المصرية رنا حمدان
لم تكن أمي بخير في الأيام الأخيرة، وكنا نقضي وقتا طويلا نراقب فيه تصرفاتها، كانت تهذي بأسماء غريبة في نومها، وإذا أفاقت لا تكاد تُنزل عينيها من سماء الغرفة.. ملوحة بيديها من حين لآخر كأنها تريد القبض على أمر ما في فضاء رؤيتها.
اقتربت منها ذات صباح وسألتها هل أنت غير مستريحة أمي في هذه الغرفة؟ أتودين منا أن نغيرها لك..؟ قربتني إليها وقالت: في غرفتي هذه.. تسكن الأشباح بنيتي..، هي تطاردني في نومي وفي يقظتي، فهل يمكن أن تحميني منها؟ أشباح.. قلت لها: ليس في الغرفة إلا أنا وأنت أمي، قاطعتني وهي تشير إلى السقف، أُنظري ذاك الوجه وجهُه أنا أعرفه، حدثني ذات يوليو حين التقينا به أنا وأنت، وأبلغني رسالة مفادها أنه سعيد لأنه تعرف على أم الفتاة التي خلبت لبه بأخلاقها.. بعدها بشهور زارنا في بيتنا هذا مرة واحدة طالبا منا القرب فيك.
سألتها وأنا ارفع رأسي في سماء الغرفة هل تقصدين..؟ رفعت يدها بسرعة ووضعتها على فمي وهي تقول: احذري.. هو يسمعنا.. سألتها خلسة ماذا يريد منك أمي؟ هل يطالبك بشيء؟ هل له عندك شيء؟.
جذبتني إليها ووشوشت لي: تصوّرِي.. يطالبني بك، يقول لي كلَّ الوقت: ردي عليّ قدري.. لمَ لم تمنحيني فرصتي في الحب؟ لم ضيعت مني حقي في هندسة حياتي..؟
هل تدرين بنيتي؟ لقد قضَّ مضْجَعِي بطلبه هذا، حتى لم أعد أعرف راحة ولا هدوءاً..
مسحت بيدي على ناصيتها ورفعت رأسي إلى السماء متوسلة رب السماء أن يجعل أمي تنعم ببعض الراحة وغادرت الغرفة تحت صوت ندائها وهي تطلب مني حمايتها منه.
جلست طويلا في فناء الدار محاولة تذكر لحظة زيارته لنا فلم أقبض ولا على جزء منها، كأن لا أحد أخبرني بها، فكل ما أذكره هو ذلك اللقاء الاستثنائي الذي علمني فيه بحِلْمه وخلقه وروحه الطيبة كيف أقبض على اللحظة الهاربة في حضرة كبيرنا، كيف يكون العاشق ذليلا مستكينا أمام معشوقه الأبدي، تماما كما علمتني أمي بعدها كيف ينْحَر حب الكبير بحبّه الأكبر قلب صغيره، فيمضي الصغير بقلب جريح ضمّ كل الصدق في المحبة والنقاء في السريرة. ليذهب كلّ الكلّ ضحية حب ظنوه كبيرا، فهل كان فعلا حبهم لنا كبيرا؟ بل هل كان حبا أصلا؟
لحظة خور كبير عشتها.. أعدت من خلالها أعسر لحظات العمر المُعَنَّى لحظة إصرارهم الكبير على إجهاض حلمنا جنينا، بل ووأدي حيةً أُرْزَق على مرأى ومسمع الجميع..
ورغم ذلك قررت أن أفعل المستحيل من أجلكِ أمي؛ لأنّك أمي.. قررت أن أخرج إلى شوارع مدينتي باحثة عن خيط يوصلني إليه، فوحده هو من يملك القدرة على القضاء على أشباح غرفتك..
وتمضي الأيام وتزداد حالة أمي سوءا، فأضيع أنا ويضيع مني حاضري لأغرق في ماض ظنوه ميتا، قبروه كل تلك السنين فهل كان صدقا ميتا؟
وتأخذني ذاكرتي مع صباح يوم جميل إلى حيّه القديم، فعَجِلْتُ إليه أمي لأريحك وترتاحي، وهناك بدأت معاناتي.. سألتُ كلَّ من سألتُ عنه فلا أحدّ مدني بجواب شافٍ.
وذات يوم بينما كنت أجوب شارعه مختلسة لحظة مجهضة من ماض بعيد، أحسست كأنّ طيفا كان يرصدني، يتبعني لكن عن بعد، تعمدت الإسراع بمشيتي وفي آخر الشارع باغتّه واستدرت، ويا للمفاجأة، كان هو، نعم ربما هو.. رجل الأحلام المجهضة.. تسمَّرت في مكاني، ورغم حاجتي إليه الملحة ضاعت مني لغتي.. ضِعْت بين روح استوطنت كياني كل ذاك العمر وبين جسد ضاعت مني ملامحه عند أول لقاء به بعد عمر، وهو على بعد شبرين من آخر خطوة لي، فأنجدتني الذاكرة بصورته القديمة. فرحتُ أبحثُ عنه فيه..، لكنه وبشغف المحب لملم شتات السنين وسألني كيف حالكِ؟ هل حضرت لوحدك؟ بل ما الذي رمى بك إلى شارعي أيتها الحبيبة الغالية؟..
رفعت عيني إليه فوجدتُني حزنا يسكن فيض المدامع، هممت أن أرفع يدي إلى وجهه فأمسح عنه رماد حزنه الداخلي، أرد عليه روحه التي فارقته منذ ذلك الزمن، فالآن فقط أدركت أنني عشت كل ذلك العمر جسدا بلا روح، تماما كما هو.. فالروح هائمة تبحث عن توأمها، نعم أدركت أن روحي غادرتني يوم نحروا كلّ أحلامي برمية قناص محترف..
فبت بعد حريق الأولى في نار..(حب) ..
وأمسيت بعد نحر الثانية واستبدالها بعصا الطاعة في ( ألم ).. (حلم) …
وبلغتُ في مرمى الثالثة مرْحلةً تحول فيها الحنين أنينا داخليا.. نشيجا يعلو أحيانا ومعه تفيضُ المدامع، فأغرق في بحر وجدي حتى الثمالة، ثمّ أعود لأستفيق من جديد..
انتظر مني جوابا فلما لم أجب..اقترب مني أكثر وسألني بوجه متجهم هل قطعوا لسانك يومها، كلّ شيء منهم وقتها كان محتملا..؟ هززت رأسي بقوة وأنا أردد: لا..لا.
تراجع إلى الخلف وهو يتنفس الصعداء وأعاد سؤاله الأول فاستجمعت كل قوتي ورددت عليه: أنا بخير، ولأكون معك صادقة أكثر إنما حضرت لشارعك اليوم لأُمسك بلحظة مهربة من الزمن الجميل. ابتسم وهو يردد: الزمن الجميل، وهل بقي لذكرى جميلة من ذلك الزمن وهجها؟.
آه، حبيبتي سلبونا كل شيء بغير وجه حق.. اقتلعونا من جذورنا واستنبتوا كلّ واحد منا في أرض يباب، وانتظروا منا مواسم الجني، فما جنينا إلا الفراق، الشوق، الحنين والفقد..
وعندها تذكرت أمي.. أدركت عمق معاناتها. فباغته سائلة هل لهذا القلب الطيب أن يسامح أهلي؟ هل لو طلبت منك أن تدخل على أمي على فراش مرضها زائرا كنتَ ستفعل؟.
نظر إليّ وقد اغرورقت مقلتاه. نعم أفعل، فإن لم يكن من أجلهم، فمن أجلك أيتها الحبيبة الغالية، فلم أدر إلا وأنا أمسك بيمناه وأجرّه في الشارع مستوقفة سيارة أجرة، فلما توقفت قبض على يدي بقوة وهو يسألني: إلى أين الوجهة ميرة؟، فرددت عليه: إلى أمي فهي في انتظارنا حياتي.. ومضينا ويدي ترقد بين يديه حتى بلغنا شارعي، عندها طلب هو من السائق أن يتوقف على بعد بِضْع أمتار من بيتنا، خرجنا وفي صدر كلّ واحد منا ألف سؤال، خطا خطوات ثلاث ثم توقف فأخبرته أن البيت مازال إلى الامام فرد عليّ وكيف أنسى؟.. استغربت إجابته لأول وهلة، لكنني استدركت فيما بعد وأنا أقول في نفسي لعلها الذكرى، ألم يزر المكان سابقا؟..، فرد عليّ: نعم أيتها الغالية هي الذكرى.. هنا في هذا المكان بالذات طُلب مني ألا أعود إليه مرة ثانية وقد عدتُ. أمسكتُه من يمناه وأنا أذكّره عدْنَا معا حبيبي وأسرعت الخطى.
فلما بلغت الباب، فتحته ودخلنا، كان الجميع هناك، سألتهم مرعوبة لا تقولوا أنّ الأوان قد فات فاقتربت مني إحداهن متسائلة لماذا الطبيب ميرة؟ فرددت عليها وأنا أصعد السلم ليقضي على أشباح الغرفة.. فردت عليّ: أي أشباح؟ بل وأي غرفة؟ فرددت عليها: غرفة أمي.. فتيبست في مكانها ولم تنبس ببنت شفة.
ناديت أمي وأنا أصعد السلم..
أمي.. أمي، لقد عثرت عليه أخيرا، لقد عاد معي، حضر لأجلك أمي.. فكوني في استقبال ضيفك؛ إذ لا يليق أن يراك نائمة بعد طول غياب.. قومي أمي، قومي..
فلما توسطنا الغرفة وجدناها غارقة في نومها، اقترب منها وهو ينظر إليها، ثم استدار إليّ سائلا: هل فعلا هذه أم ميرة التي التقيتها ذات يوليو؟ فأجبته: نعم هي بشحمها ولحمها. دنا من جبينها في حنو ليرسم قبلته فسبقته دموعه إليه، فاستفاقت وهي تطلب نجدتي متوجسة منه خيفة وممسكة بتلابيبه، أمسك يديها مقبلا إياهما وهو يقول لها: هذا أنا خالتي هل تذكرينني؟ فردت عليه وكيف لا أذكرك وأنت تقاسمني غرفتي منذ زمن؟
ردّ عليها: أنا أقاسمك غرفتك كيف؟ فردت عليه: لي منها أرضها، ولك منها سماؤها أيها الولد، فرد عليها: أنا لم أعد ولدا خالتي أنا على مشارف الأربعين، وإني لمقاسمك أرضها ولم أكن يوما مالكا لسمائها، فردت عليه: بل أنت في سمائها منذ عهدك تقيم، يا من ظلّ عندي شابا على مرّ السنين منذ ذا اليوليو؛ ولأنه كان قريبا جدا منها، حضنها برفق كبير وهو يقبل جبينها طالبا منها أن تهدأ لأنه ما حضر إلا من أجل راحتها..فردت عليه: هي راحتي ما أريده بني، هي سكينتي وهدوئي، فهل أنت مانحي إياها؟
رد عليها: وكيف لا أفعل بأم فتاة أحلامي، صغيرتي التي مازال حبها عالقا بجدار القلب إلى يومنا هذا؟
سألته: هل ما زلت على عهدك القديم؟ فأجابها إنما بعهدي ذاك وعليه أحيا خالتي..
عندها طلبت مني أن آتيها من حيث هو آتيها وأقف إلى جواره، فلما فعلتُ طلبت مني يمناي وأمسكت يده اليمنى وهي تمسح بيسراها تقاسيم وجهه، ثمّ قربته إليها في هدوء ورسمت على خدّه الأيسر قبلة عميقة بعينين دامعتين، بعدها جعلت يمناي ترقد في يمينه لتسلم روحها وجسدها إلى رقدتها الأبدية في سلام وهي تردد: هذا قدرُك رُدَّ إليك بُنَيَّ، فأرجو ألاّ تنسى أن ترد إليّ سكينتي، ردّ إليّ سكينتي بُنيَّ لا تنسى..