ميخائيل نعيمة
اللوحة: الفنان السوري خالد الساعي
ألستم تمشون على الأرض، فتحملكم ولا تنوء بكم ولا تئن؟ فما بالكم تحملون الأرض فتنوءون بها وتئنون، ثم تشكون الأرض إلى السماء، والسماء ما كلفتكم يوما بأن تحملوا الأرض، بل كلفتها أن تحملكم، وهي تقوم بوظيفتها خير القيام؟
ألستم تتهافتون على قصاع الحياة؟
فما بالكم تهربون من قدور الموت؟ ولو لم تكن قدور الموت مملوءة أبداً لكانت قصاع الحياة فارغة أبداً. أتخافون الموت؟ إذن فكيف تركنون إلى الحياة وأنتم عارفون أنها تقودكم إلى الموت؟ من كره الموت فليكره الحياة، ومن أحب الحياة فليحب الموت. فما الموت إلا حقل الحياة ولا الحياة إلا بيدر الموت.
لكنني أقول لكم إنّكم لو أنفقتم العمر في الشكر لربّ الحياة والموت لكنتم مع ذلك إلى الكفران أقرب منكم إلى عرفان الجميل.
ها هو العالم من حولكم يكاد يختنق بالدخان الذي تثيره أوهامه، بأن الحياة سلعة تباع وتشرى أو تغتصب بحدّ السيف. وأن البعض يأخذ منها أكثر من الآخر، وأن هذه الكتلة من الناس أحقّ ببركات الوجود من تلك أو هاتيك.
يا ويل هذا العالم من غروره! فهو يدعي المعرفة وما يزال بعيداً حتى عن عتبتها.
ما قولكم، لو كان أحدكم ربان سفينة في بحر، في صبي لا يعرف شيئاً عن تركيب السفينة والميناء الذي جاءت منه والميناء الذي تقصد إليه، يأتي الربان قائلاً بلهجة الأمر: «أعطني الدفّة»؟ ألا يضحك الربانُ منه ويسير بسفينته إلى الميناء الذي يريد؟ ما قولكم لو كان أحدكم قاضيا على منصة الحكم، وجاءه غرّ لا يعرف من الشرع شيئاً، ولا من وضعه ولا الغاية من وضعه، وقال بلهجة العارف: «دعني أبتّ في الدعوة التي بين يديك»؟ ألا يسخر به ويمضي في دعواه؟
فكيف بالحياة التي لا حدّ لأعاليها ولا قرار لأعماقها ولا نهاية لعجائبها، يقوم في وجهها أحد أبنائها القاصرين- الإنسان- وفي يمناه ميزان وفي يسراه ذراع ويقول لها بلهجة السيد المتعنت: «بهذا الميزان، وبهذه الذراع أريد أن أصحح ما اختلّ من موازينك ومقاييسك.» ألا ترون أن الحياة تربت بحنوّ على كتفه، ثم تجرعه من الشقاء على قدر غروره، كيما يفيق من غروره؟
هكذا يشقى العالم بغروره وسيظلّ في شقائه إلى أن يتعلّم ما تعلّمه هذا الشرق من زمان ثمّ نسي معناه إلى أن يتعلم قول «إن شاء الله».
فالمشيئة لا تكون بغير معرفة، والمعرفة لا تكون بغير مشيئة، بل إن المعرفة هي المشيئة، والمشيئة هي المعرفة، أمّا الجهل فلا مشيئة له.
كيف لمن يجهل من أين أتى أن يشاء إلى أين يمضي؟ أم كيف لمن لا يعرف علّة وجوده أن يحتم هذه الغاية، أو تلك لوجوده؟ كيف لمن لا علم له بالأسباب أن يقر النتائج؟ لا، ليس يعرف شيئاً من ليس يعرف سوابق ذلك الشيء من الأزل ولواحقه إلى الأبد. من كان في مستطاعه أن يقول «أنا أعرف» حقّ له أن يقول «أنا أريد». أما الإنسان الذي ما برح في عالم البدايات والنهايات والقناطير والفراسخ، فقصيّ عن هذه المعرفة. ومشيئته وبال عليه، كلما عاكست المشيئة الكليّة. فما له، إن هو أراد التخلص من شقائه، إلا أن يقول «أنا أشاء كيت وكيت، وإن شاء الله كيت وكيت».
لو تعود الإنسان قول «إن شاء الله» بقلبه لا بلسانه لما عتمت المعرفة أن سكبت من نورها في قلبه. وإذ ذاك لآزرت المشيئة العامة مشيئته فأسعدته، بدلاً من أن تسحقها فتشقيه. لكنّه لاهٍ عن مشيئة الحياة المبصرة، وما في طاعتها من طمأنينة لا تدرك، وغبطة لا توصف، بمشيئته العمياء وما تبذره في كل يوم من مشاكل وهموم.
أوَلا ترون كيف أنه يرهق جسده بتوسيع نطاق حاجاته إلى حدّ لا يطاق، ويخنق روحه بتضييق نطاق حاجاتها إلى حد لا يطاق؟ ما أبسط حاجات الجسد وأقلها لمن يعقلون! فالذي وهب الإنسان الفكر وما فيه من سحر، والخيال وما فيه من قوّة، والشعور وما فيه من جمال، لن يبخل عليه برغيف وقميص ومأوى. أوَلا ترون كيف أنه يسعى جهده لامتلاك كل ما تصل إليه يداه، غير عارف أن المالك مملوك ما يملك؟
أوَلا ترون كيف أنّه يدأب الليل والنهار في تحصيل ما يحسبه ثروة أو غنى، جاهلاً أن الغني من استغنى عن الشيء لا به، وأن الزيادة في ثروة المادة نقصان في ثروة الروح؟
يا للعار أن يصبح مالك الكون مملوكاً لمال أو عقار!
يا للخزي أن تغدو صورة الله سلعة في أسواق الكسب والخسارة والنخاسة والدعارة!
يا للهزيمة أن يهرب مثال الله من الله إلى كهوف الهمّ ومفاوز الشكّ والشقاء! ألا فرجوا عن صدوركم فأنتم أقوى من الفناء، لأنكم أبناء الحياة التي لا تفنى، وأنتم أغنى من أن تستعطوا، لأنكم ورثة الحياة التي تعطي أبداً ولا تستعطي. أنتم أشد من أن تخور عزائمكم، لأنّكم ذرية الحياة التي لا تعرف الملل ولا الفتور.
لا تهتموا بالأسباب لأنكم تجهلون أسباب أي عمل من أعمالكم وفكر من أفكاركم أين تبتدئ، ولا بالنتائج لأنكم لا تعرفون نتائج أي عمل من أعمالكم، ولا أي فكر من أفكاركم إلى أين تمتدّ؛ واعملوا في حقل الحياة الفسيح، مؤمنين بأنها لن تكون إلا عادلة في كل ما تقضيه لكم أو عليكم، وأنها إذا ما انصرفتم عن كل همّ غير هم من الوصول إلى المعرفة لن تبخل عليكم بالمعرفة، من بعد أن وهبتكم كلّ وسائل المعرفة. وريثما تدركون ذلك قولوا في قلوبكم، كلما أقدمتم على عمل أو نويتم نية أو رغبتم رغبة: «إن شاء الله» والحياة كفيلة بأنكم لن تضلوا المحجّة، التي عندها تستطيعون أن تقولوا: «أنا أشاء لأنني أعرف».
تلكم في اعتقادي هي محجة المحجات، والناس كلّهم مدركوها يوماً ما – إن شاء الله!
من كتاب «البيادر»