الكابوس

الكابوس

حسام أبو العلا

اللوحة: الفنان الفرنسي كلود مونيه 

لم أصدق عينى، كان ما رأيته كافيا لأن يجعل الدهشة تشل أطرافى، فأقف فى شرفة شقتى غير قادر على الحركة، لكنه كان حقيقيا، فملامحها لم تتغير رغم مرور ما يقرب من عشر سنوات على آخر مرة رأيتها فيها.. تساءلت: لماذا اختارت شقيقة أول فتاة أحببتها أن تقطن فى شقة بالعقار المواجه لشقتى؟، لماذا يطارنى الماضى  الذى هربت منه طوال هذه السنوات عندما تركت منزل العائلة وتزوجت فى هذه الشقة البعيدة لأبتعد عن الأماكن التي شهدت ماكنت اظنه فرحة العمر لكن سرعان ما تحول إلى كابوس مزعج؟. 

غادرت الشرفة بصعوبة، ورفضت تناول الإفطار الذى أعدته زوجتى متحججا بألم وهمى فى معدتى، وغادرت المنزل فى طريقى للعمل بينما انشغل ذهنى بسؤال واحد: هل سألتقي بالحبيبة التي صارت ماضيا عندما هدمت جسر المحبة ودهست المشاعر والأحاسيس البريئة بقسوة؟.. نعم، لقد جرحتني عندما طالبتنى بأن أطفئ جذوة الحب المشتعل في قلبي خشية ألا تمكني ظروفي المالية من توفير حياة رغدة مثل التي تنعم بها في بيت والدها، حينها توهمت أن حياتي انتهت، فكنت أستيقظ مفزوعا على كابوس مشهد زفافها لشخص آخر حتى أصبح الكابوس حقيقة وتزوجت من ابن شريك والدها في التجارة.

عزمت ألا ألتقى بها مرة أخرى مهما كانت الظروف فقد تيقنت أنها كانت تخدعني، وأنها لم تكن صادقة أبدا، بل كانت تتلاعب بمشاعري، وظل ذلك الكابوس الذى تظهر فيه بملابس الزفاف يطادرني في منامي ولم أتخلص منه إلا بعد عدة أعوام، أو بالأحرى أنى قد أوهمت نفسى بأنى قد تخلصت منه، فبالرغم مما شعرت به من جرح غائر، فإن قلبى لم يطاوعني على حرق”الذكريات”، فوضعت صورنا وخطاباتنا بين أوراقي المهمة، وإن لم أتصفحها أبدا طوال هذه السنوات، فقد وقفت كرامتي حاجزا دائما بيني وإعادة تصفح هذه الذكريات. 

بعد أيام لم أكف فيها عن مراقبة شقة شقيقتها حدث ما كنت أخشاه، فقد لمحت حبيبتى السابقة تنزل من سيارة فارهة وتدخل العقار، تمهلت حتى تأكدت من صعودها، ارتبكت ولم أعرف ما الذى يمكن أن أفعله، وجدت نفسى أسرع إلى زوجتى وأطبع قبلة مرتبكة على جبينها، ولما رأيت الدهشة على وجهها، طلبت منها الدعاء لأنى بصدد البدء فى عمل مهم، أحتاج فيه للتركيز الكامل، وقبل أن تفيق من دهشتها كنت قد دخلت غرفة مكتبى وطلبت منها ألا يزعجنى أحد،وأغلقت الباب.

وجدتني أخرج صندوق الذكريات من درج مكتبى الذى أحتفظ فيه بأوراقى المهمة، كنت مسلوب الإرادة فقد أشعل رؤياها فى قلبى الشوق لنبش الماضي واسترجاع ذكرياتي، رغم مرارة وقسوة هذه الذكريات، ومرت ساعات وأنا اتأمل الصور واٌقرأ الكلام المعسول فى الخطابات، وفجأة وجدت وجه زوجتى يلوح فى الأفق، وهاجمنى ضميرى بعنف، فأنا الآن زوج لامرأة وهبتنى حياتها راضية، وعاشت معى طوال هذه السنوات حنونة ومعطاءة، حريصة على أن توفر لي كافة سبل النجاح وترعي بيتها دون تقصير، مما جعل حياتنا تسير بهدوء واستقرار استطاعت أن توفره ببراعة وحب.

انتفضت لأواجه محاولات قلبي أن يسقطني في بئر الماضي، فتحت نافذة الغرفة لاتنسم عبير الهواء واستفيق من حالة “التوهان” التي أصابتني فإذا بالقدر يضع من كان يهواها قلبي أمام عيني، فقد كانت تقف بجوار شقيقتها تطل من الشرفة، تراجعت للوراء حتى لا تراني ومن خلف الستار وقفت أتلصص وأراقبها، لم اتمكن من مقاومة رغبتي الملحة فى فحص ملامحها، وفجأة دخلت زوجتي تدعونى لتناول طعام العشاء، كنت أقف وراء ستائر النافذة، أراقب الوجه الذى باعتنى صاحبته فى يوم من الأيام، فتعللت بأنى أتنسم بعض الهواء محاولا التخلص من توتر العمل، ولم يبد عليها أنها قد اقتنعت، بالرغم من محاولاتى المفتعلة لتدليلها أثناء تناول الطعام.

وفى الليل أبىت عيناى أن تستسلما للنوم، وانتظرت حتى غطت زوجتي في سبات عميق، وذهبت مجددا للنافذة وبداخلي أمل أن أرى وجه الحبيبة السابقة مرة أخرى، لكنى وجدت الشرفة خالية، وأنوار الشقة مطفأة، فعدت إلى مضجعي محاولا الحصول على أى قدر من النوم، لكن ما إن غفوت حتى هاجمنى كابوس “فستان الزفاف” لأول مرة منذ سنوات. 

بدأت أحاول إقناع نفسى بأنى أفكر في إمرأة باعت حبي ومشاعري من أجل المال، اعتبرت هذا التفكير خيانة لزوجتى التى ارتضت بظروفي في بداية مشواري وتحملت مصاعب كثيرة حتى حققت نجاحا في عملي، قررت استجماع قواي لتمكن من هزيمة هواجس الانجرار لذكريات الماضي، طالبت زوجتي بأن تستعد هي والأولاد لقضاء أجازة نهاية الأسبوع في مدينة ساحلية، عدت من العمل مفعما بالأمل واحضرت باقة من الورود لرفيقة الدرب التي استقبلتني بوجوم شديد، تعجبت فليس من عادتها هذا الإحساس البارد، حاولت استضياح الأسباب، فكان ردها باردا: “لقد نسيت أحد أدراج مكتبك مفتوحا، وعندما كنت أغلقه لفت نظري ملف تبعثرت أوراقه وأصابتني صدمة مما يحتويه من صور وخطابات، توهمت أنك نسيت الماضي بعد زواجنا لكن يبدو أنك مازالت أسيرا لذكرياتك وحبك القديم.”

لم اتمكن من الرد عليها وسقطت باقة الورود تحت قدميَّ، هرولت لغرفة مكتبي والشعور بالخجل يعصف بكياني، ولم يخترق صمت المكان إلا صوت باب الشقة وهو يغلق، بحثت عن زوجتي وأولادي فلم أجد إلا بقايا ملابسهم.


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.