اللوحة: الفنان الفلسطيني خالد شاهين
بهزائم تبدو صغيرة في مجال اللغة أو الثقافة، تبدأ الهزائم الكبرى في ميادين القتال ومعارك البناء، وبسقوط قاعدة نحوية، أو تهدُّمِ حرفٍ هناك أو نقطةٍ هنا، يبدأ سقوط هيبة الدولة في حساب أعدائها، وعيون جيرانها وقلوب مواطنيها، فهزيمة الدولة في أهلها هي خلل في “التكتيك” أو التخطيط يقع أحياناً، أما الأولى فدليل على خلل دائم في شخصية الأمة، وعلى عتامة مَرَضية في رؤية القائمين على التعليم.
“كانيا بروفوروفا” –17 سنة -، طالبة روسية كانت تستعد للالتحاق بكلية الطب، بعثت برسالة إلى الرئيس “فلاديمير بوتين”، ارتكبت فيها بعض الأخطاء اللغوية والنحوية، ونسيت بعض علامات الترقيم.
الرئيس الذي يتحمل حتى اليوم كل هذه الهموم المرهقة أمام المعضلات العالمية، لم يتحمل هذه المراهقة اللغوية من طالبة لم تتخرج بعد من مرحلتها الثانوية، لقد رأى القائد أن الخلل هنا يتجاوز أمر رسالة وتلميذة، إلى أمر أمة توشك أن تسقط في أداء رسالتها والحفاظ على هيبتها.
هذه الحادثة التي هزت “بوتين”، لم تقتصر على استدعاء القائمين على مدرسة “كانيا” وتأنيبهم على تدني مستوى الطلاب في لغتهم الأم، لقد تحدث العالم كله عن هذه الواقعة، وعن غضب “الكرملين” للأمر الذي غضب له “بوتين”، وانتقل الغضب إلى القائمين على التعليم ثم انتفضت له كل الشرايين، حتى صدر قرار بتجريد الطالبة “كانيا” من “الميدالية الفضية” التي كافحت من أجلها، كما تقرر حرمانها من بعض درجات النشاط، مما قلل كثيراً من فرص دخولها كلية الطب وهي حلمها القديم، ولم تنفعها شفاعة الشافعين، ولا شهادة ناظرة المدرسة.
الطريف – عزيزي القارئ – أن “كانيا” التي كانت قد تعبت في البحث عن أحد يعيرها “كاميرا” لتصوير حفل تخرجها “بالفيديو”، لم تكن تدري أن كاميرات الإعلام سوف تبحث عنها وتروي قصتها مع “بوتين” وأن هذه الرواية ستجلب عليها وعلى مدرستها هذا العار اللغوي، ولم تكن تدري أيضاً، أن “الكرملين”، سوف يرق لها ولمدرستها فيقرر منحها “كاميرا فيديو”، لتصوير هذه المناسبات. (عن صحيفة “المساء” المصرية – د. أحمد عبد اللاه).
“فلاديمير بوتين” يرى “روسيا” في إطار هذا العالم، وفي إطار العولمة، رؤية “بانورامية” نافذة، تتحدد فيها بدقة كل المراكز العصبية، والمفاصل الأساسية التي ينهدم لها بنيان الدولة، فالرجل قد تقلب في أشد المراكز الحساسة من المخابرات إلى الأمن إلى رئاسة الوزراء إلى قمة الدولة، وهذه الخبرات المعمقة، خلقت له عيوناً ومدت له أنوفاً وآذاناً شديدة الحس، لا تفرق بين خطر قادم من أخطاء اللغة والإملاء والنحو، وآخر قادم من أخطاء العسكرية والاقتصاد والسياسة، وهذا الإحساس نفسه هو الذي رفع قضية “كانيا” وأخطائها اللغوية لتحتل هذه المساحة من اهتمام رجل تتنازعه قضايا كبرى، لا يقل خطر المحلي منها عن خطر العالمي.
وإذا كان التشبيه هنا مع الفارق طبعاً، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يوم شهد سباقاً في الرماية بين الشباب، سأل أحد الذين فاتهم الحظ عن السبب، فأجابه: يا أمير المؤمنين، نحن (متعلمين).. فقال عمر في أسف: لخطؤك في قولك أشد علىّ من خطئك في رميك!!، وهذا – عزيزي القارئ – دليل مبكر على وعي القيادة في الإسلام، بأنه لا فرق بين سقوط قاعدة من قواعد النحو، وسقوط قاعدة من قواعد الجيش، أو انهدام ركن من أركان الدولة.
الموقف “العمري” الذي روتْهُ كتُب التراث، وموقف “أنيا” الذي روتْهُ “المساء” القاهرية، كلاهما يفضي إلى معنيين مهمين للغاية، أحدهما، وعي مفرط بأهمية اللغة في منظومة ثوابت الدولة، والآخر، هو أن عجلة الإصلاح اللغوي لا تبدأ في الدوران، إلا إذا دفعتها بقوة، يد ذات قرار سياسي نافذ، وإلا فسوف تنشقّ حناجرُ رجال التربية والتعليم واللغة بلا جدوى، فالعجلة لا تدور بالصراع.
عَبَسَ “بوتين” وتولَّى، فجاش بالغضب “الكرملين”، فانتفضت أنظمة وزارة التعليم، فارتفع نجم اللغة.. أصر “هرتزل” وكبار الحاخامات على إزاحة التراب عن “العبرية” ونبش مقابر التاريخ، فصارت الميتة لغة يومية، بل لغة أكاديمة يدرس بها ناسٌ لا تربطهم لغة ولا ثقافة.. ومن أعجب العجب أن يكون هؤلاء وهؤلاء في باطلهم، أشد حماساً منا في حقنا، ومع ذلك فإن لدى المخلصين أملاً لا ينقضي، في يوم قريب يشهد اهتمام قياداتنا السياسية بتلك القضية الأساسية، كما يشهد حماية اللغة العربية من الاستخفاف بها في وسائل الإعلام، ومن الزعم الساذج بأن الجمهور لا يفهمها، وبأن العامية أسهل، مع أن أحدًا لم يسأل بعد، ملايين الأطفال وهم مندمجون في برامج “الكارتون” الناطقة بلغة جميلة فصيحة، ولم نسأل بعد، جموع العوام والعجائز، وهم يتابعون مسلسل “عمر بن عبد العزيز” مثلاً في حالة إعجاب مدهش.
لو كنت المسئول لأعلنت حالة الطوارئ، وأنشأت “مديرية الأمن اللغوي”، وأمرت بالقبض على كل مذيع أو صحفي يرتكب هذه الخطايا اللغوية، ولأقصيت كل معلم أو أستاذ ملوث اللغة، ينطق العامية أمام طلابه، أو يخلطها برطانات فارغة من لغات أخرى في غير ضرورة، ولو كنت المسئول، لأزلت من الشارع العربي، كل لافتة تلوث عيون الناس وأفكارهم بلغة أجنبية، ولمَّا كان جهد المقل حُسن المقال، فإن هذا نداء لكل مسئول أن يجعل من كل مخطئ في اللغة العربية “كانيا بروفوروفا”، وبذلك يتم العدل بين كانيا وأخواتها .