اللوحة: الفنان السوري أحمد قليج
وقفت أمام المرآة تتحسس التجاعيد التي تركت أثرا على وجهها على الرغم من أنها مازالت في العقد الخامس من العمر، حاولت العودة بالذاكرة إلى المرة الأخيرة التي طلت فيها أظافرها أو ذهبت فيها لصالون تجميل لكنها فشلت، أمعنت النظر جيدا في المرآة وتساءلت لماذا أهملت نفسي كل هذه الأعوام؟ وهل سيظل أبنائي يتذكرون تضحيتي من أجلهم أم أن الأيام قادرة على أن تلهيهم وتشغلهم عني فيكتفون بسؤال عابر كلما راودهم الحنين؟.”
كرست حياتها لتربية أبناءها الأربعة بعد رحيل والدهم، ورفضت ضغوط أهلها من أجل الزواج خشية أن يسيء زوجها الجديد معاملتهم، اضطرت للعمل فقد كان معاش زوجها لا يكفي لسد رمق أبنائها وملء بطونهم الخاوية، تعرضت لمضايقات كثيرة بسبب وحدتها وجمالها الهادئ، لكنها تحملت من أجل المسئولية الكبيرة الملقاة على عاتقها. لكنها توجت تعبها بتفوق أبنائها، وتخرج ثلاثة منهم في الجامعة وبدأوا في شق طريقهم في الحياة، فخففوا عن كاهلها عبء تحمل مسئوليتهم، ولم يبق إلا الابن الأصغر الذي تعثر واكتفى بالتعليم المتوسط، فقد كان متمردا لا يطيع لها أمرا ويقضي معظم وقته خارج المنزل مع أصدقائه، علم شقيقه الأكبر ببوادر انجرافه نحو تيار الانحراف فعزم على إيجاد فرصة عمل له في المنطقة النائية التي يعمل بها، وذلك لكى يبعده عن أصدقاء السوء الذين يحيطون به.
وبسفر الابن الأصغر وجدث نفسها وحيدة تناجي جدران بيتها، وتقلب ذكرياتها وتتباكى على العمر الذي انفرطت أعوامه، وكانت تشعر بالحسرة عندما تمر أيام ولا يتذكرها أي من أبنائها ولو بمكالمة هاتفية للاطمئنان عليها، لكنها كانت تلتمس لهم الأعذار وتحاول إقناع ذاتها بأنهم منهمكون في أعمالهم .
اتجهت إلى العمل الخيري في دور الأيتام، كانت تقضي أوقاتا جميلة بين زهور بريئة اقتلعها الحزن نتيجة ظروف قاسية ليغرسها في أرض من الأشواك لكنها وعددا من المتطوعات اللاتي زرع الله في قلوبهن الرحمة كن يكفكفن دموع اليتامى ويمنحونهم دفء يعوضهم عن فقدان الأب والأم.
كان يلفت نظرها دائما رجل يأتي مرتين في الأسبوع لزيارة الأيتام وكان يحمل لهم الهدايا والحلوى، كان نادرا ما يتحدث إلا مع مديرة الدار، علمت أنه موظف ويعمل في هيئة حكومية وفقد زوجته وابنته الوحيدة في حريق مأساوي في منزله قبل عدة أعوام، وأنه من أكبر الداعمين للدار بمبالغ مالية كبيرة، وجدت نفسها تفكر في هذا الرجل وتمنت لو تتحدث معه.
وفي احتفالية بدار الأيتام تحقق لها ما تمنت، فتصادف أن جمعتهما مائدة واحدة فى الحفل، ولم يكن صعبا أن يتجاذبا أطراف الحديث الذى امتد لفترة طويلة، شعرت خلالها بدفء غاب عنها أعوام، تعددت اللقاءات وتعمق الإحساس بينهما في فترة وجيزة وكشف لها عن حاجته لزوجة تؤنس وحدته، وافقت بدون تفكير وأمهلته أياما لمناقشة أبنائها الذين تعالت أصواتهم فورا عندما عرضت عليهم الفكرة، رأت قسوة لم تعتدها على وجه الابن الأكبر الذى حذرها من خطورة إقدامها على التفكير في الزواج لأن ذلك سيضعهم في حرج بالغ أمام الأهل والأصدقاء، ولم تكن ثورة بقية الأبناء أقل من ثورة أخيهم، عدا الابن الأصغر الذى اكتفى بمراقبة ما يحدث، وفى عينيه لمعت نظرة لوعة غريبة لم ترها الأم من قبل.
أصيبت بصدمة كبيرة، فقد شعرت بأن أبناءها تجاهلوا رحلة عطائها وصبرها الطويل، سقطت مغشيا عليها، وإن خيل إليها أنها تسمع صوت الابن الأصغر وهو يهاجم أخوته ويوبخهم، ورأته بوضوح منهارا دموعه تغرق وجهه وهو يرافقها فى سيارة الإسعاف التى نقلتها إلى المستشفى.
وفى المستشفى، لم تكن قد استعادت وعيها كاملا عندما سمعت صوت أولادها الأربعة، حاولت أن تبتسم وهى تسمع كلمات العتاب التى وجهها كل منهم للآخر، خاصة الابن الأصغر الذى اتهم أخوته بالأنانية، وجدت نفسها تغرق فى سبات عميق وقد شعرت بارتياح عجيب لم تشعر به من قبل، وزادت سعادتها عندما استعادت وعيها كاملا لتجد باقة زهور بجوارها وعليها أربع أوراق على كل واحدة منها عبارة: “أحبك يا أمى”.