إكسير الحياة

إكسير الحياة

حسام أبو العلا

اللوحة: الفنانة اللبنانية رندا رحايل دو شدرفيان

بعد إلقاء كلمته تهافت عليه عدد كبير من الحضور لمصافحته وتحيته ثم انصرف الجميع وبقيت سيدة اقتربت منه وباغتته بسؤال: “هل تذكرني أم أن تجاعيد الزمن قد تركت أثرها على وجهي؟”.. ارتبك وأحمرت وجنتاه وظهرت عليه علامات الخجل، ولكن ظلت عيناه تنظر لها بعمق شديد، وظهر فيهما شوق ولهفة لم تتوقعهما، ثم خرجت الكلام من فيه وكأنها نهر يتدفق حناناً وعشقا: “وكيف أنساك يا.. يا سارة”.

لمعت عيناها من الفرحة الممزوجة بالدموع وقالت: “نعم أنا هي، عندما علمت بأنك ستكون ضيفا في هذه الندوة لم أصدق، في البداية تخيلت أن هناك تشابها في الأسماء لكن صورتك التي وضعها المنظمون للترويج للاحتفالية بددت ظنوني على رغم تغير ملامحك”. 

مد إليها يده المرتعشة بشوق وحنين السنين ولهفة العاشقين.. وصافحها قائلا: “عندما تم دعوتي لحضور الندوة قبل أسبوعين شعرت بسعادة غامرة لأني سأعود لمسقط رأسي والتقي برفاق رحلة الطفولة والبراءة، وظل عقلي يفتش في أوراق العمر وما به من أفراح واتراح، استوقفتني قصتنا التي أسدل عليها الستار قبل أن ترى النور وعلى حبنا النقي الذى مات وهو بعد فى مهده، كنت حينها عودًا أخضر ونبته في بستان الحياة ترتوي بالمشاعر والأحاسيس الفطرية، ظل عقلي يهامس قلبي هل يمكن أن يتعاطف معي القدر وأراك، لم تغب ذكرياتنا عن قلبي على رغم مرور هذه السنوات”.

ثم ظهر جزع مفاجئ فى عينيه وهو يضيف: “ولكن لم تغيرت ملامحك؟.. وكيف أصابك هذا الهزال؟”، وبصوت حزين قالت إنها أصيبت بمرض عضال وشفيت منه أخيرا بعد أن نال منها، وأشارت إلى طفلة جميلة في نهاية القاعة تلهو مع رفيقاتها وقالت: “هذه ابنتي الوحيدة التي خرجت بها من تجربة زواجى الفاشلة.. فقد انفصل عني والدها بعدما ضجر من مرضي وضاق بنفقات علاجي رغم ثرائه”.

بلهفة كبيرة كانت تريد أن تعرف تفاصيل حياته، لكنه أخبرها بأنه مضطر للانصراف لارتباطه بعمل في العاصمة، ووعدها بزيارة قريبة، ظهر عليها الحزن الشديد، وطالبته بالبقاء فاعتذر، وأملاها رقم هاتفه واستقل سيارته مغادرا المكان، لكنه سرعان ما توقف على بعد عدة أمتار وظل يراقب – من بين دموعه التى فشل فى السيطرة عليها- سارة التي كانت تسير برفقة ابنتها حتى اختفيا وسط الزحام، فاتكأ برأسه على مقعد سيارته وأغمض عينيه ليقلب أوراق ذكريات الأعوام المنقضية من عمره.

كان “أحمد” أبرز شباب بلدته، فقد كان متفوقا في دارسته وتوقع له رفاقه مستقبلا مبهرا، تعرف على سارة في المرحلة الجامعية كانت في كلية الحقوق لكنها كانت تتردد كثيرا على كلية الصيدلة لزيارة ابنة خالتها، ومنذ التقت عيونهما اخترق سهم “كيوبيد” قلبيهما، كان اللقاء الأول في كافتيريا الجامعة وتجاذبا أطراف الحديث عن حياة كل منهما وظروفه الاجتماعية، وكشفت عن سطوة والدها وفرض قرارته عليها وأشقائها، انصرف أحمد وصورة سارة لا تفارق خياله، وبدأ يختلق الأعذار لرؤيتها، صار حبهما حديث كل زملائهما فهما لا يفترقان.. مرت الأعوام حتى انتهت من دراستها بينما كان لايزال أمامه عاما آخر.

وفي اليوم الأخير لها بالجامعة وعدها بأن يستمر في التفوق في الدراسة ليصبح معيدا ثم أستاذا بالجامعة حتى يكون جديرا بها.. مرت شهور وهما يلتقيان بين الحين والأخر، وفي إحدى المرات صعقته بعبارة زلزلت كيانه: “تقدم أمس شاب لوالدي يطلب خطبتي وينتظر الرد خلال أيام”.. تصبب جبينه بالعرق وتعلثم فى الكلام، ثم قال بصعوبة: “بالطبع كان جوابك هو الرفض”، فقالت: “أبلغت والدي رفضي الزواج في هذه المرحلة لرغبتي في استكمال دراستي العليا، لكنه لم يلتفت لحديثي ويبدو أنه كعادته سيجبرني على الانصياع لرغباته وتنفيذ قرارته دون نقاش بداعي أنه يسعى من أجل مصلحتي وأشقائي”.

تحجرت الدموع في عينى “أحمد” ووعدها بإيجاد حل للمشكلة، وطالبها بأن تتمسك بموقفها وألا ترضخ لضغوط والداها، ثم عاد لمنزله واتصل بصديقه هشام وطالبه بالحضور سريعا وظلا يتناقشان حتى الساعات الأولى من الصباح.. نصحه صديقه بأن يكرس جهده وتركيزه لدراسته حتى لايفقد تفوقه ويهدر فرصة أن يصبح معيدا بالكلية، وطالبه بأن ينسى سارة، فقاطعه سريعا: “أحبها ولا استطيع أن أتخيل حياتي بدونها، وسوف اتحدث مع والدي وأثق بأنه سيوافق بأن أتقدم لخطبتها، فلم يتبق إلا شهور معدودات على تخرجى، وسأقاتل خلال هذه الشهور لكى أكون في مركز مرموق يليق بها”.

في اليوم التالي اتصل بسارة وأخبرها بأنه قد يأتي لخطبتها، وفي المساء جلس مع والده وصارحه بما يشغل تفكيره ويثقل قلبه بالهموم، كان والد “أحمد” موظفا في إحدى الهيئات الحكومية، وكان مشهوراً بحكمته ورأيه السديد، فكان دوما الملجأ الذى يلجأ إليه الجيران لحل ما يواجههم من مشاكل، فاستقبل قلق وتوتر نجله بابتسامة وأثنى على قيمة الحب والمشاعر، ثم صعد من نبرة حديثه بشكل مدروس محذرا ابنه من مغبة أن تهزمه عواطفه وتعرقل طموحه، وطالبه بأن يفكر في الموضوع من مختلف جوانبه، ولفت نظره بأنه موظف لا يملك ما يساعده به على نفقات الزواج.

شعر “أحمد” بخجل شديد لأنه فكر في سعادته دون أن يدرك الأعباء التى ستترتب على والده، وأدرك أنه في مرحلة تتطلب منه أن يكون عونا لوالده وليس عبئا عليه، انصرف من اللقاء بهدوء دون أن ينطق بكلمة واحدة فكانت كلمات والده بمثابة ضربات من سياط تسببت في إفاقته من غيبوبة الحب.

 لم يغمض جفنه وظل قلبه يصارع عقله، وبعد أن تبللت وسادته بدموعه انتفض وقرر أن يواجه حبيبته، ولكنه كان يفكر كيف سيملك الشجاعة ويبلغها بقراره، مر نحو أسبوع وهو في حالة نفسية سيئة، وطالب والدته بأن تخطر كل من يتصل على الهاتف للاستفسار عن غيابه بأنه في زيارة لأحد أقاربه.

 امتد الغياب أكثر من أسبوعين لكنه لم يقاوم شوق قلبه لرؤية سارة فاتصل بها فلم ترد، كرر المحاولة أكثر من مرة وفشل في الوصول إليها، مرت أيام عصيبة على أحمد، وفي ليلة تحولت إلى مفترق طرق بحياته اتصلت به سارة وأعربت عن حزنها لبعده عنها خلال الأيام الماضية، وأبلغته بأنها فشلت في مقاومة ضغوط والدها وسوف يعقد قرانها على ذلك المحاسب الذى تقدم لخطبتها، وأنها ستغادر للإقامة معه في دولة خليجية.. عجز لسانه عن الرد فأغلق الهاتف، وحلت خيوط الصباح وهو يسترجع أجمل ذكرياته مع من اخترقت قلبه، تساقطت الدموع على صور وخطابات حبيبته ثم وضعها في أحد أدراج مكتبه، وفتح شرفة غرفته، سحب قلبه المثخن بالجراح تنهيدة، ثم بسط سجادة الصلاة فصلى ثم جلس يناجي الخالق أن يلهمه الصبر على فراق حبيبه ابتهل له بأن يكتب لها السعادة.

ووجد أحمد فى نفسه إرادة كبيرة بأن يحافظ على تفوقه وفاء لوعده الذي قطعه على نفسه لسارة رغم أنها لم تعد له، وعندما كان يراوده الحنين لحبيبته كان يذهب إلى المكان الذي شهد أجمل لحظات حبهما ويجلس على الطاولة ذاتها عدة دقائق ثم ينصرف، وانقضى العام الدراسى ليعلن تفوقه على أقرانه، ونجاحه فى احتلال قمة ترتيب دفعته، وعاد لمنزله يزف الخبر لأسرته فاحتضنه والده وهو يبكى ويقول له هامساً: “أعلم أني قد طعنت قلبك لكن يعلم الله أن ذلك كان لخوفي على مستقبلك.. قد يأتي يوم وتسامحيني لكني لن اغفر ذنبي بحقك”.. بذكاء كبير احتوى أحمد الموقف فقال:” سأظل فخورا بك يا أبي.. وأعلم أنك تصرفت من منطلق حرصك على تفوقي”..

وظل البيت يستقبل المهنئين طوال اليوم، وعندما انصرف الجميع وجد أحمد يده تمتد إلى درج مكتبه الذي يحوى “ذكرياته”، ظل يعيد قراءة كل ما كانت تخطه أناملهما.. كان يتمنى لو أبلغ الحبيبة الغائبة بوفائه بوعده لكن كيف يصل إليها بعدما تقطعت كافة السبل، فلم يكن بوسعه إلا طى صفحة الماضى والتفرغ لحياته القادمة.

 كان نبوغه وراء ترشيحه لبعثة بالخارج للحصول على درجة الدكتوراه.. وعاد للتدريس في الجامعة ثم أنتج أبحاثا مهمة وضعته بين كبار العلماء في مجاله رغم صغر سنه، وغادر للعمل في دول عربية عدة أعوام وعاد أخيرا للاستقرار في مصر، وكان نادرا ما يعود لمسقط رأسه بعد وفاة والديه.. ساعات معدودة كان يقضيها مع أشقائه وأبنائهم في المناسبات والأعياد ثم يعود سريعا للانغماس في العمل.. تخطى الأربعين واحتار كل أصدقائه في أسباب عزوفه عن الزواج باستثناء رفيق عمره “هشام” الوحيد الذي كان يعلم أسراره وشاهد عيان على طعن سويداء قلبه. 

بعد عودته من بلدته ظل أحمد ينتظر اتصالا من سارة وقلبه يحترق شوقا، ولم يطل انتظاره ففى اليوم التالى كان الهاتف يحمل إليه صوتها الذى عادت إليه نبض الحياة، وكان الحديث عن مرضها هو السكين الذى شقا به عصا الخجل، فصمم على عرضها على طبيب صديق له يثق فى رأيه فى تلك الأمور، وخفق قلبه بشدة خشية أن ترفض لكنها أكدت أنها بحالة جيدة، وأنها ستقبل عرضه لأنه فرصة لرؤيته.

وجاءت سارة في الموعد الذى اتفقا عليه، وكانت ترتدي فستانا بلون زهرة البنفسج الذى لم تنس أنه اللون المفضل لدى أحمد، وذهبا إلى الطبيب الذي طلب منها إجراء بعض الفحوصات، وقال إن ذلك إجراء روتيني لمزيد من الاطمئنان، لكن نظرات القلق فى عينى الطبيب لم تخف عن عين أحمد، فاصطحب سارة إلى أحد المراكز الطبية، وخلال ساعات انتهت كافة الفحوصات، واقترح أن يقضيا بعض الوقت معا ثم يعودا لتسلم النتائج.

وجلسا معا لأول مرة منذ سنوات، حكي كل منهما ما مر به من أحداث، واسترجعا ذكريات العمر، وبدون لوم أو عتاب أخرج أحمد علبة صغيرة وفتحها لتفاجأ سارة بخاتم ثمين، قدمه لها وهو يقول: “هذا خاتم الزواج.. لن أفرط بك هذه المرة”. انهمرت الدموع من عينيها، فأضاف: “لم يكن أمر الفراق بأيدينا.. دعينا نطوي الماضي ونبدأ حياة جديدة.”.. تخطيا الموقف العصيب.. واتفقا على الزواج خلال فترة وجيزة.

ظهرت نتيجة الفحوصات وتسلمها أحمد، وحرص على أن يذهب وحده للطبيب الذي أكد أنها لم تشف من مرضها كما تظن، ولابد أن تجرى لها جراحة عاجلة قبل أن تسوء حالتها.. خرج من العيادة منهارا، وقرر ألا يخبرها بالأمر وأن يعجل إتمام الزواج، ثم يجرى لها الجراحة، والغريب أن سارة لم تسأله عن نتيجة الفحوصات، وكأنما أنساها القرب منه حياتها نفسها. 

وزُف العاشقان في حفل مبهر، فقد أصر أن يدخل السعادة على قلبها، وفى الأيام الأولى للزواج كان يتوقع أن تسوء حالتها بين لحظة وأخرى، لكنها، ولدهشته، لم تتعرض لأية متاعب صحية، بل على العكس، فقد كانت حالتها الصحية تتحسن من يوم لآخر، حتى مرَّ عام كامل، استعادت فيه سارة شبابها وجمالها، وكان عاماً رائعاً نسى فيه أحمد كل متاعب حياته الماضية، حتى إن مرض زوجته ضاع فى فيضان السعادة الذى عاشا فيه، إلى أن جاء يوم حاسم.

وكان الخبر السعيد قد جعل أحمد يحلق فى عنان السماء، فقد علم أنه أخيرا سيُرزق بابن من حبيبة عمره، وعندما علمت بالخبر وهى تنقل نظرها بينه وبين ابنتها من زوجها الأول، والتى عاشت معهما عام السعادة والهناء، فطن أحمد لما دار بخلدها، فقهقه ضاحكاً وطمأنها بأن الابن المنتظر لن يكون إلا شقيقاً لابنتى، وحرص على أن يقولها “ابنتى”، فشعرت سارة بارتياح بدا واضحاً على ملامحها، وبينما يعيش أحمد لحظات لم يعشها من قبل، إذا به وجهاً لوجه مع صديقه الطبيب.

فى دقائق قليلة انقلبت حالة أحمد من السعادة إلى الشقاء، حرص أن يبتعد بصديقه عن سارة بعد تبادل السلام، وبعد كلمات قليلة اضطر للعودة إلى أرض الواقع، فقد كانت كلمات صديقه قاسية: “أنت أهملت فى علاجها، لم يكن يجب أن تظل طوال هذه الفترة دون رعاية طبية، الحمل والإنجاب هما أكثر ما يمكن أن يهدد حياتها”، وعبثاً حاول أن يقنعه بأن صحة زوجته قد تحسنت، وأنها…. ولكن صديقه أصر على وضعه فى أسوأ موقف، فطلب منه بلهجة آمرة أن يعيد إجراء الفحوصات التى أجراها قبل عام كامل، وأن يوافيه بالنتائج فى نفس الليلة فى عيادته، وحذره من مسئوليته الكاملة عن أى مكروه قد يكون قد لحق بزوجته.

ولم يكن من الممكن إخفاء الخبر عن سارة هذه المرة، فقد كان غضب الطبيب وانفعاله كافيين لأن تفهم كل شئ، وبلا كلمة واحدة ذهبت مع زوجها فأجرت الفحوصات، وأصرت على أن تصحبه إلى الطبيب.

وفى المساء كانا يجلسان أمام الطبيب شخصان مختلفان عن السعيدين اللذين كانا يحلقان فى سماء السعادة قبل ساعات قليلة، كان أحمد ينكس رأسه أرضاً وعقله يستعد لوقع كلمات مؤلمة من صديقه، لكنه سمع شهقة دهشة، ثم صوت الطبيب وهو يقول: عجباً.. أهذه الفحوصات تخص زوجتك؟!.. لم يرد أحمد، فأضاف الطبيب: “هذه الفحوصات لشخص لا يعانى أية أمراض!”، نظر أحمد إليه بذهول حقيقى، وكذلك فعلت سارة التى أعادت الكلمات دماء الحياة إلى وجهها، خاصة عندما قال الطبيب: “لو كانت هذه الفحوصات لزوجتك فإنها ستكون معجزة حقيقية.. لقد شفيت تماماً، لم تعد بحاجة إلى أى شئ، بل إنه لا توجد آثار للمرض أصلا”.

لم يصدق أحمد، وظل صامتاً حتى أنهى الطبيب فحص زوجته، وظل يدعو الله وقد امتلأ قلبه بالأمل وهو يرى صديقه يستدعى الطبيب تلو الآخر، وكأنه لا يصدق أن زوجته قد برأت من مرضها، وبعد ساعات من الفحص، وبعد حديث طويل بين الطبيب والزوجة، كان أحمد يخرج إلى الشارع، ممسكاً يد زوجته بقوة وكأنه يأبى أن يخطفها منه أى شىء، وتنهد دافعا من صدره كل هموم حياته وهو يستعيد آخر كلمات ودعهما بها صديقه الطبيب: “لقد شفيت زوجتك بسبب أغلى وأهم ترياق فى الوجود.. الحب”. 


صفحة الكاتب في حانة الشعراء

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.