د. محمد سعيد شحاتة
اللوحة: الفنان المغربي عبد الله الحريري
أخذت المدينة في الشعر الحديث بعدا وجودياً وفلسفياً، استطاع الشاعر من خلاله التعبير عن التغيرات الاجتماعية والفكرية في مسيرة الإنسان، وما حكم المسيرة الإنسانية من قيم فكرية وانحيازات أخلاقية، وتغيرات اجتماعية ظهرت كلها في توظيف الشاعر للمدينة، ببعديْها المكاني والفلسفي.
منذ البداية، يباغت الشاعرُ القارئ بعنوان ملتبس، يتكون من جملة اسمية حذف خبرها، ليترك لنا استنتاج الخبر الذي هو تكملة للمبتدأ من حيث المعنى، وهذا يعني أن الشاعر قصد إلى تقديم نصف الجملة وترك القصيدة تتولى تكملة النصف الآخر، وبذلك لم يعد العنوان مفتاحا تأويليا فقط، بل أصبح جزءا لا يتجزأ من النص، بحيث يشكل حذفه انتقاصا للمعنى وبترا للدلالة، ومع تلاقي هذين الجانبين – العنوان والنص – تتشكَّل مرآة رؤية المتلقي لحركة المعنى.
والملاحظ أن الشخوص الواردة في النص خرجت عن كينونتها الفيزيائية لتصبح تجريدا خالصا؛ لأن الشاعر لم يتحدث عن أشخاص بأعيانهم، فحين تحدث عن الهابط إلى العاصمة لم يذكر اسما معينا، أو شخصا بعينه، ولكنه تحدث عن كل من يهبط إلى العاصمة أيا كان اسمه، أو المكان الذي جاء منه، ولذلك قال «كقروي… أو جنوبي…» في إشارة إلى تنوع من يهبطون إلى العاصمة سواء من الأرياف أو المدن، وكذلك قوله «خذ سيجارة – استمع لخوار العجل» فهو لم يذكر شخصا محددا سواء من أعطى السيجارة أو من أخذها، وكذلك من يتحدث والذي وُصِف حديثه بأنه خوار العجل، ومن ثم كان قولنا إن هذه الشخوص تخلت عن الطبيعة الفيزيائية لتتلبس بالطبيعة التجريدية، مما يحوِّل طبيعتها إلى طبيعة إدراكية سائلة بين كل الشخوص الذين يندرجون تحت إطارها العام، وتوصيفها المحدد، وسوف نتوقف هنا عند التشكيل البلاغي ومدى قدرته على المساهمة في إنتاج الدلالة في النص، فنتوقف أولا مع النص بين الخبرية والإنشائية، ثم نتوقف ثانيا مع التشكيل الصوري للنص، فنتلمس بعض الصور الفنية، ومدى قدرة ذلك كله على استكناه عالم النص، والكشف عن مخبوءاته.
النص بين الخبرية والإنشائية
يسيطر الأسلوب الخبري على النص بشكل واضح؛ فقد اشتمل على ستة أساليب إنشائية فقط، أما بقية أساليب النص فقد جاءت كلها خبرية، ومن البدهي أن يكون للأسلوب الخبري حضور بارز في النص؛ فالنص يقدم تجربة للمبدع الذي هبط إلى العاصمة باحثا عن الشهرة، في محاولة منه أن يكون ضمن التشابكات الثقافية والفكرية للعاصمة بكل ما فيها من صراعات وتغيرات فكرية وإبداعية، وبكل ما فيها من تطابقات قليلة، وتناقضات كثيرة في الانحيازات الجمالية والرؤى الفكرية، ومن ثم فإنه من الطبيعي أن تكون الأساليب الخبرية حاضرة بقوة في النص؛ لأن الشاعر يخبر عن التجربة بكل تفاصيلها، وتشابكات عناصرها، وتداخل خيوطها، وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الخبرية، ويعدُّ السياق المحدد الفعلي لدلالة الأساليب من خلال «كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات»(١) ومن الأساليب ما جاء دالا على التنبيه، مثل «سيصطادونك منبهرين ويصنعونك على أيديهم لتكون ابن العاصمة» فهو تنبيه للهابط إلى العاصمة بما سيحدث له من أفاعيل، وكأن الشاعر/النص يريد له أن يأخذ حذره فلا ينساق وراء الإغراءات والشباك المنصوبة له بعناية؛ كي يتخلى عن هويته الإبداعية، فإذا لم ينتبه فإن النص بذلك يجعله شريكا في المسؤولية المعنوية لما آل إليه حال الإبداع، ومن ذلك أيضا الأسلوب الخبري في قوله «لا أحد يسأل…» وهو أسلوب خبري الغرض منه التنبيه، ومن الممكن أن يكون الغرض منه التقرير، فإذا كان الغرض منه التنبيه فإن الدلالة تتجه إلى تنبيه الهابط إلى العاصمة بأنه لن يسأله أحد عن مسقط رأسه أو من أين أتى، ومن ثم فإن عليه ألا يشغل نفسه بهذه الفكرة؛ فلا أحد يهتم بذلك، وفي ذلك إشارة إلى أن الهابط إلى العاصمة قد يكون مشغولا بأن أماكن معينة يمكن ألا تلقى قبولا في العاصمة، وهنا يطمئنه الشاعر/النص بأن هذا السؤال غير وارد مطلقا؛ فلا أحد في العاصمة مهتم بهذه الفكرة، وإذا كان الغرض من الأسلوب الخبري التقرير فإن الدلالة تتجه إلى تقرير واقع العاصمة بأنها غير مهتمة بالأماكن التي يأتي من خارجها المبدعون، وأنها مشغولة فقط باحتوائهم، وصناعتهم على أعينها؛ ليكونوا من أبنائها، ومن الأساليب الخبرية الدالة على النصح الإرشاد «فقط بضع عناوين لأسماء كبيرة وهرطقات من دارت برأسه الخمرة الرخيصة» وهي نصيحة لمن يريد الشهرة في العاصمة وهذه النصيحة ترسم له طريق الشهرة بوضوح، ومن الأساليب الخبرية ما يكون الغرض منه السخرية والاستهزاء، ومنها «بالكاد ستكون مسخا أو ولدا متوحدا بعد أن جرت عليك كل أفاعيل العاصمة» فالشاعر/النص يسخر من هذا المبدع التي جرت عليه أفاعيل العاصمة ظنا منه أنه أصبح ضمن كبار المبدعين الذين يشار إليهم بالبنان، ولكن النص يخبره أنه بالكاد أصبح مسخا، وقد جاء في لسان العرب «المَسْخُ تحويل صورة إِلى صورة أَقبح منها وفي التهذيب تحويل خلْق إِلى صورة أُخرى مَسَخه الله قرداً يَمْسَخه وهو مَسْخ ومَسيخٌ وكذلك المشوّه الخلق… ومسيخ فعيل بمعنى مفعول من المسخ وهو قلب الخلقة من شيء إِلى شيء ومنه حديث الضباب إِن أُمَّة من الأُمم مُسِخَت وأَخشى أَن تكونَ منها والمسيخ من الناس الذي لا مَلاحَة له ومن اللحم الذي لا طعم له ومن الطعام الذي لا ملح له ولا لون ولا طعم، ومن الفاكهة ما لا طعم له وقد مَسُخَ مَساخة» وإذا كان لفظ «مسخا» ذا دلالة سلبية، واستخدم في اللغة دالا على التحويل من صورة إلى أخرى منبوذة مشوَّهة فإن الدلالة في النص هنا ليست مادية، ولكنها دلالة معنوية بمعنى أن المبدع الذي جرت عليه أفاعيل العاصمة لم يحقق ما كان يتمناه من رقي في الإبداع وشهرة، ولكنه تحوَّل إلى صورة مشوَّهة منبوذة ومنفِّرة لكل ذي فطرة سليمة ومن هنا قلنا إن الغرض من الأسلوب الخبري السخرية والاستهزاء، ومن الأساليب الخبرية الدالة على السخرية والاستهزاء أيضا قوله «الذي لا يشق له غبار حكاية أو تتصدع له جدران قصيدة» وهو هنا ذم ولكنه جاء بما يشبه المدح، فظاهر الجملة الخبرية هنا أنها مدح لهذا المبدع الذي أصبح ابن العاصمة، فهو أصبح لا يشقُّ له غبار حكاية، ولا تتصدع له جدران قصيدة، وفي ذلك إعلاء لمكانة هذا المبدع، ولكننا إذا وضعنا هذه الجملة في السياق التي وردت فيه فإن الدلالة ستختلف تماما؛ فهي قد جاءت بعد الأفعال «يصطادونك – يصنعونك – لتكون ابن العاصمة» كما جاءت بعد إجراء التحول عليه؛ إذ كان «جنوبي يشمخ بلهجته، ويستدفئ بموهبته» فإذا كان يشمخ بلهجته، ويستدفئ بموهبته، وتم إجراء تحويل وتغيير عليه فإنه لا شك تحويل وتغيير إلى غير ما كان عليه، وإذا عرفنا أن ما كان عليه إيجابي فإن التحويل الذي صار إليه سلبي بالتأكيد، ومن هنا قلنا إنه ذمٌّ بما يشبه المدح، فهو مدح في ظاهره، ولكنه ذمٌّ في حقيقته، ويرى بعض النقاد أن هذا الأسلوب يمثل خروجا عن النسق الذي يُكْسِب المعنى طرافة وروعة؛ فهو يعتمد في تأثيره على المباغتة التي تترك أثرها الوجداني على المتلقي(٢) ويمكن أن يُفهم من الأسلوب الخبري السابق أنه مدح من وجهة نظر العاصمة وقيمها، ولكنه ذمٌّ من وجهة نظر الإبداع الحقيقي الذي يستدفئ بالموهبة، ويتباهى باللغة، ومن هذا النوع من الأساليب الخبرية/الذم بما يشبه المدح قوله «وأنت تهش الضباب برأسك» فإذا نظرنا إلى الدلالة المباشرة للجملة منفصلة عن محيطها اللغوي نجد أن هذا الإنسان يهش الضباب برأسه، أي يزيل الغيوم عن فكره، وهو مدح؛ لأن إزالة الغيوم تستدعي وضوح الرؤية، ولكننا إذا ربطنا الجملة بما قبلها وما بعدها، بمعنى وضعناها ضمن دائرتها اللغوية فسوف نكتشف أن الغرض منها الذم وليس المدح؛ فهذا المبدع يستنكر حشرجة صوت أمه، وهي في النزع الأخير، وهي صورة دالة على النهاية، ولا تستدعي جدالا أو تأويلا، ولكن هذا المبدع يهش الضباب برأسه، ويستنكر خبر وفاتها استنادا إلى أنها قدَّت من صخر الصبر واليقين، ومن ثم فإنه لم يكن يهش ضباب الإنكار للوصول إلى اليقين، ولكنه يهش ضباب اليقين – كما يظن – للوصول إلى ما يعتقده مستنكرا ما يقال عن وفاتها، ومن ثم قلنا إن الجملة فيها ذمٌّ جاء في صورة مدح، والغرض من هذا الأسلوب الخبري السخرية والاستهزاء من هذا المبدع الـذي لا يرى الحقائق الواضحة، ويستنكر وجودها مع كونها ليست محلا للاستنكار، وتتوالى الأساليب الخبرية الدالة على الاستهزاء والذم، مثل «طوَّح بالكأس كممثل فاشل في مليودراما فجة – طوتك كمنديل بلَّله العرق – وبصقتك تترنح آخر الليل كقصيدة مرتبكة …الخ». أما الأساليب الإنشائية فقد اشتملت القصيدة على ستة أساليب، هي « من أين هبطت؟ – دع أسمالك – طوّح بكل ما جئت به – خذ سيجارة – استمع لخوار العجل – تذكر دائما» وقد جاءت كلها أساليب أمر ما عدا الأسلوب الأول «من أين هبطتَ؟» فهو أسلوب استفهام، وإذا نظرنا إليه باعتباره سؤالا عاديا لكل من يهبط إلى العاصمة فإنه يكون استفهاما حقيقيا الغرض منه الاستفسار عن المكان، وإذا نظرنا إليه من زاوية الموهبة والإبداع، أي من زاوية الشموخ باللغة والاستدفاء بالموهبة فإن الغرض منه يكون التعجب، أي أن هذا المبدع الذي يشمخ بلهجته ويستدفئ بموهبته قد اثار تعجب المستمعين له، وإذا كان النظر منصبًّا على الأسمال البالية التي تغطي هذا المبدع فإن الغرض من الاستفهام هنا يكون السخرية والاستهزاء من شموخه بلهجته مع أسماله البالية، وكأن سائلا يسأله لماذا تشمخ علينا بلهجتك وموهبتك وأنت بهذه الأسمال البالية؟ أما الأسلوبان «دع أسمالك – طوّح بكل ما جئت به» فإن الغرض منهما النصح والإرشاد، فالنص هنا ينصح هذا الهابط إلى العاصمة أن يتخلى عن الأسمال وعن كل ما يحمل من أفكار ورؤى؛ فهي غير ضرورية في العاصمة؛ لأن العاصمة سوف تقوم بتغيير لكل شيء، ثم يأتي أسلوب الأمر «خذ سيجارة» ليدل على التودد والتقرب، ومعروف في الذاكرة المجتمعية أن إعطاء سيجارة نوع من الرشوة، وهو شيء متعارف عليه بين الأفراد المرتشين في المؤسسات الحكومية، وهو ما يعني أن المصالح الشخصية والرشوة والمنفعة هي الحاكمة والمتحكمة في معظم المشهد الفكري والثقافي في العاصمة، ثم يأتي أسلوب الأمر «اسمع خوار العجل» والغرض منه الالتماس؛ لأنه قد جاء بعد التودد السابق المصحوب بالرشوة «خذ سيجارة» ومن ثم يصبح الالتماس في الاستماع إلى هذا الإبداع الفجّ «خوار العجل» هو المرجَّح للغرض من أسلوب الأمر، ثم يأتي الأسلوب الإنشائي الأخير وهو أسلوب الأمر «تذكَّر دائما…» لكي يدل على السخرية والاستهزاء من هذا الهابط إلى العاصمة الذي اندمج ضمن عناصر العاصمة، وجرت عليه أفاعيلها، ثم اكتشف في النهاية الحقيقة، فالنص يسخر منه ويستهزئ من صحوته بعد فوات الأوان، وأنه كان ينبغي أن يدرك ذلك منذ البداية.لقد ساعدت الأساليب بتنوعها إنتاج الدلالة في النص، والكشف عن الرؤية الفكرية ذات الأبعاد المتشابكة، والتي أراد النص إيصالها إلى المتلقي.
في الجزء الثاني من الدراسة يتوقف الناقد د. محمد سعيد شحاتة أمام الصور البلاغية ودورها في إنتاج الدلالة للنص، وكذلك أمام المفاهيم المهيمنة في القصيدة في محاولة للإمساك بالخيوط الفكرية التي شكَّلت ملامح رؤية الشاعر التي دار حولها النص.
(١) شاذلية سيد محمد السيد، السياق وأثره في بيان الدلالة، ص 6
(٢) ينظر: مهدي إبراهيم الغويل، السياق وأثره في المعنى، ص 93