اللوحة: الفنان السوري محمد الأحمد
اللغة العربية – الخالدة ومعها كفالة دائمة بحفظها من الذي أنزل الذكر – مبتلاةٌ تعاني؟
نعم.. كأشد ما يكون البلاء والعناء.. ليس ذلك بغريب في الخالدين ولا أول.
ولكنّ بعض الناس يُطيل النفخَ في القربة، حتى يغلب على ظنه أنها مقطوعة فيستريح، ويصبح بهذه المحاولة وقد استبرأ لدينِه وعرضه، وأعفى نفسه من بقية الأسئلة، فاستعاد لياقةَ نفسه وأنفاسِه جميعـًا، مع أن الحال بقيت على ما هي عليه ولم يبق للمتضرر إلاّ أن يرفع أمره إلى القضاء.
أعترف بأنني لست من هؤلاء، ولا أحب، ولست مع هؤلاء، ولا أنوي، ذلك أن الأمر عالقٌ بأصل من الأصول التي هي قِوامُ هذه الأمة وميزانُ اعتدالِها، فهي من مثل دينها الذي هو عصمة أمرها، وهى من مثل لغتها التي هي أوثق ما يجمعها.
لستُ من هؤلاء ولست معهم، لأن القربة قد تكون أوسعَ من أن ينفخَها واحد مهما أوتىَ من طول النفَس، وهنا يصبح القولُ بأنها مقطوعة، سندًا مقطوعًا، وحُكمًا غير قطعي، إذ القربة والحال هذه، لا تقوم إلا على فريقٍ ينظـّم أمرَهُ، فينتظمُ أمرُها.
والقِرْبة هنا هي لغتنا العربية الشريفة، بواقعها المر، الذي تناولنا بعض أعراضه في المقالة الماضية، ولا أحسبني – عزيزي القارئ – ولا أنت، بحاجة إلى إعادة الاتفاق على تعاسة حظ هذه الحسناء، التي تـُركت لتلقَي ما تلقَي من عنت الدهر وتقاعس الأهل، وتحرّش الغرباء، ولذلك، فلست أنكرُ على من رأى في المقالة الفائتة ظلالاً من البوْح الذاتي، حول قضية هي أشد ما تكون موضوعية وعمومية، فليس يبعد إذن، أن تكون “آهــة” قالها واحد، ولكنها تضغط صدر الجميع.
ولذلك فقد سعدت كثيرًا، بالمقالة التي نشرها الأستاذ “فهمي هويدي” حول اللغة العربية في أهرام الثلاثاء 14/9/99، تحت عنوان “إنهم يشوهون وعْيَ أمتنا” إذ فرَّق فيها بين تعلـُّم لغةٍ أجنبية، والتعليم بلغةٍ أجنبية، فالأولى فضيلة ممتازة، والأخرى رذيلة بلا حدود، ذلك لما ينجم عنها من تشوهات ثقافية، فضلاً عما يثبت كل يوم بأدلة إحصائية، من بطلان المزاعم التي قامت عليها دعاوى التدريس للطلاب العرب بغير العربية.
كما أن المقالة جاءت عندي إضافة مسعدة حقـًا، إذ قرأت فيها أسماء خبراء وأساتذة جامعات من مجال الهندسة والطب والعلوم، كلهم مشغول الآن بقضية اللغة العربية والعودة إلى التدريس بها، لا حميـَّة للُغةِ الأمة وهو واجب فحسب، بل أيضًا بوصفها – كما ثبت بالأدلة – أكفأ أداة في توصيل العلوم التي زعم الزاعمون طويلاً أنها لا تصلح لها ،واشتغال الخبراء والأساتذة بأمر العربية، مسألة متوقعة، بل هي فرض عين على القادرين عليها، أما قلقُ القارئ العام ،فهو معنى يبعث على الأمل حقـًا، فهولا يخلو من دلالة على أن النداء ليس بوادٍ غير زرع ، وأن رأيـًا عامـًا يوشك أن يتحرك في اتجاه التغيير، وعلى سبيل المثال، فقد وردت إليّ رسالة من سلمى الرشيدي – تونس، تحمل سعادتها بأول مجلة ناطقة بالعربية تهتم بشئون “الإنترنيت” وهى مجلتنا “آفاق الإنترنيت”، وسعادتها بندائي الدائم للاعتماد على لغتنا الشريفة في مجال العلوم التجريبية وتقنيات الاتصال بالأخص، حتى لا يتضاعف تخلفُنا وتذويبُ هويتنا، ثم هي(سلمى)، لا يعجبها أنني أعول كثيرًا على الجهات الرسمية والحكومات في النهوض بأمر العربية، والأنفع – عندها – أن نعول على التجمعات غير الرسمية كالجمعيات والاتحادات والنقابات والأندية ومراكز الشباب، وأن يكون التواصل معهم عبر النموذج الفصيح البسيط الجميل، بريئًا من التقعر والابتذال، الذى يعقد الندوة ويقدم المحاضرة ويلقى القصيدة، وهو أيضا، يتناول المجالات العلمية والتقنيات الحديثة، ويعرض جلال الدين وطرافة الفكاهة، دون أن يتخلى في جميع ذلك عن فصاحته، ذلك هو الرد العملي في غير لجاجة ولا مراء على الذين ينعقون بعقم العربية أو وفاتها، جاهلين أو ذاهلين عن أن الله سبحانه، حين تكفل بحفظ القرآن الكريم، كان قد أعطى كفالة دائمة بحفظ هذه اللغة، ما دامت السماء هي السماء، والأرض هي الأرض .
وإذا كنت أختم على هذا الكلام الجميل بأصابعي العشرة، فإنني لا أستطيع أن أختم على عدم التعويل على الحكومات والجهات الرسمية – يا سلمى – لأمور سوف أعود إليها عما قريب إن شاء الله، حيث نتحدث عن الدواء، لكن دعونا الآن نحاول أن نشخص الداء الذي ضرب هذه اللغة، فهي خطوة تسبق العلاج بطبيعة الحال.
ابتداءً، أُدرك – عزيزي القارئ – أن تشخيص الداء ووصف الدواء في مثل هذه القضايا المركبة، هو أمر غاية في الصعوبة، وأدري أن الكثيرين من خبراء التربية ومن الأساتذة ومخلصي المثقفين، قد نادوْا حتى ذهبت أصواتهم مبحوحة بالنداء، ومغموسةً في الرجاء، ومذبوحةً بالغضب، ولكن هذا لا يعني أبدًا، أن السكوت أصبح مشروعًا، أو أن الواقعة قد وقعت وانتهى الأمر، فقد تنجو السفينة لأن بعض أولاد الحلال، قد انتبهوا إلى نداء الاستغاثة الأخير، والأمر والحمد لله لم يصل إلى النداء الأخير أو يقاربه.
ربما كان من الأوفق أن نرُدَّ المشكلة إلى مصدرين كبيرين: مصدر قادم من الخارج، وآخر ناجم منا نحن العرب أهل اللغة وحماتها المفتـَرَضين، ودعونا لا نطيل.
الحديث اليوم في الخطر القادم من الخارج على اللغة العربية، فهو أمر مستقر، فضلاً عن أنه متسق مع “مصالح” الأجنبي الطامع فينا من قبـل القديم، إلى ما بعد الحديث، وقد استقر عنده واتسق، أن بسـط سلطانه الحقيقي على شعب ما، لا يبدأ إلا ببسط سلطان لغته الحقيقي على هذا الشعب، والتمكين لثقافته وقيمه وسلعه وأنماط سلوكه أيضـًا، ولا سيما في عصر تعثر فيه بسـط السلطان بالجيوش والأساطيل، فلم يبق ألا أن تتحول القيود الاستعمارية التي كان يكبل بها أقدام الشعوب، إلى سلاسل ذهبية وأساور ومنتجات مغرية، تشتريها الشعوب المغلوبة بأعزِّ مالِها، ثم تلفُّها مختارةً حول أيديها وأعناقها، ليسحبها الاستعمار الجديد بكل بساطة إلى حيث يحب، وهي تعتقد أن ذلك هو “الخيار الاستراتيجي الوحيد” ، على حين أنها مدفوعة من قفاها لتدخل المخرطة المتوحشة ، كما تدخل الشجرة، ماكينة الخشب، فتستحيل ألواحًا، وأشكالا، لا تخدم إلا أغراض النجار.
ليس لنا أن نلوم المستعمر المعاصر، فالذي نراه نحن “مؤامرة”، يراه هو “مصالح” يستحيل القعود عن تحقيقها.
اللوم المحقق يتجه إلينا نحن أهل العربية، نحنُ الحُماةَ المفترضين.. نحن الذين انطلت علينا الخديعة فبلعنا الطعم إلى الأمعاء، ثم سقطنا في الفخ، وشارك ناس من بني جلدتنا في صناعة الطُّعم وترتيب الخديعة كيدًا أو سذاجة أو حسن ظنٍ.. كيف؟ مظاهر كثيرة كلها مُحزن وزائف.. كلها قام على حجة أشد زيفـًا وخداعـًا:
1 – تدريس العلوم باللغة الأجنبية: أشاع المرجفون في المدينة وفي أصحاب الظن الحسن أن اللغة العربية قعدت عن ملاحقة التطور الحادث في الطب والهندسة والعلوم التجريبية، وأن الحل هو تدريسها بالإنجليزية تسهيلاً لقراءة المراجع وللدراسات العليان وذهب المرجفون يذيعون في المدينة أن الأفضل أن يلحق من يريد دراسة هذه المجالات بمدارس الإرساليات الأجنبية في المرحلة الثانوية وما قبلها حتى يتمكن من اللغة الأجنبية حين يدرس الطب والهندسة فانطلت الكذبة على الكثيرين، بل ذهبت وزارات التربية تساهم في المشكلة بإنشاء المدارس “التجريبية” التي تدرس المقررات بالإنجليزية وما يزال التوسع فيها جاريًا إلى الآن، وتدفق الناس يلحقون بهذه المدارس أبناءهم!
وهذا الكلام الغريب يثير عددًا من الأسئلة: فإذا كان الهدف الحقيقي من التدريس بالإنجليزية هو تمكين الطالب من مراجع هذه العلوم الطبية والهندسية إلخ.. فماذا سيصنع إزاء المراجع غير الإنجليزية كالطب الفرنسي والألماني والصيني والياباني، وهو يدرس في هذه البلاد بلغاتها؟ أم أن الطالب العربي استغنى إلا عن الإنجليزية؟ ولماذا ظهرت هذه الخدعة في المستعمرات الإنجليزية، وظهرت أخرى مثلها فرنسية في المستعمرات الفرنسية؟ ولماذا لم تلجأ الحضارة العربية أول عصرها الزاهر إلى تعليم المسلمين اللغة الفارسية أو الهندية أو اليونانية التي اعتمدت على مراجعها، بل أصرت على ترجمتها إلى العربية حفاظـًا على لغة الأمة وهويتها؟ وهل كانت العربية حين فرضوا هذه الخديعة على العرب أضعف أو أقل مراجع من “العبرية” التي نبش اليهود عنها في مدافن التاريخ، فأعادوها إلى الحياة بالتنفس الصناعي ثم راحوا يدرّسون بها جميع العلوم في ” الجامعة العبرية ” الآن، ويجعلونها لغة مقدسة للحياة اليومية بين ناس جمعوهم من الآفاق ومن اللغات ومن الأجناس ومن الأصقاع، لا تجمعهم رابطةٌ أية رابطة إلا أنهم يهود؟ فماذا تصنع إسرائيل والحال هذه، أمام المراجع الطبية والهندسية الأجنبية إلخ؟ أم أنها ستعدِل مثل العربان عن لغتها إلى لغة أخرى في التعليم؟ ولماذا يفلح الطب والهندسة وكل العلوم في كل بلد بلغته إلا عندنا؟
كفى أسئلة.. فلنعدل إلى الحقائق.
هناك حقائق صادمة قرأتها في مقالة الأستاذ فهمي هويدي التي أشرت إليها هنا، وهي منقولة عن بحثين بالغي الأهمية أعدهما اثنان من أساتذة كلية الهندسة بجامعة القاهرة، هما الدكتور سعد الراجحي، والدكتور أمير بيومي، وهذه الحقائق – عزيزي القارئ – هي دعوة شديدة الجدية، إلى ضرورة إعادة التفكير في أمور كثيرة جدًا، كان الناس قد فرغوا من حسمها والتسليم بها من قبل، يعنينا منها هنا بشكل مركزي، تأثيرها الخطير على لغتنا العربية، وعلى قضية جدوى التدريس باللغة الإنجليزية في الجامعات.
تتبعتْ إحدى الدراستين أداء الطلاب ذوي الخلفيات الثقافية المختلفة أثناء دراستهم في كلية الهندسية، مركزة على خمس فئات هي، طلاب المدارس الحكومية العادية في مصر، وطلاب المدارس الخاصة، وحملة الشهادات الأجنبية مثل “جي. سي. إي” وغيرها والطلاب القادمين من العالم العربي، وأخيرًا طلاب المعاهد الصناعية الذين التحقوا بالهندسة لتفوقهم.
جرت الدراسة على ألف وخمسمائة من الفئات الخمس على مدى سنوات الدراسة الخمس بكلية الهندسة، فكيف كان وضع الطلاب الذين درسوا بالإنجليزية في مدارس أجنبية ليتهيئوا لدراسة الهندسة؟ وماذا عن الطلاب الذين درسوا باللغة العربية في مدارس عادية؟
هل لي – عزيزي القارئ – وقد ضاقت مساحة هذه الأنابيش بالحقائق، وضاقت مساحة الصدر بالنتائج – أن أؤجل الإجابات وبقية التشخيص والدواء إلى المقال القادم؟