نورة عبيد
اللوحة: الفنانة السعودية ليلى مال الله
إلى ثريّا الدّريدي حين التقينا بالحافلة C4، في طريقها إلى الرّازي (مستشفى الأمراض العقليّة بمنوبة)، كنّا تلميذتيْن نجيبتيْن نتقاسم كلّ شيء؛ العزم والنّجاح والوطنيّة والأخوّة.
سحب الصّندوق المزخرف من تحت أغطية صوفيّة مرصّفة على الجهة اليمنى من غرفة مستطيلة الشّكل، حمله بين ذراعيه وتمايل إلى اليمين قليلا ليتثبت من فوهة حجريّة تطلّ على فناء أنظار الذين يشاركونه كراء هذا الفضاء المتآكل.
غرفة مستطيلة ذات قباب ثلاث، يتوسّط كلّ واحدة منها صحن بلوريّ مصقول، يطغى عليها اللّون الأحمر في مزيج من كرنفال البرتقاليّ والورديّ، يتدلّى من أوسطهم مصباح ضئيل نوره، يشعله كلّما دخل الغرفة صباحا أو مساء، وحتّى في هاجرة الصّيف الوقّادة.
تهادى والصّندوق كأنّه يحتفل بدلال عروس بين يديه، اتجه نحو فراشه الحديديّ الرّجراج، وضعه في ابتسام وحنوّ، تيقّن من زخارفه الأرجوانيّة؛ أزهار الأقحوان وشقائق النّعمان المتداخلة التيجان والكؤوس، أرضيّته الخضراء المائلة إلى لون الأرض المعطّرة بثراء آنيّ، سمكه مضغوط بأسود باهت عند التقاء الرّتاج الحديديّ العتيق.
مرّر عليه يده المتقرّنة ذات الأصابع المتكوّرة، تفحّصه من الجانبين، سرّح نظره في أرجاء محيطه المسكون بالعادات العجيبة، تفطّن إلى سقوط أغطية الصّوف على الأرضيّة، بادلها التّحيّة واستسمحها غفلته، فبين يديه ما يُسقط أيّ حضور، نزع عنه القشابيّة، رتّب بدلته وأعاد تسوية طربوشه الأحمر القاني، ابتهج بنداء زخات المطر الخارجيّة، على عجل أعدّ قهوة مرّة، فتشمّم رائحتها، وغنّى لها وهو يستضيفها في فنجان أسود متكوّر صغير.
اليوم عطلته المسائيّة، يتغذّى عند العم مخلوف رأس خروف مصليّ معطّر بالإكليل والزّعتر ممزوجا بالبهارات الشّرقيّة، ولا يزال يذكّر العم مخلوف في كلّ مرّة منذ عشرين سنة أنّه يحبّذ المذاق التّونسيّ الخالص، فيعده ويخلف وعده إلى حدود هذه السّاعة.
وضع القهوة على كرسيّ خشبيّ قرّبه من فراشه، تمدّد مسندا ظهره إلى الصّندوق، فتسارعت دقّات قلبه حتّى سرت حرارة في جسده النّحيل، كالحريق شبّت في منعطفات الإبط والكفّين، تعالى القلق إلى لحيته الرّماديّة، فحكّ عينيه الواسعتين ثم تمطط في شجن، ورمى الطربوش يسارا، وأمسك برقبته، ثمّ لفّ عنقه بأصابع يده اليمنى حتّى سعل في تقطّع، ثمّ أطبق جفنيه في حركة متباطئة بحيث تجمّعت بين رموشه ألوان الضّياء والظّلمة، زفر في حلكة السّواد التي أطبق عليها نوره ثمّ مسك الفنجان بين كفيه واحتسى قهوته على هذه الهيأة، ولمّا سكن فؤاده وهدأت مهجته، تزايد قطر المطر، فدبّ فيه برد أوائل الشّتاء اللاّذع، فنهض من غفوته، وانتبه في فرح إلى الصّندوق خلف ظهره، كأنّه يخاف أن يفقده، وكثيرا ما تهيّأ له أنّه فقده.
أدار وجهه إليه، فقهقه في اهتزاز تجاوبت معه أركان الغرفة الخاويّة، جذب جوربيه إلى أعلى وأحكم اتصالهما بسرواله ليقضي على موجات الهواء الباردة المتسلّلة من الفجوج.
مسك الرّتاج وفكّ رموزه، فاتسعت فتحته، أدخل يديّه في الصّندوق فتحسّس أشياءه في خبط عشوائيّ حتّى تحفّزت ملامحه، تصاعد الغبن إلى روحه، جرت في عروقه نيران الجنون، فتسارع لسانه بغمغمات اللّعن والتّنكّر، واحمرّت أذناه، واحتدّ أنفه، وسال دمعه في استرسال، حتّى تعالى النّشيج وتعالى وقع المطر.
في الصندوق تاريخه الشّخصيّ المهيب؛ شهادة وفاة والده بمستشفى الأمراض العقليّة الرّازي بضاحيّة منوبة، يوم حُمِل إلى ذلك المكان من قريته وادي الخطف، كان قد تهجّم على عمدة الجهة لأنّه تماطل في إسناده شهادة مناضل بترتيب مع الجهات المعنيّة، وهو الذي فقد يده في الثّورة المسلّحة التي سبقت الاستقلال إعلاء للوطنيّة، بينما حاز عليها جاره مربوح وهو الذي حوّل بيته مأوى للجنود الفرنسيين، حكايته طويلة لكنّ ذاك رأسها.
يومها التحق بأبيه، واكترى هذه الغرفة، وبقي يزوره ويروي له في كلّ مرّة قصّة النّضال المجنونة إلى أن فارق الحكاية وفارقته.
ولمّا عاد به إلى وادي الخطف وجد أهله في دكّة الضّجر، ماتت والدته ذات صباح، وجدوها غارقة في الوادي المتاخم لمنزلها إذ غمرها الفيض، مخنوقة بلحافها، ملفوفة في ملاءتها.
لم يحدّث عن أبيه ولم يتحدّث عن أمّه، طالب بملاءتها وصندوقها صندوق جهاز عرسها، أتمّ الجنازة، شيّع أوهام الحياة، تطيّب بلقاء جدّته لأمّه، وهبته قُبلتها الأخيرة، جرّ الصندوق والملاءة خلفه، وبدا حمارا يحمل حكايات، ثمّ عاد إلى هذه الغرفة يزور المجانين ويقاسمهم الانفلات.
أخرج الملاءة، وجمّعها على ركبتيه، ثمّ استند إلى أعلى، حتّى سقط في بطن الصندوق، فتجمّع الصّدى في رأسه، تغطى تماما بالملاءة رفرفت حوله حكايات الوجع؛ رأى أباه والتحقت بهما أمّه، وروت لهما في بطء وهمس وقائع الوحل.