مديرية الأمن اللغوي (1)

مديرية الأمن اللغوي (1)

د. سعيد شوارب

اللوحة: الفنان السوري محمد الأحمد 

أنت تعرف من هذا العالم، بمقدار ما تعرف من لغتك، وتعرف من دينك ومن قومك بمقدار ما تعرف من لغة دينك ومن لغة قومك، فلغتك هي عالمك، وحدود هذا العالم إذن،  تمتد أو ترتد، قدر ما ينتعش فيك من إمكانات هذه اللغة أو ينكمش. 

ذلك أن كل إنسان إنما يبدو الكوْنُ في عينيه بحسب ما يجد في نفسه، وليس واجدًا في نفسه إلا ما أوجدتْه إمكاناته اللغوية.

اللغة إذن – عزيزي القارئ – ليست أداة توصيل فقط، وليست وعاء فكر فحسب، ولكنها قبل ذلك، هي الوسيلة الوحيدة التي تتشكل بها تصورات الإنسان, ويقاس أداؤه الاجتماعي ونسق تفكيره، حين يترقى، أو حين يتردّى.

وعلى ذلك، فإن اللغة كما يقول شيخ العربية مصطفى صادق الرافعي، في “وحي القلم” هي صورةُ وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصِهِ… تتحد بها الأمة في صور التفكير، وأساليب أخذ المعنى من المادة.

والدقة في تركيب اللغة هي الدليل على دقة الملكات في الأمة، وعمق اللغة هو برهان عمق الروح فيها، وهو الدليل المحسوس على ميل الأمة إلى التأمل والتفكير والبحث.

وكثرة المشتقات في اللغة هي المؤشر المسموع الذي يؤكد نزعة الأمة إلى الحرية، فإن روح الاستعباد – كما يقول الرافعي – ضيّقٌ لا يتسع، تراه عَيِـيــًّا، يدور في عدد من الكلمات يقلبها هناك وهنا، فإذا حاول غيرها، ضربته الفهاهة والْعِىّ وأخذتْه اللَّخْمَةُ، ولن تجد في الناس أمةً آخذة بزمام لغتها، إلا وجدْتَها مالكةً لإرادتها، آخذة بزمام حضارتها، محققة لروح وجودها الإنساني.

وفي المقابل، فإن تراخي الأمة عن لغتها، والاستخفاف بأصولها، والزهو بمعرفة غيرها، كل ذلك أو بعضُهُ، هو إيذان بسريَان الاضمحلال في رُوح الأمة، وتحول شعبها تابعـًا لا ينهض بشرف السيادة على مستقبله، ولا يمسك شرف ميراثه، لأن انقطاع رباط اللغة، هو انقطاعٌ من النَّسب، نسب التاريخ ونسب التراث ونسب القيم الضابطة للسلوك، أو قل في كلمة واحدة، إننا أمام شعب وضع هويته في مهبَّ الريح.

وقد اكتشف الأعداء والمستعمرون هذه الحقيقة – عزيزي القارئ – منذ زمان، إذ عرفوا أن تحول الشعوب عن أفكارها وعواطفها وانتماءاتها، يبدأ أول ما يبدأ بتحويلها عن لغتها، إذ اللغة هي الوعاء الذي يضم جميع ذلك، ومن هنا، فإنك لا تجد عبر التاريخ، عدوًا محتلاً لشعب، إلا وهو بادئٌ بفرض لغته عليه، وإبراز عظمته فيها، ثم قمع لغة هذه الشعوب، وإرغامها على الذلة والانزواء في ضيِّق السبل، ثم الذوبان والتلاشي، وليس شيء يمسك اللغة ويظهرها على غيرها، ويكفل ازدهارها في ألْسِنة أهلها، إلا أن تـُمسكها عُصـَبة قوية نابعة من الدين أو القومية، ولنتذكر في هذا السياق أن نشأة علوم اللغة ونهضتها في الحقب الأولى للإسلام، إنما بعثها شعورٌ ديني يقظ، هبّ لحياطة القرآن بحياطة لغته، تلك التي تحمل رسالته إلى أهل الأرض، وليس يكون ذلك إلا بلسانٍ عربي مبين، وربما كان من الأمثلة المضيئة للغيْرة على نقاء العربية وسلامتها، كلمة عمر بن الخطاب، يوم سأل صبيـّا عن خطئه في رمْى الهدف، إذ أجابه الصبيّ ”يا أمير المؤمنين، إنما نحن متعلمين ( لم يقل: “متعلمون”)، فعلَّق عمر رضى الله عنه: “لخطؤك في قولك أشد، عليّ من خطئك في رميك”

الطامعون والمستعمرون- عزيزي القارئ- يعلمون علمـًا ليس بالظن، أنهم حين يروْن العربي، وقد أصبح يحب اللغة الأجنبية ويُعجب بها، فإنه سوف ينشأ من ذلك نزوع تلقائىٌ إلى أهل هذه اللغة وإعجابٌ بهم، وهنا تنمو ميوله وانتماءاته إليهم، بقدر ما تنمو لغتُهم على لسانه، في الوقت الذي يقابل ذلك النمو، وَهَنٌ وتراجعٌ في لغته العربية، ثم وهَنٌ وتراجُعٌ في عصبيته لها، وينجم عن ذلك بطبيعة الأمور، وهَن في شعوره القومي وحسه الوطني، فلا يصعب عليه آنذاك أن ينتقص من أسلافه، وأن ينسلخ من تراثه، وأن يتعطل فيه الإعجاب برموز هذا التراث، والزهو بصناع هذا التاريخ، فإذا هي أشياء لا توحي إليه أسرارَ عزتها ولا عظمة دينها، ولا معاني وطنها، وبذلك ينتقض بناء أمة بأكمله بنقض – الرباط الأول، وهو اللغة، وبذلك يُمسى الإنسان مقيمـًا في وطنه، وهو غريب، مشدودًا إلى ناسٍ غيرِ أهلِهِ، وإن زعم غير ذلك.

ومن هنا تصبح قيمة الأشياء كما يقول الرافعي رحمة الله عليه – عند هذا الصنف من خلق الله، بمصدرها لا بنفسها، وبالخيال المتوهم فيها، لا بالحقيقة التي تحملها، فيكون شيءُ الأجنبي في مذهبِهم، أجملَ وأثمنَ، وإن كان الوطني أجمل منه، إلا أن ميلهم المريض، يسلبه محاسنَ نفسه، ويخلع عليه زُورًا ومنكرًا من السلوك ونفورًا، فهم يلقوْنك بكثير من الزَّهو وهم يرطنُون بلغة غيرهم.

ولك – عزيزي القارئ – أن تراقب كثيرًا من النماذج البشرية التي تحيط بك ولا سـيـّما – وهو الأدهى – من الشباب، لتكتشف من أمرهم منكرًا من القول، فهم لا يشعرون بأدنى قدرٍ من الخجل، عند فشلهم في التعبير بلغتهم، إذ يخبرُك الشابّ في مصر، بأنه ليس “بتاع عربي”، أو يخبرك في الخليج، بأنه ليس “راعى عربي”.. أو أن اللغة العربية هذه، “لغة صعبة يا شيخ!”، وكأن لغتنا العربية  لم تعد لغة حياةِ أمةٍ وثقافتها، بل عادتْ لغة فئةٍ ومدرسين ومهنة، وهذا الوضع الثقافي المحزن، يتخذ أنماطـًا سلوكية أشد إثارة للحزن، وأكثر إثارة للدهشة، فالأشياء الأجنبية عند هذا الصنف من خلق الله، لا تحمل قيمتها واحترامها، إلا إذا بقيت تحمل أسماءها الأجنبية، فإذا أنت نزعت علامة “كالـفـن كلاين CK” مثلاً، عن منتج من هذا القبيل، نقصت قيمته، ونقصت تبعـًا لذلك حماستهم له وليس ذلك النقصُ إلا نقصًا في نفوسهم ، وإلا خللاً محزنـًا في النظر إلى الأشياء في ذاتها، يعكس خللاً محزنـًا في حقيقة الانتماء، نتج عن التبعية بوعي أو بغير وعي، ثم هم يحسبونه هيـّنـًا، وهو عند الله عظيم!

ولا يتجاوز الأمر حدود الدهشة، إذا انتبه التجار إلى تأثير “مُرَكّب النقص” هذا عند المستهلكين، فراحوا يزيفون العلامات التجارية ويلصقونها على السلع غير ذات القيمة، ويطبعون عليها عبارات وشعارت بالإنجليزية، فإذا هي تروج عند هؤلاء الذين سقطوا في شرَك هذا “الاحتلال العقلي”، فكان من أمرهم ما ترى.

وربما كان من المفارقات المضحكة أو المبكية – إن أردت الدقة – أنني دخلتُ ذات تسوُّقٍ معرِضـًا للملابس الجاهزة بالكويت، فاخترت “بنطلونا” أعجبني، ولما عرفت ثمنه، قلت للبائع:

  • لقد رأيت مثله صناعة “البلد الفلاني”، وبالثمن نفسه!

فبادرني بعفوية على الفور:

–           تحبّ أخلـّيه لك كما تقول؟

أدهشتْنِي صراحتُه… فأجبت أستقصى الأمر:

  • نعم 

فنادى صبيَّهُ الواقف:

  • بسرعة 

ولم تمض أكثرُ من خمس دقائق حتى حمل “البنطلون” عبارة: “Made in Germany“.

اللغة – عزيزي القارئ – كائن حي، يؤثر كما يتأثر، فإذا أعززته عز وأعز، وإذا أهنتَهُ هانَ وأهَان.

فإذا ما ذلـَّت اللغة في قومها إذن، ضعفت عصبيتهم لها، ولمَا وراءها من معاني قوميتهم ووحي دينهم، وانفتح الطريق بقوةٍ للغةِ الأجنبي، تحمل معها صيغ فكره ومفردات سلوكه، وظلال قيمه، وسهلت عليه المهمة في هدْم البِنَي الروحية والثقافية للشعوب المغلوبة عسكريًا أو ثقافيـًا، فالبني الروحية تتأثر كما تتأثر البِنـَي الجسدية، بالعوامل الداخلة عليها، وتعْوجّ أحوالها أو تستقيم تبعـًا لطبيعة هذه العوامل.

اللغة الأعلى عند الإنسان – عزيزي القارئ – هي الوسيلة الأعلى في صياغة روحه وشحنها، ولا يمكن أن تكون اللغة التي دونها إلا محكومة بها، وخاضعة لها، تلك سنة مستقرة في قوانين الروح والثقافة، كما هي مستقرة في قوانين المادة، فاللغات عندما تلتقي لتصب في شخصٍ واحد، تشبه الأنهار، عندما تلتقي لتصبَّ في مجرًى واحد، فالنهر القوي المتدفق، يزحم الأقل منه قوة ويمنعه من دخول المجرى، فلا يكون عليه إلا ينْزَوي مستسلمـًا لمنطق القوة، أو يتحول إلى بحيرة في أحسن الظروف، ولكنه في الأحوال كلها، مات فيه معنى النهر.

ألستَ تلاحظ – عزيزي القارئ – أن الأمم الفاهمة، تحمي أطفالها من تلقي لغة أجنبية مع لغتهم الأم، في السنين الأولى من حياتهم التعليمية الطرية ؟

وهل يجوز أن نغفل الفكرة التربوية الغنية بالدلالة، من حظر المزاحمة اللغوية في سني النشأة الأولى لأطفالنا ؟

وهل يمكن أن تغـترّ بدعاية الذي ينادون باللغة الإنجليزية في المرحلة الأولى، فإذا دعوت إلى إدخال مُحفِّظ القرآن الكريم إلى جانب مدرس الإنجليزية، سمعت للرفض ألف تعلة وتعلة، ووجدت للميزانيات ألف عجزٍ وعجْز عن رواتب المحفظين؟

لست أريد بطبيعة الحال، أن يسبق إلى بعض الأذهان، أن هذا الذي ترى في مقالتي هو دعوة إلى نـبـذ اللغات الأجنبية أو التقليل من أهمية تعليمها، ذلك أمر لا يجوز أن يخطر لعاقل، فإن تاريخ الحضارة الإنسانية والحضارة الإسلامية جزء شديد الأهمية منها، ليس إلا سلسلة متصلة من التأثير والتأثر بين لغات هذه الحضارات، ومعلوم أن تقوقع أمة في لغتها، هو إيذان بانحدارها إلى ممرات الخمول، والموت بإسْفكْسيا الخنق.

ولكن دعوتي هنا، ليست إلا صوتـًا يحاول أن ينفذ بإخلاص إلى قلوب أناس قبل آذانهم، إذ غرهم من الأمر ما غرهم، لعلهم ينتبهون إلى وجوب إعادة اللغة العربية إلى مكانها من سلم الأولويات وألا يقدموا عليها غيرها، وأن يحاولوها في كثير من شئونهم، سيما وهي ماتزال بحمد الله قادرة على التعبير في جمال وقوة عن شتى شئون الحياة، وليست مجلة “آفاق الإنترنت” إلا جوابـًا عمليـًا على الذين يشكون في قدرة العربية على النهوض بعصر العلم والتكنولوجيا، أما أن هناك مشكلات ومشكلات تحتاج إلى “انتفاضة” من أجل إنشاء “مديرية للأمن اللغوي”، إن صح التعبير، فنعم… وأما أن هناك حلولاً وحلولاً، فألف نعم ونعم إن شاء الله.



صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.