الصندوق

الصندوق

مصطفى البلكي

اللوحة: الفنان الإنجليزي إدوارد وادزورث

اجتمع الأبناء والأحفاد حول الجد الممدد على الفراش، عيونهم معلقة بجسده الضامر، يتابعون حركة صدره أثناء خروج النفس ودخوله، تفصل بينهم وبين سريره مسافة معقولة، تكفي لتمدد جسد أحدهم بالطول.

يرفع الجد المحتضر حاجبيه؛ فتنتبه عيون المحيطين به ويمعنون النظر في بحر عينيه المعكرتين باصفرار المرض اللعين.

 يعقدون مقارنة سريعة بين الوجه المغلف بكل أسباب الموت، والوجه الشاخص إليهم من خلف زجاج الصورة المعلقة في مشجبها فوق رأسه، والمصوب عينيه إلى الرف المزخرف بنقوش نباتية، حركة لا تكتمل بسبب النظرات القوية.

***

الصندوق… كان أمامهم، يناغي عيونهم بزخارف، يحفظون أدق تفاصيلها، ابتداء من الحواف الصدفية، وانتهاء بالجوانب المرسوم عليها أشجار صغيرة، يحط عليها طير مختلف الأحجام، ورجل وحيد في المنتصف يمسك بلجام حصان.

كل واحد منهم يرسم في خياله الثروة المخبأة فيه، والتي قال عنها المحتضر إنها منذ جدود الجدود.

الأب بعد أن تكررت محاولاتهم للمسه وهم أطفال، صنع الرف، بالغ في زخرفته، وإضفاء روح الجمال عليه، لدرجة أن الرسومالموجودة على الصندوق تشبه الموجودة على لحم الرف.

الصندوق كان لا يبرح مكانه إلا مرة واحدة كل شهر، يصحبه الأب إلى غرفة نومه، يغلق على نفسه بابها بعض الوقت، ثم يفتحها ويعيده لمكانه، عادة لم يغيرها، حتى بعدما أصابه الهرم.

انتظروا اللحظة التي يتم فيها فض القفل الموضوع على الصندوق، وتوزيع ما رسمه خيال كل واحد، وصل ترقبهم للذروة يوم أن نظروا، وجدوا ملامحه كادت تختفي تحت ضراوة طبقة من التراب الناعم، استطاعت أن تطمس معظم ملامح النقوش والصور.

في الأسبوع الأول من مرضه، كانوا يدخلون عليه، يلقي كل واحد منهم نظرة عليه، ونظرة طويلة إلى الصندوق، تجعل الراحة تحط على ملامحه.

ظلوا هكذا بدون أن تسول نفس أحدهم له أن يجتاز تلك الخطوة بأخرى.

ذات يوم، دفعت شهوة المعرفة يد أحدهم، لامس الصندوق، في البداية كاد يمنع الصوت الملح، لكن بريق الثروة المتخيلة، نهش صدره، ولم يهدأ إلا بعد أن فعل فعلتهحركته لم تكتمل، صحيح إنها نجحت في إسقاط سرسوب تراب، غادر وجه الرجل الممسك بالحصان، إلا أنها جعلت صوتا ما يخرج، يشبه إلى حد كبير صوت صهيل الخيل، تردد في الغرفة، وكان كافياً لإيقاظ الأب الذي وجه نظراته لابنه، نظرات كالعصا التي كان يلسع بها أحدهم إذا ما لمس الصندوق في صغره.

بعدها طلب الأب من حفيده أن يعتلي الكرسي، فعل الصغير، وأحضر للجد صندوقه، أخذه ووضعه تحت السرير.

***

تعلقت عيناه بالأبناء، وبالأحفاد المحدقين به، خص أصغرهم بنظرة خاصة، نجح في استخلاص ابتسامة منه، غازلت شفتيه الصغيرتين. 

الكل تعجب من مقدرته على امتلاك نفس النظرة التي كانت تسكن كل واحد في مكانه، وبنفس القوة والمقدرة، يستطيع أن يخفض الهامات أمامه.

الوداعة التي لاحظوها منه جعلت الأفواه تتباري في طلب الصحة وطول العمر، كلمات فيما يبدو حركت أشياء ما تسكن بداخله، جعلته يزاوج بين جفونه انطباق لم يستمر إلا لثوان، بعدها فض التزاوج وأطلق دمعتين، شدتا الحفيد الصغير، فهرع إليه، وألقي بجسده عليه، وبأنامله الرقيقة نزع الدمعتين، استوقفه، وطلب منه سحب الصندوق.

غاب جسد الصغير تحت السرير، ولما فرد عوده وبيده الصندوق، امتدت إليه عيون المتحلقين، كل واحد يريد أن يثقبه بنظرات نارية.

سافرت العقول اللاهثة، ترسم صورة لذهب الصندوق، بينما الجد كان يعالج قفله بمفتاح سحبه من تحت مخدته، رمقته العيون، وشبت الأجساد، وود كل واحد منهم معرفة ما به.

سحب الجد يد الصغير، دون أن يتيح له رؤية ما بالصندوق من أشياء، مسح أنامله بشيء خشن، هكذا أحس الصغير، ثم أغلق الصندوق، وأعاد المفتاح لمكانه، ولما هم الصغير بإعادته، منعه، فتهللت العيون، واستبشر المتحلقون بقرب لحظة لطالما انتظروها.

***

حينما جاءت الشخرة الأخيرة، دخلوا، فإذا بيد الجد تنام على يد الصغير التي تنام بدورها على الصندوق.

سارعت العيون إلى الصندوق، استخلصوه من الصغير، وفتحوه، انزاح الغطاء، ووجمت العيون، وتركوه، وعينا العجوز شاخصتان إليه، بينما الصغير يخرج قطعة الخيش، ويقربها من أنفه.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.