وليد الزهيري
اللوحة: الفنان الفلسطيني خالد نصار
اعتاد الجلوس في العتمة، متكئًا على جدار بارد، لا يشاركه في عتمته هذا الصباح سوى شعاع ضوء نحيف، يأتيه عن يمينه مخترقًا نافذته ساقطًا على الجدار الأيسر، يتابع نموه وهو قابع في مكانه لا يحرك ساكنًا، يلاحظ سقوطه من أعلى الجدار شيئًا فشيئًا، رآه شعاع ليزر يشق حجرته نصفين من شدة نحافته يقسمها إلى شقين، يزداد حجم شعاع الضوء دفئًا وسمكًا وقت الظهيرة متوسطًا حجرته، لا ترواح عيناه ذلك الضوء، معتدلًا في جلسته استعدادًا لبدء العرض.
متخيلًا من اتساع شعاع ضوء الشمس شاشة فضية، يرى عليها ما يتمناه، يساعده في ذلك ذرات الغبار المتطايرة في الضوء، مشكلًا لوحات متحركة، تارة يراها موجات بحر هادر، أو (شواشي) أشجار متلاحمة لا تختلف عن زهور القرنبيط، أو ملامح شخص افتقده منذ زمن يتجاذب معه أطراف الحديث، أو نظرات حادة لأحد المتسلِّطين عليه.. يملأ رئتيه بالهواء حينها ثم يخرج زفيرًا قويًّا يبعثر به تلك الذرات المتناثرة، معيدًا تشكيل المشهد من جديد.
شاهد اليوم نفسه في الثامنة من عمره، جالسًا على الأرض مع قطع من الصلصال مختلف ألوانه، يشكِّل زرافة من الصلصال لتجاور بقية حيواناته، سمع صراخًا أفزعه:
– ضياء.
سقطت رقبة الزرافة من فرائسه المرتعدة:
– نعم يا ماما.
– مش قولت لك تبطل شخبطة على حيطان البيت؟
أجابها حانقًا:
– حاضر.
مر أبوه من أمام حجرته، يحيط رأسه بكفيه مجففًا شعره بالفوطة، أنزل طرفها عن عينه، ينظر له مبتسمًا مهوِّنًا عليه صريخ أمه.
رشف شربة ماء متابعًا مشهده التالي، يقف مدرس لغته العربية في مرحلته الإعدادية أمام السبورة يشرح قواعد المبني للمجهول والمبني للمعلوم، واضعًا التشكيل على كل كلمة بأصابع الطباشير الملوَّن، وعينا (ضياء) لا تفارق يد مدرسه، كلما أوشكت قطعة طباشير على نهايتها، قذف بها في أحد الأركان، انقضَّ على تلك البقايا الملونة فور سماع صوت جرس الحصة، تاركًا حقيبته خلف ظهره في طريق عودته من المدرسة وبقايا الطباشير لا تغادر سبابته وإبهامه، راسمًا خط بطول كل سيارة يمر عليها في طريق بيته.
سحب (ضياء) نفسًا من سيجارته ونفخه، مازجًا دخانه بذرات الغبار مكونًا مشهدًا جديدًا، لمح فيه فتاة مثيرة في وضع خليع، وهو يرسمها على باب الحمام في مدرسته الثانوية، وكلما مسحت إدارة المدرسة رسوماته من الحمامات، أعاد رسمها بتفاصيل أكثر إثارة، تتبعت إدارة المدرسة صيته الذائع بين أقرانه والمعروف بينهم بلقب (ضياء بيكاسو)، ونال جراء شهرته أسبوع رفد.
جلس في حجرته يقرأ خطاب الرفد، استشعر خطوات أبيه من خلفه، تاركًا ظله على الخطاب، جذب أباه الخطاب، تاركًا بدلًا منه حقيبة وأدار ظهره خارجًا، فتحها ووجد فيها (أقلام خط شيني بألوان وأحجام مختلفة، علبة بخاخ رش أسود اللون يشبه المستخدم في دهان السيارات، بعض الأغطية التي توضع فوق البخاخ بأحجام متباينة، قطعة من الأسفنج، وأشياء أخرى)، لحق أبوه بسؤال قبل أن ينعطف من باب حجرته:
– إيه ده يا هندسة؟
– أدوات جرافيتي.
تابع مستغربًا:
– يعني إيه جرافيتي؟
– دوَّر وأنت تعرف.
ركن (ضياء) رأسه على الحائط، سقطت من عينيه دمعة، مسحها، وأعاد النظر لشعاع الضوء، مُشاهدًا تفوّقه في سنواته الأولى بكلية الفنون الجميلة، بعدما أصبح أحد القلائل الموهوبين في التعبير بخطوط قليلة عن أشياء كثيرة.. ممارسًا لهوياته ليلًا وخفية بعيدًا عن الأعين بالرسم على الحوائط، لا تفارق أذنيه سماعتان يصبان في رأسه موسيقى (الهيب هوب).
ضحك ساخرًا ثم أخرج الزفير الأخير من دخان سيجارته، مشكلًا المشهد من جديد، ليرى نفسه في سنته الدراسية الأخيرة، متجاوزًا برسوماته همومه الخاصة للتعبير عن هموم وطنه، مستخدمًا جدرانه أينما كانت، مستغنيًا عن سماع الهيب هوب، ومرددًا أغنيته الأثيرة (اتجمعوا العشاق) عند بدئه في العمل مرات ومرات، حتى ينتهي من رسم حلمه بعرض الوطن.
عاد شعاع الضوء الساقط في حجرته نحيفًا مثلما بدأ أول الصباح، حادًّا ومدببًا، متخذًا شكل القلم الشيني الذي أحضره له أبوه يومًا ما، نهض (ضياء) من مكانه محاولًا الإمساك بخيط الضوء الأبيض ليرسم به على حائطه الأسود.. لكنه سمع صليل قيوده.