مديرية الأمن اللغوي (3)

مديرية الأمن اللغوي (3)

د. سعيد شوارب

اللوحة: الفنان الفلسطيني خالد شاهين

تحدث الكاتب في المقالة السابقة أن الواقع المر الذي تعيشه اللغة العربية مردها إلى مشكلتين كبيرتين الأولى: التدريس العلوم باللغة الأجنبية، والثانية: تأثير الإعلام، وعرض الكاتب في المقالة السابقة جانباً من تأثير المشكلة الأولى – التدريس باللغة الأجنبية – ويواصل عرض المشكلة ويتناول المشكلة الثانية في هذه المقالة. 


هذه الأنابيش – مرةً قد لا تكون أخيرة – لا تنوي ولا نوتْ الانتقاص من تعليم لغة أو لغات أجنبية لأولادنا، فإن عاقلاً لا يماري في جدوى هذا الأمر، بوصفه مكونـًا أساسيـًا لا يجوز إغفاله في إقامة البنية العلمية والثقافية للإنسان المعاصر، سيما والعالم يستقبل طورًا تاريخيـًا يوشك معه أن يستحيل قرية أو غرفة صغيرة تتقارب فيها الثقافات بل تتذاوب، حتى ليكاد القابض على هويته، أن يكون قابضـًا على الجمر.

الخطأ – فيما أتصور – قائم في اتخاذ اللغة الأجنبية أداة لتعليم الطلاب العرب، أو للتخاطب بين العرب، وهي ظاهرة تتسع في مجال الأعمال بالأخص، كما هي في تعليم العلوم، والاستمرار فيها هو استمرار في خطأ يكون أول خطاياه اليومية تشويه البنية الثقافية للشباب، وصرفهم دون علة ملزمة، عن لغة أهلهم وقومهم وتراثهم، ثم خلق ميـلٍ لا شعوري إلى الأجنبي، يعجب به ويرتبط بفكره وقيمه وعاداته، ثم تبقى الطامة في أن العلوم التجريبية التي زعم الزاعمون أن اللغة العربية غير قادرة على الوفاء بالتعبير عنها، وأن الحل في العدول إلى الإنجليزية في مصر مثلا – لم تحقق نتيجة صالحة، بل إن الطلاب الذين درسوها باللغة الأجنبية، هبطلوا إلى أسفل القائمة عند التخرج.

تلك – عزيزي القارئ – هي إحدى النتائج الصادمة التي انتهت إليها البحوث الإحصائية التي أجراها أساتذة في كلية الهندسية بجامعة القاهرة أشرنا إليهم في المقالة الفائتة، وهي من الكليات التي تدرس فيها المقررات باللغة الإنجليزية، وقد أشارت الصحف إلى الفئات الخمس التي دارت عليها الدراسة في سنوات الكلية الخمس، وأسفرت عن حقائق غريبة فعلا، إذ تبين أن التقدير الأعلى “امتياز” جاء حكرًا على خريجي المدارس المصرية الحكومية العاديين، الذين درسوا باللغة العربية وحدها، فيما قبل الجامعة، وأن أقل عدد من الراسبين كان من هذه الفئة أيضـًا.

كما لوحظ أن الذين تعثروا ثم تعرضوا للفصل من الكلية جاءوا على النحو التالي: خريجو المدارس المصرية العادية بنسبة 2.1%، خريجو مدارس اللغات المصرية 5.6%، حملة الشهادات الأجنبية مثل الـ “جي .سي. إيه.” وغيرها 30% (!!).

يعلق صاحب الدراسة، الأستاذ الدكتور سعد الراجحي مؤكدًا، بأن هذه النتائج، تكشف عن مدى “اعوجاج الحالة الثقافية لهؤلاء الطلاب”، وتصبح النتيجة إذن، أن طلاب المدارس العادية الحكومية، هم الأوفر حظـًا من الاستقامة الثقافية، على حين يجيء طلاب الشهادات الأجنبية العرب وهم الأفقر حظـًا.

وهناك نتيجة قد تكون ردًا قاسيـًا بصمته وموضوعيته، تمخضت عن تجربة قام بها الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي – عميد كلية العلوم الأسبق – جامعة القاهرة، إذ درس مقررًا واحدًا جامعيًـا، لجماعتين متكافئتين من الطلاب أعطاه للأولى باللغة العربية، وتلقته الأخرى باللغة الإنجليزية، فجاءت حصيلة الأولى أكبر وفهمهم أدق، مع جهد أقل ووقت أقصر!

فهل يمكن – عزيزي القارئ – والحال هذه، أن تكون هذه المؤشرات صوتـًا واضحًا يبْلُغُ آذان المسئولين عن التعليم، بعد أن ثبت أن كل تعليم للطالب العربي بغير لغته يعطي معارف أقل، وينتج تشوها ثقافيـًا يستحيل تجاهله؟ وهل يصعب أن نتفق بعد هذه النتائج، على أن التعليم بالعربية وتعلمها – بوصفها لغة ديننا وثقافتنا التي ما تزال قادرة – هو من فروض العين، على حين أن التعليم بلغة أجنبية – لو كان ممكنًا تجاهلُ أضراره – قد يكون من فروض الكفاية؟

وهل يمكن – عزيزي القارئ – أن يزعم بعد ذلك زاعم، أن هذا الانحياز للغة الأجنبي عند صانع المناهج وعند متلقيها، لا ينجم عنه بالشعور أو باللاشعور، حالة من اليقين المزيف، بعجز العربية وانعدام جدواها؟ ثم ألا يؤدي ذلك إلى تجاهل العربية والاستخفاف بها، بما يجره ذلك بالتراكم، من عجز حقيقي في مهارات اللغة العربية وانطفاء ملكاتها، وأن تلك الكارثة تنتج حالة من القطيعة المعرفية بين العربي وتراثه ودينه؟

على أن الأمر لا يقف عند هذه النتائج الخطيرة، بل إنه يتجسد في أعراض مَرَضية أخرى، ربما يكون من أهمها، ذلك الشعور المغلوط بالتفوق، وبأن الشخص ينتمي إلى وضع أو طبقة أو ثقافة، تجعله فوق الآخرين، وليس ببعيد أن يكون ذلك أحد الأسباب في تشبث البعض بتدريس الطب والهندسة وغيرها باللغة الإنجليزية، أو التحدث بها، فتراه يحشر تراكيبها بلا مناسبة، حتى وهو يتحدث إلى من لا يفهمها، ولك – عزيزي القارئ – أن تراقب هذا السلوك عند كثير من المتحدثين.

وأخيرًا.. أليس ممكنـًا بعدُ، أن نحتفظ كالشعوب المتحضرة الواعية – أو حتى كالإسرائيلين الذين لا تجمعهم جامعة – بلغة أمتنا، نُعلِّم بها ونتعلمها، ونثريها بترجمة كل ما نحتاج إليه من معارف ومن كل اللغات؟ هذا، فضلاً عن الإنجليزية التي استدرجتنا إليها في التعليم ظروف استعمارية تاريخية مشبوهة، فسقطنا في الشرك قصدًا أو بغير قصد؟

2– مشكلة الإعلام من المسلمات التي لا يختلف فيها عاقل عن عاقل.. فاللغة أية لغة، لا تكتسب إلا بالعيش في البيئة الطبيعية السليمة لهذه اللغة، ففيها تنتقل المهارات اللغوية إلى الإنسان، وتستيقظ ملكاتها في عفوية ودون جهد، كأنما يتنفس الطفل لغة هذه البيئة مع هوائها الطبيعي.

ومن المسلمات التي لا يتنازع فيها اثنان أيضـًا، أن لوسائل الإعلام المختلفة أثرًا بعيدًا، في تشكيل ثقافة الإنسان وتصوراته، بحيث أصبحت وزارات الإعلام المعاصرة إحدى أهم منظومات الدفاع والهجوم، حين يراد دفع الرأي العام في الاتجاه الذي يراد.

تنشأ من هاتين المسلمتين ثالثة، هي أن الإعلام مرئيـًا ومسموعـًا ومقروءًا، طرف أساسي، بل مركزي، في تشكيل اللغة التي نسمعها أو نقرؤها على ألسنة الجمهور أو أقلامهم، فهو الذي يلاحقهم ويسهر معهم، من أشهر الميادين إلى أضيق الأزقة.

والآن.. 

هل يمثل الإعلام العربي في مجملة، بيئة لغوية تنمي مهمارات اللغة العربية، وتستيقظ ملكاتها عند المتلقين؟

الجواب بالنفي بلا جدال، بل إن المتابع ليظن الإعلام العربي مشغولاً بنقيض ذلك تماما، فهو مشغول كما يبدو، بتلويث البيئة وخنق الملكات والمهارات، فبدلاً من أن يقوم الإعلام بتشجيع الأطفال وإنضاجهم وتعليمهم، نراه مهتمـًا بتطفيل الكبار وتسطيح ثقافتهم اللغوية.

لكن علينا أن نقرر هنا ملاحظتين مهمتين، أولاهما، أن هذا الحكم السابق ليس على إطلاقه طبعـًا، إذ إن هناك بعض البرامج الراقية التي ظلت تمثل نقاطـًا مضيئة وسط عتمة لغوية مصنوعة، فهي تقدم موضوعاتها في لغة رشيقة معجبة تواكب الحياة الحديثة باقتدار وكفاءة، لكنها تظل كالنجوم تتراءى عبر مساحات ممتدة من الظلمات.

أما الأخرى، فهي أن الإعلام الذي يُطفِّلُ الكبار ويكرس ثقافة الاستهلاك، يستند إلى وجهة نظر، يراها صحيحة فيما يتصور، فهو – وهذه حقيقة – يواجه منافسة محمومة من المحطات “التجارية”، وهذه ليست أكثر من “تاجر” أنشأ “مشروعـًا” هدفه الأول والأخير هو الربح والترويج لبضاعته، وبصراحة لا يخفيها، هو يرى أن “الإعلان التجاري”، مقدم حتى على “إعلان حقوق الإنسان”، ولكي يهز جيوب العملاء بقوة، فليس عنده مانع – كما نشاهد – من أن يهزّ البُطونَ والغرائز وجميع الثوابت، ويوقظ الفتنة النائمة وبقوة أيضـًا.. المهم عنده هو الاستيلاء على عيون المشاهدين والمستمعين والقراء واهتماماتهم، وهذه المنافسة تضع القضية موضعًا حرجًا عند الكثيرين، إذ هم يعتقدون أنه لابد من “مجاراة الجوّ”، حتى يحصلوا على نصيب موفور من “الزبائن”.. موفور من العائد، حتى لا ينفضّ الجمهور من حولهم، ولما كان الجمهور هو وسيلتهم، وهو غايتهم، فلابد إذن أن يتحسسوا رغباتهم ومواضع رضاهم.

وليس عندنا ما يمنع من الموافقة، ولكن بعد أن نضيف إلى “مواضع رضاه”، “مواضع منفعته” الحقيقية أيضـًا، فالإعلام ولا سيما الرسمي مسئول بلا حدود عن تحقيق هذه الغاية الأساسية وإلا سقطت مصداقيته في نظر المتابع المحترم، فأصبح كمهرج السيرك، أو “كتاجر البندقية” الذي رسمه شكسبير.

دعنا لا نتحدث هنا عن العنف والعرْي والجنس والجريمة والإسفاف، والفن الهابط والبرامج المملة المتشابهة الموضوعات وهي الضاغطة على خريطة الأسبوع، فليس الحديث هنا حديث موضوعات أو مضامين يكرسها الإعلام، فلنكن في حدود مشكلتنا، وهي مسئولية الإعلام العربي عن لغة هذه الأمة.

سيل جارف من البرامج التي تكرس “اللهجات العامية”، يطلع على الناس من كل صوب ويقفز إليهم من كل زاوية، وهم يعللون بأن هذه هي لغة الجمهور البسيط، وبأن “الجمهور عايز كده”!

وعندي في ذلك أسئلة وعندي كلام:

الرسالة الإعلامية تستهدف طبعـًا كل عين وكل أذن وكل مكان، فهل اختارت “تل أبيت” أو “واشنطن” أو “لندن” أو أي عاصمة تخاطب العرب، إحدى اللهجات المحلية العامية وسيلة لحمل رسالتها، أم عمدت إلى الفصيحة بوصفها قاسمًا مشتركـًا بين كل العرب؟ وهل غابت هذه الحقيقة عن الإعلام العربي نفسه؟ قد يكون ذلك، وقد لا يكون!

من الذي روج للقول المزعوم، بأن “الجمهور عايز كده”؟ أو أن اللغة الفصيحة “صعبة” على البسطاء؟ إن الجمهور العربي بسيط وعفوي حقـًا، وهو ينفرُ من التقعـُّر ويولع بالبساطة والعفوية فعلاً، ولكن.. من زعم أن لغتنا الجميلة فقدت هذه الصفات، فضلاً عما هو أغلى منها وأندى؟ إن الذين فقدوا ذلك بقسوة، هم الذين يكرهون العربية، هم الذين يجهلون العربية، هم الذين فسدت ذائقتهم واضمحلت ثقافتهم، واستبدت بهم الرغبة في دخول الشهرة، فلم يجدوا إليها إلا العامية بابـًا، وإنْ كرَّسوا بها تشرذمَ الأمة وتفريقَها، وأنزلوا بها ذلك التشوهَ الثقافي المُخزي، وأحدثوا بها هذا العجز الظاهر عن التعبير السليم عن خفقة القلب، وومضة الفكر في سطور.

وإذا أردْت – عزيزي القارئ – على ذلك برهانـًا لا يلحق به برهان، فتأمل هذه الملاحظات الواقعية من السلوك اللغوي للجمهور إزاء لغته الشريفة، فإن رأيته ينفر منها، ويتشوَّفُ إلى اللهجة المحلية، ختمنا بأصابعنا العشرة للعامية وأدعيائها.. 

لكن هل تتسع المساحة هنا اليوم، لعرض البراهين؟.



صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.