اللوحة التي تركناها فوق سطح القمر

اللوحة التي تركناها فوق سطح القمر

أحمد الدسوقي مرسي

اللوحة: الفنان المصري محمد طوسون 

مسحت بكفها على جبينى . قبلتنى فى حنان، ربتت على كتفى و قالت :

–        ستستريح الآن :

أحسست بالانتعاش قليلا . قلت لها بعد هنيهة و انا اضغط على راحتها الصغيرة فى حب و امتنان

–        اجلسى بجانبى الان.. حتى اقص عليك حلم ليلتى الجميل

اطاعتنى، جلست على حافة السرير

–        خيراً.. ان شاء الله

تعمدت ان انظر فى عينيها لارى كيف يفجأها العجب حين أبدأ

–        لقد كنا معاً على القمر

هزت رأسها و لم تتكلم :

–        كنا سعداء و نحن ندرج على سطحه

بدأت فى معاكستى

–        انتظر.. .و الجاذبية.. 

و ابتسمت بمكر عابث :

–        لم يكن لها من اثر علينا ألبته.. صدقينى.. .لقد كنا نسير خطواتنا، كما عهدناها على الارض.. اعجب ما فى الامر اننا كنا نتنفس من هواء موجود

تضاحكت، و دفعت براسها الى الخلف، فارتدت خصلة من شعرها الى مكانها

–        نزهة كانت أم زيارة ؟

–        لست ادرى تماما.. لقد كنا نمضى معاً الى اللامكان.. حتى بدت لنا فى النهاية حديقة غناء واسعة الارجاء اشجارها باسقات . قطوفها دانيات.. و ما كدنا ندخل من بابها المفتوح حتى برز الينا طفل صغير يقطع علينا الطريق

سألنا بوجه جاد لا يتناسب و طفولته الصغيرة :  

–        قفا من فضلكما  

و اقترب منا اكثر نظرنا اليه حائرين :

هل معكما ممنوعات ؟

–        أى ممنوعات تقصد يا صغيرنا العزيز ؟

رد فى حسم قاطع كرجالات الجمارك :

–        ممنوعات.. .الا تعرفان ما الممنوعات ؟

قلت له و انا اربت على شعره المسترسل الناعم :

–        اطمئن.. ليس معنا ذهبا و لا فضة.. و دعنا الان ندخل جنتك التى لا اظن ان تبيد مثلها ابدا

تبسم الصغير من بلاهتنا :

–        تلك ممنوعات الارض.. ثمة ممنوعات اخرى على القمر

و سكت قليلا و نظر إلينا بعينين واسعتين، حانيتين ثم انفجر ضاحكا شاركناه فى ضحكه البرىء

–        هكذا.. و بهذه السهولة ندخل

–        نعم.. فما دمتما لا تحملان الضغينة لاحد و قلباكما عامرين بالمحبة.. فأنتما سعيدان و جنتنا لا يدخلها الا السعداء.. .سيرا على هذه الطريق هناك، و اشار بيده الصغيرة الى طريق ممهدة جميلة تحف بها الشجيرات و الورود و مضينا فيها معا . كنا سعداء حقا.. .عرفنا سبب سعادتنا كشفها لنا هذا الصغير الحكيم، انطلقنا نجرى كطفلين سعيدين . نشم الازهار و نطارد الاطيار، و ضحكاتنا تجلجل فى الافاق صداحة بالنشوة و الحبور كنت احس بشفاء عجيب.. لا الم.. لا اوجاع.. اعضائى كلها تعمل فى قوة و سهولة

–        انى جائعة

و رددت عليك من بعيد

–        و انا ايضا

و مشينا . نبحث فى ارجاء الحديقة عن طعام

فجأة برز لنا طفل الحديقة من جديد.. انشقت عنه النباتات الخضراء . وقف امامنا وابتسامته الجميلة تجلل فاه الصغير

–        هناك

و اشار بيده البضة الى جبل اشم، ضرب بهامته العظيمة فى الفضاء الرحيب . نظرنا قمة الجبل الشامخة فهالنا الارتفاع السحيق

–        ماذا تقصد يا صغيرنا الحبيب ؟

–        الا تريدان طعاما ؟

تبسمنا لذكائه :

بلى نريد.. .و لكن انظر.. انه ارتفاع شاهق و شديد، هل ترانا نستطيع الوصول اليه ؟

و تطلعت يائسا الى جسد الجبل الراقد كخرافة بلا حدود، و هو يشمخ برأسه الجليلة سامقا فى الرحاب

ضحك الصغير . هز سبابته فى مرح : يا لكما من ساذجين حقا.. .ما دام قلباكما عامرين بالمحبة، فلن تحسا ابدا بمشقة الصعود

و غادرنا مختفيا كما اتانا.. .تلفتنا حوالينا فما رأيناه ذاب فى الهواء.. تعجبنا و ضحكنا، ضحك طفلين سعيدين و اقدامنا تهرول نحو سفح الجبل الرائع، المهيب.. طريق ممهدة ملتوية، تلتصق كالشريط على ظهره.. صعودنا عليها كان سهلا حقا و يسيرا.. صعود رفيق، سريع لم نحس معه رهقا و لا نصبا.. راينا خلقا كثيرين يتحلقون حول مقصف صغير نظيف.. يضحكون . يتكلمون.. سعادتهم تنضح من كلماتهم.. صفاؤهم يتلالا فى اعينهم . اذابنا جمعهم وجدناهم يدخلون من باب صغير للمقصف و يخرجون من اخر و فى يد كل منهم طعاما.. .استوقفتنا فتاة صغيرة

–        قفا من فضلكما

و اقتربت منا

–        طعامنا له ثمن

تسللت أصابعى مسرعة الى جيبى، تفتش لها عن نقود، فاذا بها ترتطم بالخواء.. 

ابتسمت الفتاة فى مرح رقيق و قالت :

–        لا تتعب نفسك.. لا نريد شيئا مما تبحث عنه شىء اخر نريده و ما نريده لا يوجد ابدا فى جيبك

و عادت تبتسم، ودفعت الى صدرينا بمرآة صغيرة شدتها اسلاك رفيعة الى جهاز صغير نظرت فيها مليا ثم قالت و هى تقلب المرآة وتقترب بها منا :

–        حقد لا يوجد

ثم ادارتها بين يديها :

–        الكراهية لا توجد ايضا

و قربت المرآة أكثر

–        شىء ناصع يتلالا.. رائع.. رائع.. 

انحنت لنا فى تأدب رقيق و قالت بصوت لطيف النبرات : 

–        تفضلا بالدخول، خذا ما تحتاجان اليه من طعام

تركناها تبتسم و مرآتها الصغيرة السحرية تفتش لها عن الحب فى قلوب الاخرين، و خرجنا من الباب الاخر، و يد كل منا تحمل طعاما لذيذا شهيا

تضاحكت، و ضربت يدى بكفها :

–        الجعان يحلم بسوق العيش

خبطتها على فخذها : 

–        اسكتى.. لا تفسدى روعة الحلم الجميل

طيب.. طيب.. اكمل

–        و فى مكان بعيد.. بعيد.. تناثرت فيه الصخور و تزاحمت راينا شجرة وارفة.. تقف فى هذا القفر، وحيدة، شامخة كشيطان مريد.. .تحمل بين اوراقها ثمرا عجيبا، يتدلى من اغصانها الطويلة، فى اغراء مثير وعلى لافتة مثبتة امامها كتب بخط عريض جميل

” هذه الشجرة من الارض فلا تقربوها، و لا تأكلوا من ثمرها ” 

وقفنا امامها ذاهلين : لماذا ؟.. .ماذا فيها حتى لا تقربها ؟.. .اننا من الارض و هى من كوكبنا، و كل غريب للغريب نسيب

قلت لك باصرار عنيد :

–        ساقطف بعضا من ثمرها

امسكت بذراعى فى فزع تمنعيننى

–        لا داعى للتجربة

لكنى دفعت بيديك عنى، و اندفعت – و اأسفا !!-.. .اقطف منها ثمرة  

–        انظرى.. .يا لها من ثمرة ناضجة جميلة

و قضمت منها قضمة

–        ما ألذها.. ما احلاها.. اليك واحدة

و قطفت لك واحدة

–        خذيها.. خذيها.. انها ثمار لذيذة

قاطعتنى : 

–        و اخذتها منك ؟

هززت راسى موافقا :

–        للاسف.. نعم

ابتسمت فى حزن :

–        يا خسارة.. مأساة عادت على يديك من جديد.. ثم بعد يا آدمى الحبيب

–        لم تمض سوى دقائق قليلة، حتى دب فى جسدينا شيء غريب.. شيء ارضى سخيف استيقظت كل الغرائز الغافية بوحشيتها و جبروتها وعربدت فى روحينا كالنار فى الهشيم ولاول مرة احسسنا اننا متعبان و اننا غريبان و اننا حقا تائهان.. و بين هذه الاحاسيس الملعونة شق السكون الرتيب فجاة صوت انسان يستغيث : 

–        اغيثانى.. .ادركانى.. 

و هرول الينا رجل اسود . ضامر الجسد . عاريا الا من اسمال.. فى وجهه كل الذعر و فى عينيه كل الخوف.. و رجل ابيض ينطلق خلفه جادا غاضبا.. نظر الرجل خلفه فلمحه يقترب منه.. .زاد ذعره اشتعالا

–        ادركانى.. سوف يقتلنى حتما

و يا للعار.. لم نحرك له ساكنا.. ظللنا واقفين كأننا نشهد فيلما مثيرا لا يعنينا.. 

ضاقت المسافة . اقترب العملاق الابيض اكثر.. هوى المسكين الاسود على وجهه، و فوقه العملاق الابيض و ألتمع فى الضوء الخافت، نصل رهيف.. غاص فى اللحم الى اخره . دوت صرخة . تشنج الجسد النحيل فى عصبية ملتاثة و الدماء من الثقب الرهيب، تتدفق بغزارة.. .كلماته الاخيرة ترن فى الفضاء الساكن كالنذير :

–        او حسبت انك واصل.. ابدا لن تصل.. لن تصل

و اختلج الجسد قليلا، ثم هدأ تماماً و كأنه غرق فى بحر الصمت العميق الذى ينساح حوالينا بلا حدود

و تبدل المشهد سريعا و اخترقت حجب الصمت الهادىء فرقعات مدويات تدحرجت على اثرها، و تحت اقدامنا عشرات الرؤوس من البشر.. رؤوس دون اجساد و امتلأت الآفاق بالأنين.. أنين أليم.. غامض المصدر.. و تكدست حوالينا الرؤوس، فاذا بك يا حبيبتى

تصرخين و تنشجين و عندئذ فقط احسست اننى مريض و اننى بعد  لم أبل و هاجمتنى الالام فى كل مكان، و خارت قواى، و اهتزت قدماى، فأنهرت اسقط فى اعياء شديد على تربة القمر الناعمة التى شابهت تراب الفحم و رحت فى بكاء ملتاع.. فقلت لى و الخوف والضعف يملآنك : 

–        انهض.. انهض لنهرب

قلت لك :

–        انا لا استطيع.. انا لا اقدر

و غمرنى البكاء المحزون من جديد و ساد الصمت فجاة و كفت الطلقات القذرة عن انفجارها المهيب المخيف، و توقف فيض الرؤوس عن الانتشار والسقوط و مات الانين، و انحسر النحيب، واقتربت منا اقدام ثابتة من مكان مجهول.. .صعدت ابصارنا الى اعلاها.. فاذا بشرطى هائل الجرم يقف قبالنا.. و قد عقد الغضب ما بين حاجبيه، و سقط شعاع عينيه علينا كمذنبين.. صرخ فينا بصوت حاد عميق، و تردد صداه فى الافاق :

–        معى الى مخفر البوليس

قلت له مستعطفا

–        انا لا استطيع.. انا مريض

حدجنا بنظرة اخافتنا.. و انطلقت من فمه كلمة واحدة باترة ( معى )

–        انا مريض

شدنى اليه فى قوة قاسية و امسك بيدينا، و هرول بنا و نحن نلهث خلفه و نستعطف

و فى مخفر البوليس وقفت انا و انت امام ضابط نحيل يشبه فى وجهه.. وجه طفل الحديقة الجميل ، ابتدرنا الرجل فى غضب كظيم و الغضب منه يصبغ وجهه بالارجوان

–        اهذا وعدكما ؟ لماذا جئتما هنا ؟

ثم دق بيمناه حافة مكتبه، فتطاير الغضب من تحت قبضته شظايا صدمتنا بالخوف.. تطلعنا اليه صامتين . ثم تنكست رأسانا فى حزن عميق . فتح درج مكتبه فى قوة و اخرج منها لافتة صغيرة دفعها نحونا فى قوة.. فادركنا على الفور انها لوحتنا و تذكرنا كل شىء، 

     و قراناها فى صمت :

” لقد جئنا فى سلام لكل البشر ”   

نكست رأسى خجلا.. ووضعت اللويحة على مكتبه، و فى صمت هادىء وقور اخذنا نستدير لنخرج، فاذا بصوته الاجش الغضوب، يعود يصرخ فينا اقوى مما كان : 

–        تتركاها مرة اخرى.. .شىء مضحك.. خذاها معكما.. لا نريد منكما لويحات مزخرفة على كوكبنا الهادىء السعيد.. خذاها انتما يا بنى البشر . و مددت يدى لاتناول اللويحة والخجل يتساقط من جسدينا عرقا باردا لاذعا و قلت لك و الحزن القاتل يفجر قلبينا

–        هيا بنا يا زوجتى العزيزة، فلم يعد لنا من بقاء على سطح القمر

فاستيقظت من النوم لاجد نفسى فى غرفة النوم على السرير و انت بجانبى توقظينى بقبلة حانية، و اخذ يقول لزوجته و هو يتمطى على السرير :

–        فقط كان حلما رائعاً، أليس كذلك يا زوجتى العزيزة؟

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.