الحِمِش

الحِمِش

وليد الزهيري

اللوحة: الفنان السعودي طه الصبان

حضر (عم وهدان) في موعده الذي لم يخلفه منذ سنوات، يدفع بأقدامه أطراف جلبابه البني ذي الأكمام الفضفاضة، جلس على مقعده في أقصى اليمين، واضعًا (قفَّته) على المنضدة، طوَّق رقبته جيدًا بكوفيته الصوف متدثرًا من برد الشتاء، رفع يده متحسسًا ثنايا عمامته البيضاء جاذبًا من بين ثناياها سيجارة (فرط)، أشعلها متخللًا بأصابعه لحيته التي لا تقل بياضًا عن عمامته، شذبها مبتسمًا مهللًا بصبي لوَّح له برفع قدميه، وهو ينظف بهمة أسفل الكراسي المصفوفة على رصيف المقهى.

نفث دخان سيجارته مستذكرًا آخر عهده بأمه:

ـ على وين يا وليدي لساك صغار؟

أجابها وهو يلملم خلجاته في (قفَّته) قبيل مغادرته (النجع) في سبعينيات القرن الماضي.. في موسم الهجرة إلى الشمال:

ـ واد عمي بيجول الشغل في المينا ياما.

رفع قدميه منكمشًا بحجمه الضئيل عندما مد الصبي مقشته أسفل منه، ممتعضًا من جسمه الضئيل الذي وقف حجر عثرة أمام عمله في الميناء مع بقية (العتَّالين)، إلى أن استقر به المقام على مقعده حيث هو بمقهى شعبي يجاور محطة الرمل، عاود الانكماش متجنبًا نثر الصبي للنشارة الناعمة على الرصيف.

حمل (قفته) متأكدًا من غطاء فوهتها بقطعة من (الخيش)، دلف المقهى نحو الصبي المنشغل بإشعال النار أسفل (الرمّالة)، دس يده داخل (القفة) وأخرجها ممتلئة بقدر كبير من الفول السوداني تركه أمام الصبي على (النصبة)، داعبت رائحته أنف الصبي، أمسك بإحدى حباته وفركها قائلًا:

ـ ليلتك عسل يا (عم وهدان).

نظر نحو زبائنه مناديًا على بضاعته:

ـ الحِمِش.

كانت هذه كلمته التي يصيح بها بين حين وآخر، باحثًا عن الجوعى والراغبين في تجربة حظهم مع لعبة (جوز ولا فرد).

مر بين طاولات الجالسين، تجاوز واحدة أصحابها على المعاش، يليهم عشرينيون يجلسون نفس جلسة سابقيهم، يعتدلون فقط في هيئتهم كلما مرت عليهم فتاة، أشار إليه أحدهم ممسكًا بسيجارة منتفخة بلفافة (بانجو) مبديًا رغبته في ممارسة لعبة (جوز ولا فرد)، أخرج (عم وهدان) يده من كُم (القفة) بالسوداني المختبئ داخل قشرته المحمصة المملحة، وقبل أن يفرغها على المنضدة قال صاحب السيجارة المحشوة:

ـ جوز.

تولَّى أحد أصدقائه عد حبات السوداني اثنان.. اثنان.. حتى أنهى عده برقم فردي، وقال الذي عد مبديًا رغبته في اللعب:

ـ فرد.

قال الخاسر الأول:

ـ أعد لك.

استمر في عده ثلاث حبات يليهم ثلاث حبات حتى أنهى عده بزوجين من السوداني، رفع رأسه بابتسامة خبيثة نحو صديقه معلنًا خسارته، قال ثالثهم:

ـ أجرب حظي، جوز.

أعاد الخاسران السوداني الذي انتهى برقم فردي مقهقهين على سوء حظهم، وضع كل منهما جنيهًا معدنيًّا في يد (عم وهدان) قائلين:

ـ إيه النحس الدكر ده؟

قضى نصف يومه متجولًا على رصيف المقهى بين الجالسين بين أصحاب الحظ العثر في اللعب والحياة، توغَّل (بقفته) وسط المقهى بعدما ازدادت ازدحامًا بين ممارسي لعبتي (الدومينو) و(الطاولة) الأكثر احترافًا، وكلما مر بين أحد المقاعد بجواره (شيشة) ملأ صدره بدخانها فائزًا (بتعميرة) مجانية من الدخان الأزرق، لا صوت يعلو على ضجيج قطع (الدومينو) و(الطاولة)، يصاحبه تدحرج (النرد) متألمًا من قرصه.

وقف (عم وهدان) خلف (أحمد سعيد) ذي الخامسة وثلاثون عامًا، صاحب محل الملابس النسائية في شارع (صفية زغلول)، زبونه منذ أيام عزوبيته قبل زواجه من فتاة ميسورة الحال ترددتْ كثيرًا على محله قبل زواجهما، لمح قطع الدومينو بين يدي (سعيد) يحمل معظمها رقم (خمسة)، وكلما هز (عم وهدان) رأسه مقترحًا اللعب بورقة جيدة، يختارها (سعيد)، كأنه يستمع لما يمليه عليه قرينه، حتى ورَّط اللاعب المقابل في سحب بقية قطع الدومينو.

جذب (سعيد) من خلفه طرف جلباب (عم وهدان)، وهو يرفع يده عاليًا ويهبط بقطعة الدومينو على المنضدة محدثًا دويًا هائلًا قائلًا

ـ (بانج دو) قفلة وعد يا معلم.

بدأ الخاسر في حصر خسائره قائلًا:

ـ ماشي، يا ابن المحظوظة.

نطق (سعيد) بكلمة واحدة:

ـ الحِمِش.

مد (سعيد) يده في (القفة) وأخرجها ممتلئة بالفول السوداني، وضعه أمامه وأمام نديمه، وأخرج من سترته عشرة جنيهات ودسها في سيالة (عم وهدان) كالمعتاد.

ازداد الدخان الأزرق نقاءً في بطن المقهى مع ساعات الفجر الأولى، حيث خلوة المعلمين الكبار، لا يمارسون ألعاب الهواة، لديهم ألعابهم التي يمارسونها في الحياة، لا يعكر صفو مجلسهم أحد، هم على مقربة من باب جانبي يفتح على شارع خلفي، يُستعمل في حالات الطوارئ التي لم تطرأ منذ أمد.

يتوسط المعلم (صبحي) رفاقه ببنيانه الممتلئ وكرشه المتدلي أمامه، تكاد أصابعه تطاول (طقطوقة) وضع عليها (دُرج أحجار) الشيشة، يُلقمها بقطع الحشيش، مقسمًا الأرزاق على المتابعين، يجلس صبي المقهى قرفصاء أمامه يرص الفحم على الشيشة يغالبه النعاس، وكلما فرت جمرة من فوق حجر الشيشة، يحاول الصبي إمساكها (بالماشة)، يدفع (صبحي) يده بعيدًا، ويحملها بأصبعيه ويعيدها فوق (الحجر).

رمق المعلم (قفة عم وهدان) بنصف عين مدركًا أنها أشرفت على الخواء، نادى عليه بصوت أجش:

ـ حِمِش.

هرول نحوه، وقال (صبحي):

ـ جوز.

وبدأ عد السوداني أزواجًا في تأنٍّ مدركًا ما سيصل إليه في نهاية المطاف، ابتسم منتشيًا ومبسم شيشته لا يفارق ثغره ذا الشارب الأبيض الكث المائل للاصفرار في منتصفه من زفير شيشته، أشار (صبحي) باستمرار اللعب بيد قابضة على عملات فضية، نطق بأحرف مدموغة:

ـ فرد.

زادت ابتسامته الماكرة اتساعًا بفوزه الثاني على التوالي، كرر محاولاته مرات.. ومرات، حتى خوت القفة وامتلأت المنضدة، فتح كفه وهو يهزها مصدرة صوتًا يرجف له قلب (عم وهدان)، ثم ألقى في كفه الممدودة جنيهًا واحدًا، مشيرًا بأطراف أصابعه إليه بالانصراف، وقال أحد سمار (صبحي) ممالئًا وهو يهم بتقشير السوداني:

ـ سعيد في اللعب، سعيد في الحب.. يا جوز الاتنين كل واحدة فيهم أصبى من التانية.

غادر (عم وهدان) هو و(قفته) الخاوية، يجر أذيال جلبابه وخيبته، مختلطًا على مسامعه ضحكات (المعلم) الممزوجة بسحق قشور الحمش.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.