سخرية القدر

سخرية القدر

نبيلة غنيم 

اللوحة: الفنان الروسي ناثـان آلتـمـان 

أزاحت يد النهار ستار الليل ليتغير حال “حسن”، ينتقل هو ووالدته من داره بعد وفاة والده إلي دار عمه الذي يكتظ بالأولاد البنين، بلا إناث، زوجة عمه المتسلطة تنتظرهم متنمرة، فقد صارت أم حسن زوجة لعمه بعد انقضاء شهور العدة بحكم عادات بعض القرى، فالعم لابد وأن يرعي أبناء أخيه المتوفى بصفة رسمية.

كان حسن هادئاً بطبعه، زاد هدؤه بعد اليُتم، انطوى علي نفسه حيث شعر بالوحدة في بيت عمه، فهو أصغر الأولاد وأضعفهم جسداً، يتذكر لحظات مرض والده، يعتصره الألم وهو جانبه يرى في عينيه الخوف عليه من اليتم، فقد مات وهو يضمه، فزع الطفل الصغير فزعا عظيما، مما جعل الابتسامة تخاصم شفتيه، والبأس يتفجّر من قسماته، كان دائما يبدو عاقداً حاجبيه متجهما، غاضبا من الموت الذي سرق منه والده الذي كان يهتم به ويضاحكه طوال الوقت.

يتذكر حينما كان يمسك بيد والده الدافئة في عز الشتاء، يقفز في سعادة وهما ذاهبان إلي المدرسة في الصباح الباكر، وحينما كان يصطحبه لصلاة الفجر ورائحة المسك التى كانت تلتصق بيده وبملابسه حينما يحتضنه والده بعد انتهاء الصلاة، فيدخل في معطف والده كقطة تتدفأ بصاحبها، كما يتذكر الانقلاب المفجع الذى حدث بعد وفاته، كيف تبدل الأمان بالخوف؟ وتبدلت ابتسامة الثغر إلي تجهم؟ حتى أن شكل السماء صار أقل نوراً، والأرض صارت حزينة، كثيرا ما كان يشعر بأنه كعصفور حائر لا يركن إلي عش يملكه، وإنه حط علي عش يُشعره بالغربة، وأنه عاجز بلا قوة تساعده علي رسم حياته كما يحب، ورعاية والدته والحفاظ عليها في بيت والده دون تدخل من أحد.

فيذرف الدمع بلا انقطاع.

كان يبدو شارداً وكأن أسئلة العالم تخامر عقله وهو يبحث عن الإجابة! سكوته علَّمه أن يستمع أكثر مما يتكلم.. فقد ربى نفسه علي التأمل في كل ما يحدث حوله.

عمه الشيخ “مأمون” يصحبه إلي المسجد في كل مساء، حتى يطمئن من الشيخ “أيوب ” علي حفظ حسن للقرآن، ولكن شتان بين صحبة والده وصحبة عمه، فقد كان عمه يجره جراً وكأنه عنزة يسوقها إلي المذبح، ثم يكبه كباً ليتلقفه الشيخ أيوب ليطيب خاطره ويدعوه للصبر علي معاملة عمه القاسية ثم يترحم علي والده ويبدأ معه بترديد كلمات الله.

يرنو حسن للمستقبل بعين ملؤها الحزن، فمطالع الشمس توارت عن اتجاهاته ولا يوجد أمامه إلا اتجاه واحد لابد من اقتناصه واستثماره جيداً، وهو المذاكرة والقراءة والمعرفة.. هي طوق النجاة الذى سينير له طريقه المظلم، فقد وجد نفسه في القراءة. 

بتلقائية وجد يده تمسك بالقلم ويسكب كل خلجاته وأحلامه علي الورق، ليكون مشروع أديب في بواكير صباه، فلم تفلت من بين يديه دقيقة واحدة إلا وملأها بالمعرفة.

توالت الأيام وشب حسن عن الطوق بلا ونيس أو جليس، حتى والدته فقد انشغلت عنه بمشاكل عمه وزوجته وحياتها الخاصة معهما، انغمست في المشاجرات التى لا تنتهي والذود عن نفسها وعن ولدها الاعتداءات المتكررة والإهانات وكأن البيت صار ساحة حرب، فيها المنتصر وفيها الخاسر وكان حسن وأمه هما الطرف الخاسر دائما، لأنهما الأقل والأضعف.

أتم حسن دراسته الثانوية وحان له أن يذهب إلي القاهرة ليدخل الجامعة، فقد ألحقه عمه بالمدينة الجامعية والتى شعر فيها ببعض الاستقلالية برغم صحبة الغرفة، بدت له الحياة مختلفة هناك، أكثر اتساعا.. أكثر حركة.. أكثر انفتاحا وحرية.

لكن إحساس حسن بالمسؤولية جعله يقرر عدم إضاعة الوقت إلا في المذاكرة فقط، فالجامعة تعني له محاضرات ومذاكرة وتقدير في نهاية كل عام وإنهاء الأعوام الأربعة بتقدير يؤهله للعمل دون فاصل بين الجامعة والعمل.

وهناك التقى بـ “سامي” زميل الغرفة بالمدينة الجامعية، شاب يختلف عنه كل الاختلاف.. فهو مهزار، خفيف الظل، لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا وحولها إلي مزاح برغم حاله غير الميسور، وتدبير مصروفات الجامعة بالكاد، إلا إنه يهُش الهموم عن أذنيه ويعيش الحياة في بساطة، لا يفكر في الغد ولا يخطط له.

والده موظف بمديرية الزراعة وله أربعة أخوة، سرعان ما تآلف معه حسن، فسامي شاب به صفات جسمانية تجعل كل من يراه يسأل: من هذا الشاب الجميل، شعره الناعم مصفف بشكل لطيف فإذا تحرك نزلت خصلة علي جبينه الوضاء ليكون كممثلي السينما، فقد وهبته الدنيا جمالا وذكاءً ووجاهة شكلية وحرمته من وجاهة المال والعز. 

صوت سامي العالي دائما كان يزعج حسن في البداية، فهو يكره الأصوات العالية التى تذكره بمشاجرات بيت عمه القميئة، لكن سرعان ما تفاعل حسن مع سامي واندمجا في صداقة براقة، صداقة بطعم الأخوة، فحسن بلا أخ حقيقي، لم يجد الأخوة في أبناء عمومته لأنهم كانوا يعتبرونه دخيلا عليهم، يزاحمهم في بيتهم ويقاسمهم حياتهم. لذلك تناسى انزعاجه وتواصل مع صديقه، لم يتخل عن طريقة كلامه الهامسة لعل سامي يتأثر بطريقته في الكلام.

ومع الأيام كان سامي يقول لحسن: يبدو أننا صببنا سِماتِنا وطِباعنا كلٌ في إناء الآخر فامتزجت طباعنا وأصبحت أنا مع الوقت أقل إزعاجا وصرت أنت أقل هدوءاً.. صب كل منا بعضا من شخصيته في شخصية الآخر.

يبتسم حسن ابتسامة تصديق علي كلام صديقه.

كان حسن يزور عمه ووالدته في الإجازات فقط، كانت هذه الزيارة من أثقل الأعمال علي قلبه، فكل شئ هناك يذكره بفقدان الركن الركين في حياته، يذكره بالانقلابات الجذرية التى حدثت في حياته.

لم يدر حسن أن أحداً يرقبه أو يهتم به في بلدته هذه، وينتظره علي أحر من الجمر.

في كل يوم تصعد “زينة” إلي سطح بيتها لتراقب حسن وهو يجلس علي الأريكة الفخمة المظللة بمظلة بديعة التصميم، القابعة في فناء حديقة بيت عمه، المُسَوَّرة بسور أنيق لتكون متنفسا لأهل البيت دون أن يكشفهم أحد.

تراه وهو يلتهم سطور الكتب بعينيه، وحين ينتهى من القراءة يغلق كتابه ويحتضنه كأنما يشكره علي ما أهداه من معلومات، فكانت تقول في نفسها: ليتني كتابا بين يديه. وتغلق عينيها لعل ما تمنته يتحقق.

لم يكن حسن يشعر بنبضات “زينة”، لا يرى عينيها التى ترقبه طوال الوقت.. فهو يعيش في عالمه المغلق علي القراء وكتابة أفكاره.

قررت زينة استدراج حسن ولفت نظره إليها بعد طول تفكير، فالتقطت حجراً صغيراً وقذفت به المظلة. فما كان من حسن إلا أنه نظر إلي حيث الصوت، فوجد زينة تنظر إليه في وجدٍ بوجهها المستدير الأبيض المكتنز المخضب بالحُمرة، تظاهر بأنه لا يهتم لوجودها، تقوقع تحت مظلته وواصل القراءة، لكن شيئاً ما اعتمل بصدره..

دار حديث النفس بداخله: زينة جاهلة، لكنها جميلة، هل للمرأة أن تكون مثقفة؟ أم يكفيها الجمال؟.. أنا لا أريد امرأة فحسب.. أنا أريد صديقة وشريكة عالمة بفن التعامل.

المشكلة أننى لا اقتنع بإنسانية الإنسان وجماله إلا إذا رأيته يمتلك عقلا جميلا، وهى عندما أرادت تنبيهي إليها قذفتني بحجر! وهذا له دلالة أن تفكيرها يشبه تصرفها. وكلماتها ستكون “دبشا”. ابتسم حسن في نفسه ثم تجاهل الأمر.

وفي اليوم التالي كررت زينة ما فعلته بالأمس، نظر حسن إليها طويلا هذه المرة، وجد شفتيها ترتعش بتمتمات لم يفهمها.

فتجاهلها للمرة الثانية، لكنه فقد تركيزه هذه المرة وراح يسأل عما كانت تهمس به؟ وعن ارتجافة شفتيها وعن تصميمها للفت نظره.. شغلت زينة عقله قليلا.. ولكنه نبه نفسه مرة أخرى إنه لا تعجبه أمثال زينة من الفتيات، هو لا يريد الارتباط بها لا من قريب ولا من بعيد، سافر حسن للقاهرة وهو يزعم أنه لا يفكر في هذا التمثال الجميل فارغ الرأس وضامر العقل.

كلما تذكر الحجر الذي قذفته لتنبهه إليها.. يبتسم ساخرا من فعلتها.

في إحدى أجازات حسن كانت زينة في انتظاره عند محطة القطار، تملكته رجفة لا يعرف معناها! أهي المفاجأة؟ أم الخجل، أم إنه تأثير الأنثى عليه لأول مرة؟؟ 

تمالك نفسه أمامها وتهيأ للكلام معها :

  • زينة!!
  • حمدا لله علي سلامتك يا حسن.
  • الله يسلمك.
  • جايه تقابلي حد هنا؟
  • أيوه.
  • طيب.. محتاجة حاجة؟
  • جايه أقابلك أنت يا حسن.

تلعثم حسن قليلا ثم قال لها:

  • البلد صغيرة جداً يا زينة وأنتِ بنت بلدى وأخاف عليكِ من كلام الناس.
  • طيب أنا حجيلك بعد العشا في الجنينة بعد ما الكل يكون في بيته.

سكت حسن ولم يتفوه بكلمة، تركها وأسرع في مشيته كأنه يهرب من شئ مخيف. وعقله يردد: لماذا لم ترفض؟ سكوتك كان بمثابة الموافقة، هل ستتحمل تجربة من هذا النوع؟ أنت لا تحبها، وكثيراً ما كنت تستخف بعقلها الفارغ، ألم تعقد العزم علي أنك لن ترتبط بأي علاقة إلا لمن يهفو إليها قلبك وتقتنع بعقلها قبل جمالها؟ وإنك لن تهب قلبك إلا لزوجك فقط؟ أم أن رائحة الأنوثة لجمت لسانك وأخرستك؟

وبرغم تأنيبه لنفسه إلا إنه كان ينتظر “زينة” في المساء بقلب مضطرب.

جاءت زينة تتسحب إلي صومعته كاللص الخائف أن يراه أحد، وعندما اقتربت من أريكته، تحولت إلي طفلة ضخمة الجثة، ظلت تمسك بأطراف أكمامها وتعض عليها بأسنانها وتبتسم ابتسامات بلهاء، خافضة رأسها، رافعة عينيها وهي تبحلق بخجل في وجهه، وهو جالس كالصنم.. فاقد الحركة.. مشلول التفكير.

قفزت هي قفزة يغلب عليها الطفولة وجلست إلي جواره، فهب واقفا، اقتربت منه أكثر، فتسرب إلي أنفه رائحة الأنوثة التى لم يألفها من قبل، وشعر غصباً بنشوة غريبة جعلته يبادلها النظرات ويقترب منها أكثر ليتنفس عطر الأنوثة حتى يتشبع أنفه منه.

ظل يقترب حتى تراشقت الشفاه وانتشى حسن بخمرها وتولدت الرغبة بداخله.

القرية تغط فى سكون.. وهما يتبادلان الضجيج همساً كل ليلة في أجازاته، فقد صار يحب القرية بعدما كان يأتيها جبراً لخاطر والدته.

باتت زينة مفتونة بفتاها، مفتونة بوسامته وقسامته وفتوته وقوته ورزانته، وكل ما يأتيها منه.

بات حسن مفتونا برائحة الأنوثة التى قدمتها له زينة علي طبق من ذهب، صحيح أنه غير قانع بشخصيتها، ويعي جهلها وربما غباءها أيضا، ويرفض النظرة البلهاء التى يراها في عينيها عندما تزول سكرة الرغبة، لكن يكفيه اكتشاف عالم الأنوثة علي يديها، هذا العالم الساحر الذي كثيراً ما قرأ عنه ولكنه لم يخض تجربة واحدة فيه. وسوف تأخذه زينة إلي هذا العالم ليتنسم رقته ويرتوى بلذته.. شقشق قلبه بهذا الإحساس الممتع، وتوالت اللقاءات وازدادت المتعة.

في يوم لم تأتِ زينة كعادتها في المساء، سمع حسن “زغاريد” من بيت الحاج “فوزى” فسأل والدته عن الخبر، فقالت له: فرح زينه، خطبها الواد العجل ده اللي اسمه عثمان.. واد طول بعرض.. طول النخلة والعقل مفيش.

ابتسم حسن في سخرية وقال: لايق عليها.

وانتهت الإجازة ولم ير حسن زينة، هم بالسفر، ولكنه فوجئ بزينة تنتظره علي المحطة وهو في طريق العودة إلي القاهرة.

 فسألها عما أتى بها إليه وهي الآن مخطوبة؟

 فقالت في بلاهة:

  • أبويا يا حسن قرأ فاتحتى مع فوزى أبو أحمد، علي ابنه اللي شبه جموستنا، وعايز يتجوزنى الشهر الجاي، وأنا مش بحبه يا حسن، أنا عايزة عمك يكلم أبويا يا حسن ويقوله إنك رايدني.
  • يا زينة أنا قلت لك كتير إني مش ممكن أتجوزك، عشان أنا عندى مستقبل لازم أجاهد عشان أوصل له.
  • خلينى معاك يا حسن في المستقبل ده.
  • ما ينفعش يا زينه.. وعثمان لايق عليكِ يا زينة وبكره تنبسطي معاه.
  • بس أنا بحبك أنت يا حسن.
  • انسينى يا زينه.
  • مش حقدر يا حسن.
  • ليه يعنى.. انتى خلاص حتتجوزى وكله حيبقي تمام.

تفاجئه زينة بقولها: 

  • الظاهر إني حامل يا حسن.. وما شفتش الدم الشهر اللي فات.
  • يا نهارك أسود.. أنا معملتش معاكِ حاجه.. كنت كل مرة بحافظ علي عذريتك.. إنتى لسه بنت بنوت.. يبقي إزاي حامل؟
  • مش عارفه.
  • أنا ماشي يا زينه ومش راجع البلد تاني.. انسيني يازينة.. انسيني.

وركب حسن القطار سريعا ولم يلتفت خلفه، وتحرك القطار، كان حسن يري القطار وهو ينهب الأرض بسرعة فيخيل إليه أن القطار يساعده علي مسح ما فعله من جريمة في حق نفسه عندما سمح لزينة بدخول حياته، يعزى نفسه لائماً: كنت أرفض دائما أن يكون لأحد عليَّ سلطان بعد والدي؟ كيف تركت نفسي لزينة تسيطر علي كياني وتحرك شهواتي هكذا؟!

أنا كنتُ صادقاً معها وقلت لها أكثر من مرة: إننى لن أتزوجها ولو بعد مائة عام. ولكنها أصرت أن تكون معي، فلماذا لم أصدها بحزم حتى لا يحدث ما حدث؟

أعترف أن شيئا ما بداخلي كان يريدها، يميل إليها، وبعد كل لقاء كانت نفسي تصب علي رأسي مئات اللعنات وأشكال وألوان شتى من التأنيب والتعذيب.

اليوم لا أعرف مَنْ الجاني؟ أنا لا أحب أن أري نفسي بهذه الحقارة والنذالة، فماذا أنا بفاعل الآن؟؟ أأدفن حياتي مع زوجة جاهلة، بها من الغباء ما يكفى تغطية جيل بأسره ليكون غبيا مثلها؟ واحتقر نفسي باحتقاري لها؟!! أم أنجو بحالي وأصنع حياة جديدة نظيفة تروق لي وتسعدني؟!! 

أنا أعلم أن زينه ستعيش حياة عادية ككل أمثالها لو لم أتزوجها، لكن أنا سأعيش محطما معها..!.. ستنقلب حياتى وحياتها جحيما إذا اقترنت بها.. ولكن..

سكت صوت التأنيب في رأسه عندما سمع صوت بائع المياه الغازية ينادي بصوت أجش “ارتوى يا عطشان.. حاجه ساقعة يا بيه”..

فأخذ منه واحدة ليطفئ لهيب عقله الذي كاد يحترق من التفكير والتأنيب.

وانقطع حسن عن قريته بحجة أن الامتحانات علي الأبواب، حتى علم أن زينة الآن أصبحت زوجة لعثمان.

وبدأ الحمل يظهر علي زينة، وفرح عثمان بفحولته وراح يتفاخر بأنه أصابها من أول لحظة، انتظر تشريف ولي العهد الذي جاء بعد سبعة أشهر، لم يشك لحظة في زينة، فهو رأي بنفسه إنها بنت بنوت، إذن.. لم يمسسها بشر!!

هي وحدها التى تعلم أن وليدها ابن تسعة، وإنه ابن حسن، وأسمته “سعيد” لأنها كانت سعيدة به أيما سعادة، كانت كلما شعرت بالحنين إلي حسن تضم وليدها وتشتم فيه رائحة والده، تعايشت مع وضعها الجديد ورفْض حسن لها.

انغمس حسن في الدراسة، وصقل موهبته في الكتابة ونسي أمر زينة.

اعتقد أنها نسيته هي الأخرى مستمتعة بحياتها الجديدة.

أوشك العام الأخير من الجامعة علي الانقضاء.

تعرَّف من خلال الجامعة علي الكثير من الأدباء والشعراء الذين كونوا رابطة الأدباء.. كان لهم منتدى يجتمعون فيه كل أسبوع.. يتحاورون ويناقشون الإبداعات ويدلي كل منهم بدلوه ويشارك بإبداعه، حتى ارتبط بالقاهرة وكل من فيها.

كان سامي يشاركه الأمسيات الأدبية وارتياد نوادي الأدب برغم أنه لم يكتب قصيدة أو قصة واحدة أو حتى خاطرة، لكنه كان متذوقًا للأدب، يحب هذا الجو المشحون بالمشاعر ويحب صديقه الشاعر.

وهناك التقي حسن بـ “آيات ” – فينوس القاهرة– كما كانوا يطلقون عليها، سمعها وهي تشدو بأشعارها المنظومة بحرفية، كانت تأخذ بألباب سامعيها، يسمعها الكل بجامع جوارحه، ويبدى الجميع إعجابه وانبهاره بها.

سرت في بدنه قشعريرة عندما أشار قلبه وعقله معًا إليها، وكأن كلماتها كانت تنقر رأسه وتقول له :” أنا هنا”.

هي حقا جديرة بلقب ” فينوس القاهرة” بقوامها الممشوق بلا نقص أو زيادة، وجهها الأبيض الذي يبدو كالبدر في تمامه، صوتها كأنه جاء من الجنة، شعرها الفاحم يبرز ملامحها الدقيقة، قدها المنحوت متوسط الطول، رموشها الطويلة التى ترفرف وهي تتحدث، يرتسم العمق في عينيها الواسعتين، يشعر بالغرق من يُحدق فيهما، إذا ابتسمت أخذت بتلابيب القلب والعقل معاً، كل ما فيها ينطق بالجمال، فلماذا لا تكون “فينوس” بل أجمل..؟

مرت عليه مويجه من ذكري زينة، بجسدها السمين وطولها الفارع الذي يقارب طوله، ووجهها الجميل الذي يطفح بالغباء، جمال يطمسه الغباء والجهل.

حاول مسح تفاصيل كثيرة من تفاصيل أيامه مع زينة، فطرد هواجسه بسرعة حتى لا تُفسد عليه ما هو فيه من أحلام، فرك عينيه ليصدق أنه رأى الفتاة التى فاقت أحلامه. ظل يرقب كل تحركاتها وهي تُلقي الشِعر، تنفعل مع الكلمات، شعر بأن إلقائها قد تضافر مع دقات قلبه لتجعل عصافير قلبه تغنى غناءً متواصلا لا ينقطع.

لأول مرة يشعر حسن بشئ غريب يعتمل في قلبه، بل في جسده كله.

قاربت الشمس الزوال وانتهت الأمسية وتفرَّق الجمع، انفرد بنفسه المشبعة بأحاسيس جديدة كان يحلُم بها، سار مع نفسه وقلبه المحمل بالمشاعر التى أسكرته، يستنشق هواء النيل العليل، يخلو تفكيره من كل شئ عدا فينوس أحلامه، سار كثيراً حتى شعر بالتعب، فرجع إلي مسكنه، خلع حذاءه الذي كان يخنق أصابع قدميه المتورمتين من السير، وبعد تناوله الساندويتشات التى ابتاعها وهو في طريق العودة، ارتمى علي سريره يناشده النوم، لكن عيونه خاصمت النوم، ظل يتعارك مع وسادته محاولا النوم، لكن عبثا أن يأتيه! نهض جالسا، يحك رأسه في حيرة، يتساءل: أيكون هذا هو الحب؟؟ ويرد علي نفسه:

أعرف أن الحب هو كل هذه الأحاسيس المبهمة التى تزلزل كياني الممسوس بمس الحب.. أعرف الحب الذي يسمو بصاحبه ويرفعه من طين الخطيئة إلي سماء الطهر والنقاء.. أعرف الحب الذي يجعل كل ما يحيطك أكثر روعة مما هو عليه في الحقيقة.. فيجعلك تسمع أغاريد الطيور وتشم عطر الورود وتنتبه إلي جميل ما حولك، بعدما كنت تمر به دون إحساس.. فالحب هو الإحساس.. هو ذلك السحر الأثيري الذي يحيط بقلوبنا فيزرع لها أجنحة ترفرف في أجواء خيالية ناطقة بالجمال.

تصرخ رغبته في الكتابة وتعربد في جسده الفائر حتى نهض وأحضر أوراقه ليهزم الأرق ويفرغ شحنة مشاعره عليها، كانت الكلمات تنساب من قلمه كالماء العذب.

كتب حسن أجمل قصائده في هذه الليلة، سكب مشاعره الصادقة لأول مره بصدق. يبتسم حسن وهو يعيد قراءة قصيدته وبعد الانتهاء منها، راقت له وقال في نفسه: يقولون أن أجمل الشِعر أكذبه وأنا أقول : “أجمل الشِعر أصدقه.. لأنه يُكتب بمداد الصدق والإحساس.. وأنا اليوم أكتبها بمداد الحب والوجد.

وجاء يوم نتيجة الليسانس.. فهو الأول كعادته.. 

عاد حسن إلي بلدته يزف خبر نجاحه بالحقوق.. وإنه سيصبح ” وكيل نيابة ” قريبا.

دخل إلي حجرة والدته متهلل الأسارير.. فوجدها في حالة يرثى لها…

فالشيخ “مأمون” يختلف عن والد حسن تماما، فقد كان جاف الطباع، قوى الشكيمة، يتعامل من أول ليلة مع روحية أم حسن بفظاظة وتجاهل، ظنا منه أن هذا التصرف سوف يسعد تفيده زوجته الأولي.. وإنه لن يحابي واحدة علي حساب الأخرى.. فكان بكاء روحية الدائم يؤلم حسن ويجعله يسابق الزمن حتى ينتشل والدته من هذا الهم والحزن.. فروحية لم تعتد هذه المعاملة.. فوالده “محمود” رحمة الله عليه كان هينا لينا باسماً يتعامل بنعومة، كان محبا يؤثرهم علي نفسه ولو كانت به خصاصة.

كيف يعود اليوم إلي قريته محملا بالأحلام والآمال فيجد والدته وقد انتفخت جفونها وتضخم أنفها وتلون بلون أحمر قاني، وتشققت شفتيها من النحيب، سألها مذعوراً عن سبب بكائها، فاشتكت له أن عمه ضربها ضربا مبرحا، وسب اليوم الذى تزوجها فيه، لأنها رأته يغازل بنت محمد حسونه المطلقة وهي تبادله النظرات الماجنه، وبمجرد أن ذكرته بصلاته وتقوى الله هاج وماج وقال لي:

  • مبقاش إلا انتى اللي هتقولى لي الصح والغلط، حتعملي نفسك مفتى يا جاهلة!

فارت دماء حسن في رأسه وقفز يتأبط شرا لينكل بعمه، لكن أمسكته روحية متوسلة إليه أن يتغاضى عما حدث ويتظاهر بأنه لا يعرف أي شئ مما حدث، فقالت له أن عمه دائما يجلس في “الفراندة” يُبحلق في النساء في رواحهن وغدوهن، وليس جديداً عليه مغازلة أيٍ منهن، وهى صابرة علي حماقاته وتنتظر إنهاء دراسته ليأخذ حقه في الميراث من عمه ويأخذها معه إلي القاهرة بعد أن تحصل علي وثيقة عتقها من هذا الظالم، ويكون حسن قد اشتد عوده للمواجهة.

هدأ حسن قليلا ولكنه أضمر كُرهاً كبيراً لهذه القرية ومَنْ فيها.

عزم علي أن يزف للجميع خبر تخرجه، وما هي إلا شهور قليلة ويطالب عمه بميراثه من والده ويبدأ حياة جديدة، بدون عمه، بدون زينة، بدون القرية التى بات يمقتها شديد المقت.

عاد حسن للقاهرة ليبحث عن شقة صغيرة ينتقل فيها بوالدته ويرحمها من جحيم عمه.

وفي هذا اليوم حضر حسن الأمسية الأسبوعية، فلاحظه الجميع واجما حزينا.

 حكى لهم أنه يريد شقة في القاهرة لينتقل هو ووالدته فيها ويستقر في القاهرة.

أسعد “آيات” هذا الخبر فقالت له علي الفور:

  • عندنا في بيت والدي شقة للإيجار.. فأهلا بك.

كانت سعادة حسن طاغية.. فقال لها:

  • ومتى أذهب إلي والدك لنتفق علي الإيجار.. وبعدها أدبر أمري للنقل.
  • بعد الندوة إن أحببت، وللتأكيد سأتصل به لأخبره بحضورك.

هناك رأى والد آيات، رجل متوسط الطول.. ترتسم علي وجهه علامات الطيبة الممزوجة بالعظمة واحترام الذات والرجولة، خرجت والدتها مرحبة بالضيف.. بطرحتها البيضاء وسماحة وجهها، وصوتها الملائكي الذي ورثته عنها آيات.

عرف حينها كيف صارت آيات بهذه الصفات العالية، فالبيت الأصيل لا ينجب إلا الأصالة.

قدمت آيات والدها لحسن قائلة في مرح: بوبوس.. بابا حبيبي دكتور فؤاد العمروسي، وممش، ماما حبيبتى الأستاذة ماجدة، أستاذة بكلية الاقتصاد المنزلي، وأجدع مديرة للبيت ولنا جميعا.

واستدارت في خفة وأشارت إلي حسن.. وده حسن اللي حكيت لكم عليه.. الشاعر الموهوب اللي خطف قلوب الجميع بكلماته التى تشبه سلاسل الذهب وإلقائه العذب.

اتفق حسن مع الدكتور فؤاد العمروسي علي الإيجار، رأى الشقة فوجدها غاية في جمال التشطيب.. والذوق الراقي.

عاد حسن إلي بلدته في حالة لا يستطيع تفسيرها، أمشاج من الفرح بقربه من محبوبته، والضجر من عمه الذي لابد من مفاتحته اليوم في أمر الميراث!!

نصحته والدته أن يتأنى في طلب الميراث، ويطلب منه الآن مبلغا يكفيه للانتقال إلي القاهرة وتأسيس شقة، ثم يأتى الله بالفرج في الخطوة القادمة.

سمعت زينة بأن حسن انتهى من دراسته وتذكرت إنه قال لها ذات يوم: حين انتهى من دراستي سأغادر هذه البلدة إلي الأبد، فتسللت في المساء كعادتها متسحبة لتفاجئ حسن في خلوته.. انتفض حسن ونهض في عنف كمن لدغته حية.. وسألها عن جرأتها هذه، حاول تركها والهروب منها، لكنها أمسكت بقميصه لتستبقيه. 

لم يستنشق هذه المرة رائحة الأنوثة الذي جذبته من قبل إليها، ولكنه أشتم رائحة جثة نتنة زكمت أنفه وأغلقت كل خلاياه، فأشاح بوجهه عنها لتغرب عنه، لكنها قالت له في صوت خفيض فيه ميوعة: 

  • يا حسن.. عايز تنسى أم أبنك؟
  • أنا متجوزتش عشان يبقي عندى ابن.. وياريت ما تحاوليش تيجي هنا تاني.
  • لازم تشوف سعيد ابنك يا حسن، صحيح هو مش باسمك، لكن شبهك الخالق الناطق.

هبَ حسن قائلا:

  • إمشى بدل الفضايح يا زينة، أنا خلاص ارتبطت في القاهرة ونسيت كل شئ.. وكلها كام يوم وارحل عن هنا خالص.

بكت زينة، ربما رق لحالها، فإذا بعمه يقف أمامهما ويسأل زينة عن سبب وقوفها وعن دموعها.

فاستقامت زينة في وقفتها وقالت في ثبات:

  • أنا جيت اشتكي للأستاذ حسن من حاجة مكدراني وقلت أخد رأيه عشان هو متعلم ومتنور.

نظر عمه في وجهه ووجهها ليؤكد لنفسه كذبها.. ثم قال لها:

  • إياك يابت يا زينة تقربي ناحية الجنينة دى تاني، ولو شفتك تانى حـقتلك. أو أخلي جوزك يقتلك، زأر بصوت مخيف في وجهها.. ففرت هاربة.

وقف ينظر في عين حسن طويلا، وحسن ينظر إليه بعين جامدة ثابتة، ثم انصرف دون كلمة.

لم ينم حسن هذه الليلة فصورة آيات لا تبارحه، هو يشعر بأنه دوما يفقد اتزانه في مجالها وكأنها مغناطيس جاذب يشده نحوها دون إرادة منه.

في الصباح جلس حسن إلي جوار عمه وأخبره بأنه يريد تأسيس شقة بالقاهرة ليبدأ هناك حياته.

فأمسك عمه بيده بقوة حتى كاد أن يعتصرها.. وقال له:

  • ميراثك أرض.. نحن لا نبيع أرضنا.. 
  • ولكن يا عمي أنا لا أطالبك بالميراث الآن، أنا أطلب مساعدتك لي في نقل حياتي إلي القاهرة، فحياتي هناك وليست هنا.
  • ما تطلبه يا حسن سيتكلف أموالاً كثيرة.
  • اخصم ما ستعطيه لي من ميراثي.

قهقه عمه وقال له: إذن أنت تطلب ميراثك!!

فقال حسن وهو يكظم غيظه: 

  • يا عم، أريد حقي.. أنا لا استجدى منك.. أنا أطالب بحقي فقط.
  • لا حق لك عندى، فأنا كبرتك وأويت أمك وعلمتك حتى أصبحت رجلا تقف أمامي تناطحنى وتقول لي: حقك.
  • نعم حقي.

احتدم النقاش وصار صداما عنيفا، فتدخلت روحية وحاولت فض النزاع ولكن الشيخ مأمون قد صار مرجلا لا تنطفئ ناره، وفي ثورته ألقى يمين الطلاق علي روحية وطردها وولدها خارج البيت.

جمعت روحية أغراضها وخرجت مع ولدها تطمئنه بأن كل شئ سيكون علي ما يرام.

كان حسن يستغرب هدوء روحية وعدم انهيارها أمام ما حدث، وكيف ستكون حياتهما بعد ذلك؟!

اتجه حسن ووالدته إلي محطة القطار وهو لا يعرف إلي أين المصير.

جلس حسن قبالة أمه في القطار، وجدها تربت علي ركبته وتقول:

حسن: والدك كان يعلم بفظاظة أخيه وقسوة قلبه وإنه سيماطلنا في الميراث، لذلك فقد أودع بأسمى وديعة بكل ما يمتلك من مال سائل، نتاج تجارته التى لا يعلم عنها عمك أي شئ، فلا تحزن يا ولدى، سنقضي ليلتنا في أي فندق ونصبح لنتوجه إلي البنك لاستلام وديعتنا ونحيا سويا بحرية، إن الله مع الصابرين، وقد صبرنا علي ظلم عمك، اليوم أنت رَجُلي الذي يمكنني الاعتماد عليه، سنعيش سويا في هدوء.

كانت المفاجأة مبهرة، ولكنه قال لها: والميراث؟

قالت له : ستأخذه بعد تدبير أمورنا، الميراث موجود وسنحصل عليه بالمحاكم وأنت أدرى منى بذلك.

وصارت الأمور كما خطط لها حسن ووالدته.

فقد استأجر الشقة من الدكتور فؤاد والد آيات، فما كان عليه إلا أن يبتاع الأثاث، سرعان ما أشتراه واستقر هو ووالدته في الشقة التى يسكن فوقها الدكتور فؤاد وأولاده.

يبدأ ضوء النهار في الخفوت يتحسس المساء خطواته الأولى بأمسية شعرية تنساب فيها الأفكار كحلقات سلسلة مضفرة في تناغم وانسيابية.

في ميعاد المنتدى حضر حسن وقد أعد قصيدة الغزل التى كتبها في ليلته المؤرقة. وبالفعل، تصدَّر المنصة وبدأ يوجه نظرات حذرة إلي “آيات”، لكنه خشي أن يتلجلج في الإلقاء فاستجمع شتاته ثم جال بعينيه في وجوه الحاضرين، وبدأ في إلقاء قصيدته، كان إلقاءه يخطف العقول بهدوئه الناعم ونبرات صوته المتناغمة التى يتلاعب بها ارتفاعا وهبوطا، نزل من المنصة وبدأ يتجول بين الجالسين، يميل بصوته يميناً ويساراً وكأنه يريد أن يخص كل فرد بشئ من قوله، ليصرف الأذهان عن مقصده.

وبعد أن انتهى، علق الأستاذ حبيب نوار علي إلقاء حسن بقوله: أرحب بالشاعر الواعد حسن، فقد أحسن الإلقاء بالفعل، تخاله يقبض علي الحروف المنفلتة والهاربة بجمالها من بين أيدي شعراء العالم، فتنصاع بين يديه صاغرة، يغزلها كقصائد يصدح بها بإلقاء عجائبي ينفذ إلي النفوس، هذا إلي جانب رونق اللفظ وروعة المعنى.

وصار الجميع يمدح أسلوبه وإحساسه في الكتابة، وهنأه الجميع علي تألقه.

بعد انتهاء الأمسية فوجئ بآيات تمد كفها لتهنئه بقصيدته العصماء، فصافح كفه كفها الصغير، لامس أصابها الدقيقة الرقيقة، شعر كأن سحرا سرى بجسده.

يومها شعر حسن بنجاح أكبر من كل ما حققه في سنواته الدراسية قاطبة،عاد إلي بيته مخموراً بما حققه من نجاح وتوفيق وسعادة.

في صباح يوم جديد، خرج إلي الشرفة ليستنشق عطر الحرية والتفاؤل، تمطع فارداً ذراعيه كأنه يريد أن يحتضن العالم، جلس علي كرسي خيزران موضوع أمامه منضدة صغيرة مستديرة، ترك عليها أوراقاً بيضاء وقلماً، وما إن بدأ في الكتابة حتى وجد وردة يمسكها مشبك غسيل بلاستيكي صغير ملون يقع علي الطاولة.. فأمسك بها ونظر إلي الدور العلوى ليجد آيات تبتسم وتلقي عليه تحية الصباح.

ابتسم لها وشكرها، جلس ليتنفس رائحة وردتها المحبوبة، تذكر زينات حينما قذفته بطوبة، فاتسعت ابتسامته ثم ضرب رأسه بكفة قائلا: متى تشطب هذه الذكرى أيها التعس؟!

أقبلت روحية لتقبل جبين حسن كعادتها في كل صباح، فوجدت في يده الوردة والمشبك الصغير ينام علي المنضدة.. فابتسمت ولم تعلق، فقد فهمت ما يدور حولها من أول لحظة رأت فيها آيات ولغة العيون المشتركة بينها وبين حسن.

انشغلت روحية في تحضير الفطور، وجاءت به في الشرفة، وفي منتصف حديثهما قالت :

  • حسن.، خير البر عاجله يا حسن، تعالي أخطب لك آيات، بنت جميلة وأهلها ناس تشرف.
  • لما استلم شغلي يا أم حسن، والحمد لله تم إعفائي من التجنيد وجاري عقد بعض الاختبارات وبعض المقابلات وبعدها سألتحق بالنيابة العامة.

ابنك يا أم حسن من أوائل دفعته.

  • ربنا يوفقك يا ابنى، طالما انت واثق كده من قبولك، ليه ما تخطبهاش دلوقت، ولما تستلم الوظيفة يحلها ربنا!

سكت حسن ثم قال: ربنا يعمل الخير يا أمي.

توطدت العلاقة بين روحية وآيات، حتى صارت روحية تفاتح حسن يوميا في أمر زواجه.. وبعدما استلم حسن وظيفته المرموقة، تقدم لآيات، وقد حاز القبول.

في يوم الزفاف ظهرت آيات تتباهي ببستان جمالها الباذخ، تتبختر في ثوبها الأبيض الملائكي، استقبلها حسن استقبال الملكات.. فهي الملكة المتربعة علي عرش قلبه، وهي الإنسانة الوحيدة التى حولت شخصيته من إنسان كئيب بائس إلي شخص محب للحياة مقبل عليها.

كان سامي إلي جوار صديق العمر يملأ الدنيا هرجاً ومرجاً ويُقبل حسن ويرقص معه، ويدعو الله أن يلحقه بزمرة المتزوجين.

يتخلى الليل عن سواده فتهاجمه أشعة الشمس الذهبية وتُشيع الضوء حول العروسين حتى تخترق مسامات جسديهما، بعد ليلة من أجمل ليالي العمر،.

 بدأت بينهما الحياة كأجمل ما تكون، رسما سويا خريطة الحب كيفما تصوراها، وكتبا تاريخ النبض بحرفية، وجسدا مشاعرهما كأسطورة بديعة لتتناقلها الأجيال.

وبعد مرور ستة أشهر من الزواج، كانت روحية ترى فيها سعادة ولدها فتحمد الله ليل نهار أن اليتيم قد عوضه الله بزوجة من حوريات الجنة.

كأنها أطمئنت عليه فراحت في ثبات عميق، دخل حسن كعادته ليطبع قبلته علي جبينها يسألها الدعاء، ويسمع أجمل سيمفونيات قلبها وهو يلهج بالدعاء، وجدها في نومٍ عميق، حاول إيقاظها فلم تستيقظ، فقد أسلمت الروح إلي بارئها، كانت صدمته عنيفة.. فقد خسر مصدر النور والبركة التى كانت تكلل حياته.. وخيم الحزن علي قلبه.. فكان صديقه سامي إلي جواره يخفف عنه ويشاركه أحزانه، فقد كان يحب روحية كأمه لهدوئها النفسي والسكينة التى تسكن روحها، وسماحتها وطيب نفسها، فكثيراً ما كان يدخل عليها ويسألها عن طعامها الطيب، كأنه يطلب من أمه الحقيقية.. فتأتى له بما لذ وطاب وتجمع له ما تبقي في علبة أنيقة ليأخذها معه، كثيراً ما كان يشعر تجاهها بأمومة وحنان لم يذوقه مع والدته التى كانت دائما مشغولة بتوفير أساسيات الحياة له ولأخوته، فالقفر يطغى علي مشاعرها ويجعلها في حالة عصبية دائمة، تقذف الحياة بكلماتها الشاتمة الناقمة، تصرخ في وجوههم طوال الوقت، حتى نسيت حنان الأم ورقة الأنثى.

التف جميع الأصدقاء حول حسن وحاولوا التخفيف عنه، كانت آيات أكثر تعويضا له عن فقد والدته، ومرت الأيام وعادت الأمور إلي مجاريها، التفت حسن إلي إنهما لم ينجبا رغم مرور ثلاثة أعوام علي زواجهما، كانت آيات تريد مفاتحته في هذا الموضوع لكنها انتظرت أن يفاتحها هو.

 دار بينهما حديث ناعم في هذا الموضوع، ثم اتفقا علي الذهاب إلي الطبيب ليعرفا سبب التأخير.

يجلس حسن مع صديقه سامي بنادى المحامين، وحكى له مشكلته مع عمه، التى أجلها كثيراً من أجل والدته التى كانت دائما تخشى المواجهة وتخاف عليه من بطش عمه، قفز سامي وانتفض كعادته وهب واقفا كطفل يريد استعراض قدراته.. وقال لحسن:

  • دعه لي فأنا كفيل به، سأنتزع منه حقك فلا تقلق.
  • لكنى لا أريد حضور أي منازعات، ولا أحب أن أقف في وجه عمى برغم كل ما فعله بنا.
  • ما عليك يا صديقي إلا توقيع هذا التوكيل وسوف أعود لك بأرضك وميراثك كاملاً دون أن تظهر في الصورة.

سُر حسن أيما سرور، فهو يثق أن سامي بارع، وأنه سيسترد حقه علي يديه، فسامي له هيبة بطوله الفارع الذي يشبه حرف الألف وهو يشير بحزم إلي أنه الأول بين حروف الهجاء.. وله حجة في إقناع الآخرين، والآن يتمتع سامي بصيت مسموع.. واسمه الذي بدأ يرن كالطبل في معظم المدينة. 

 خاضت آيات مراحل العلاج المريرة من فحوصات للدم واختبارات، والمرور علي الأطباء، لم تجد النتيجة المرجوة في النهاية، ففي كل مرة تظهر نتيجة التحاليل بالسلب فتسكن آيات كالذبيحة عند وضعها علي المقصلة، وتذوب في أحزانها فوق آلام معدتها التى خربها العلاج الطويل، وتعيد الكرة علي أمل أن تجد النتيجة إيجابية ذات مرة.

نصحهما الطبيب بعمل حقن مجهري لتختصر الطريق، وبالفعل قامت بالعملية، وأكرمهما الله.. حملت آيات، كانت هى وزوجها في غاية السعادة، فسوف يُكَلَل حبهما بطفل يحمل اسميهما ويملأ حياتهما بهجة وسعادة.

وقد أشارت الشاشات إلي وجود طفلين ذكور، طفقا يحلمان بتكوين أسرة وحياة خاصة بهما، يرى أحد أطفاله يتعلق برقبته ويطالبه بقطع الحلوى التى يخبؤها، والثاني يقفز ليخبئ اللعبة التى اشتراها له اليوم حتى يلعب بها وحده، وآيات تصرخ من ملاحقتها لهما.

وتحلم آيات باحتضان طفليها وتحضير الطعام لهما والملابس الجميلة التى سيرتديها كل منهما، تسمع ضحكات كل منهما وتلعب معهما.

مرت شهور الحمل وهما يستعدان لاستقبال ولديهما، فراحا يشتريان الملابس لهما. والأسِرِّة المتأرجحة وبعض الألعاب البسيطة التى تناسبهما.

كانت آيات سعيدة رغم الآلام الشديدة التى تشعر بها، وها هي الشهور التسع قاربت علي الانتهاء، في ليلة قامت آيات علي ألم مبرح، صرخت صرخات أيقظت حسن، أخذها إلي مستشفي الولادة ظنا منه إنه المخاض، لكنه بعض دقائق معدودة وجد هناك حالة من الفوضى بين الممرضات اللاتي تخرجن وتدخلن إلي حجرة الولادة، مما أفزعه وجعله يسأل عن حالتها بلهفة! فلم يجد إجابة عند إحداهن، بعد قليل هدأ كل شئ وتجمد الزمان وخرج الطبيب ليقول له:

  • أرجو أن تتماسك يا حسن باشا.
  • خير يا دكتور، أنا ميهمنيش الأطفال، يهمنى صحة آيات أولا.

فطأطأ الدكتور رأسه وقال لحسن:

  • لابد أن تفهم أننا فعلنا ما باستطاعتنا لنحافظ علي الأم ولكن للأسف حدث خلل كبير في وظائف بطانة الرحم، فأدي إلى انقباض الأوعية الدموية بشكل عام، مما سبب قصوراً في وظائف أعضاء الجسم والدمK فانهارت جميع الأجهزة في لحظات وحدث هبوط مفاجئ في الدورة الدموية ولم نستطع إنقاذها، البقاء لله. 

وقف حسن مبهوتاً مأخوذا مما سمعه، لا يصدق أن يفقد حب عمره في لحظة، أن يفقد أمله وحياته في كلمات خرجت من فم الطبيب، شعر بتهشم قلبه وصوت انهيار أضلاعه، حاول إطلاق صرخة تدوى في أرجاء العالم ليعلم الجميع مدى آلامه، لكن غصته كتمت الصرخة في جوفه، مضى يودع قلبه الذى مات في صدره وتم دفنه مع آيات في موكب جنائزي كبير. 
وبموت آيات عانى حسن من الفراغ العميق الذي حَفَرَهُ الحزن في قلبه، بدأ يكتب عن مشاعر الفقد والحزن التى اعتلت حياته من بعدها|، فعاد كئيبا وحيداً كما كان قبل زواجه بها.

ولولا سامي للَحِقَ حسن بزوجته حزنا وكمدا، فقد كان سامي يزوره يوميا، غير الأيام التى كان يلازمه فيها ليل نهار، رافقه الدموع حينما كان يفتح باب ذكرياته مع آيات، حين يقول عنها: إنها الإنسانة التى علمتي الحب الحقيقي وفن لغة العيون لأنها كانت تعلم أننى أحب الصمت ويكفيها نظرة لتقرأ ما جال بخاطري ولم يَقُله لساني، وصوتها الذي كان يملأ أذنيّ حبا وفرحا.

كل يوم كان حسن يزيد ويعيد في سيرة آيات ولا يمل منها، ويئن صدره كلما نطق باسمها، لكن سامي نصحه بالاندماج في العمل والذهاب لحضور الأمسيات الأدبية فهذا هو أقوى مزيل للحزن.

في الأيام التى ينشغل فيها سامي عنه كان يخرج إلي الشرفة ليتنسم عطر آيات.. لكن رائحة الموت كانت تطغى علي نسائم الليل التى تخاطب وجهه بوداعة ورقة.. رأى السماء سوداء بلا نجوم تشاركه أوقاته وتؤنس وحدته، وكأنها في حداد علي الأحبة.

أين آيات وهي تهل عليه بطلتها الآسرة، تحمل صينية الشاي وقطع الحلوى التى تصنعها بيدها وتجلس قبالته بابتسامتها المضيئة وسحر حديثها؟ أين عطرها الذي يسكره حين تمر أمامه؟ كل شئ خفت من حوله ولم تعد آيات إلا طيفا يمر بخياله، يتمنى لو يستطيع لمسه احتضانه.

مازالت ملابس آيات معلقة في دولابها تنتظر عودتها، وأحذيتها تشكو الفراغ، وعطورها تحبس رائحتها حزنا عليها.

يلمس حسن كل الأشياء الخاصة بها لعله يجد فيها العزاء، لكن كل ما يخصها يُشعل في قلبه الوحشة والحنين والسهاد.

عاش حسن حياة رتيبة لا نبض فيها، لا تحمل إلا السكون ووريقات يخط عليها مشاعره، وتقويم ينزع منه ورقة يوميا بلا اكتراث، فهي لا تعنى له شيئا، فالأيام مكررة والوقت يمر في بطء مميت.، رائحة الموت تتراقص من حوله، ومن أحبهم قلبه صاروا مجرد صور باردة الملمس معلقة علي الحائط.

يزور قبرها مع طلوع شمس أول كل شهر في ذكرى يوم وفاتها، يقف علي القبر يتخيلها تقوم من رقادها لتقول له إن ما حدث كان مجرد تمثيلية هزلية، أو مزحة ثقيلة أرادت بها أن تختبر مكانتها عنده.

ثم يستيقظ من خيالاته المستحيلة علي قبرها ويقرأ اسمها عشرات المرات كأنه يستطعمه في فمه، فيضع باقة الورد التى يحملها إليها في كل زيارة.. تسقط دموعه علي الوردات كقطرات الندى.. فيربت علي القبر وينصرف.

لم يرتبط حسن في الحياة بعد آيات سوى بذلك المنتدى الذي ولد علي يديه منذ كان شابا حالما.. وعكف علي الكتابة والقراءة، وإلي جانبه سامي، يتشاور معه فيما يكتبه ويناوشه ويستعرض ذائقته الفنية والأدبية بأسلوبه الساخر الفنتازي.

أهدت الأمسيات الأدبية لسامي – صديق حسن- أجمل هدايا عمره.. فقد صادف الفتاة التى كان يحلم بها هناك، صادف “منار عادل” التى شعر بامتزاج روحه بروحها، فجمالها الهادئ له سطوة آسرة، وصوتها العذب ترنيمات قدسية، هتفت دقات قلبه بمعزوفة الحب المنتظر، فامتطى جواد قلبه الجامح الذي طال أسره داخل قفصه الصدري لأسباب اقتصادية ودنيوية خاصة به.

في زيارة من زيارات سامي لصديقه حسن وهو يحمل “قطاً” أنيقا جميلا.. كهدية لحسن.. فانتفض حسن وقال له:

  • أنا لا استطيع اقتناء أي حيوان، خد قطك وارحل.
  • أنا سوف أتزوج وأتركك يا صديقي ولا بد من بديل لي يؤنس وحدتك. 

جلس سامى يحكى لحسن قصة وجده وهيامه بمنار الأديبة الجميلة، شعر حسن أن قصص الحب تتكرر أحيانا، فتمنى لسامي حظا أوفر من حظه.

ترك سامى القط يتجول في البيت ويتنقل بحرية فيه وكأنه علي عهد بهذا البيت.

اقتضب وجه حسن وقال لسامي:

  • أقبض علي هذا القط وخذه معك.
  • صدقنى يا صديقي، سوف تحبه، هو قط أصيل، نتاج سيامي هدية من سامي.

ضحك حسن وتسامر هذه الليلة مع سامى ونسي أمر القط الذي أطلقه سامي في بيته، وعندما خلا البيت عليه.. استعد لطقس ما قبل النوم، أحضر كتابا ليقرأ فيه ليصافحه النوم، وإذا بالقط يقفز إلي جانبه في الفراش مما أفزعه في البداية، فلما وجد القط يتمسح به، ربت علي ظهره حتى استأنس كل بالآخر، فأسماه “مؤنس” مع الوقت صار القط ملازما لحسن.. تآلفا وتصاحبا وكان القط يعرف اسمه جيدا حينما يناديه حسن، يتمسح به وكأنه يمنحه الحنان المفقود، فقد وجد حسن مؤنسا حقيقيا يحبه ويسليه.

كانت “منار عادل” الأديبة الجميلة الجادة تنأى بنفسها عن أي علاقات داخل الوسط الأدبي أو حتى خارجه، تتعامل بسطحية شديدة مع الجميع، رغم أن ثغرها الوردي لم تفارقه الابتسامة أبداً، لكنها عندما رأت حسن يتطلع إليها انتبهت إلي ملامحه كانت في عجب من أمرها، تسأل عما حدث!! كيف يري الإنسان شخصا في منامه أكثر من مرة ثم يراه شاخصا أمامه بالفعل.. هو بالفعل ذلك الشاب الوسيم الذي كان يزورها في منامها ويمد إليها يده عن بعد ويريد الاقتراب منها وهى تمد يدها ولكن هناك مسافة دائما تفصلهما، تتذكر تكرار هذا الحلم حتى حفظت ملامحه، رغم عدم رؤيتها له في الحقيقة وهاهو حقيقة من لحم ودم.. ترى في عينيه نظرات الرغبة في التحدث إليها.. ولكنها لا تجرؤ.. لابد وأن يبدأ هو أولا… فهي لم تعْد علي البدء حتى مع من أصبحوا صديقات لها.. وسامى برغم جرأته في التعارف علي كل الناس إلا إنه كانت يأتي أمام “منار” ويرى لجاماً وحصاراً يحول بينه وبينها.. فهو يخاف ردة فعلها.

كثيرا ما أراد تحطيم الحواجز النفسية.. ولكنه لم يجد المعول المناسب لتحطيمها.

وشاء القدر أن يقوم المنتدى الأدبي بعمل رحلة ترفيهية جماعية لرواد المنتدى.. فشارك سامي بهذه الرحلة عندما علم أن منار مشاركة هي الأخرى.. وكانت الفرصة سانحة للتقارب والتعارف.. فقد رأي في عينيها نداءات خجلى فتشجع واقترب منها وتحدث إليها في أمور كثيرة انتهت بالإفصاح عن رغبته في خطبتها، وحكت له منار عن حلمها المتكرر والشاب التى كانت تراه يصافحها عن بعد.. والشبه الكبير الذي جمعهما.

فقال لها: واليوم نستطيع أن نتصافح عن قرب.. 

ابتسمت، غمرت الفرحة قلبها عندما تصافحا بالفعل.. وعادت إلي والدتها التى كانت تصادقها، فأخبرتها بكل ما حدث، وسرعان ما تم الاتفاق علي عقد القران، وتزوجا.. وكان زفافهما زفافا مشهودًا.

تمر الحياة بسرعة خاطفة تحمل بين طياتها طُعُوم مختلفة بعضها مالح وآخر حلواً تفاجئنا بخشونتها تارة ونعومتها تارة أخرى.. نتعايش مع سكونها وضوضائها.. تأخذ من أحزاننا قطعا صغيرة فتخصبها وتلد لنا أياما تبتهج لها قلوبنا.. تستوقفنا في محطات إجبارية، ثم نعبر بتأشيرة منها، وتظل الحياة في حركة دوارة تقدم لنا أطباقا شهية وأخرى تعافها النفس، نقتسم همومنا مع أحبائنا، وكان سامي رفيق درب حسن هو أكثر مشاركة لبعضهما البعض، يصدون مصائب الحياة بيد صلبة متكاتفين كجسدٍ واحد، فقد كان سامي دائما ينتظر مؤلفات حسن بنهم لينتقده ويهاجمه بشراسة المُحب، وينتهى النقاش المحتدم بالأحضان والبسمات الشاكرة.

اليوم قفز العُمْرُ بحسن وصار في ستينيات العمر، لكنه مازال يحتفظ بقوام مشدود ووجه زاده الوقار تألقاً، وجرأة في مواجهة الحياة، وبرغم أنه صار وحيدا بعد آيات التى لم تترك له ولداً يؤنس وحدته أو بنتا تعينه علي قضاء حوائجه في هذه المرحلة من السن.. لكنه كان يشغل وقته بالكتابة التى جعلته من أعلام القلم ووضعته في مصاف المشاهير. 

لم تكن في الشهرة عوضا عن الحب الذى امتزج بالتراب وصار هباءً منبثاً ولكنه لا يجد نفسه إلا بين هؤلاء الأدباء أصحاب المشاعر الرهيفة، هم وحدهم سيقدرون مشاعره ويسمعون أناته ويشاركونه أحزانه. 

 من بين هؤلاء الأدباء سطعت الآنسة “نور” التى تقف في أوائل العقد الثاني من عمرها والتى أُغرمت بكاتبها العظيم حسن، كانت تجله وتحترمه، فكلما حاولت التقرب منه يعيدها الخجل، إلي أن ألقت قصة قصيرة في المنتدى وكان هو الناقد الأدبي الذي يناقش الأعمال الأدبية المقدمة، فأثنى علي قصتها واستوقفها بعد انتهاء الندوة وصحح لها بعض الأخطاء البسيطة بالقصة، فكانت تستمع إليه وهي تخاف أن يسمع دقات قلبها، ذهب دون أن يشعر بما تكن له من مشاعر، لكن صوتها العذب ورقتها طَبَعَا في خاطره علامة تتقافز في مخيلته من حين لآخر، فهي تذكره بآيات بكل ما فيها من رقة وجمال.

كانت نور تقرأ كتابات حسن زين في الجرائد وتقتنى كتبه فقد كانت كتابته تلهب مخيلتها.. وكثيرا ما كانت تشعر أنه يكتب ذلك من أجلها.. يكتب لها هي فقط..

كانت نور تحسد زوجته المرحومة آيات.. لمَ كتب فيها من قصائد عديدة يصل في وصفها إلي حد الملائكة.. وهذه القصائد جعلته منها أقرب.. فقصدت أن تأتيه ببعض قصائده التى تعشقها.. وتلقيها عليه بصوتها الحاني.. وكانت تتأثر بما فيها لدرجة البكاء.

وفي إحدى الليالي رأى حسن فيما يرى النائم أن رجلاً عظيم الهيبة يقف علي رأس سرير آيات وهي ملفوفة في كفنها الحريري.. يردد بعض تمائم غير مفهومة.. فقال له حسن: ماذا تفعل هنا؟

قال الرجل:

– سوف أوقظ حبيبتك من الممات.

– كيف؟ وهل يعود الأموات؟

– أنا لست ببشر.. أنا ملاك الحياة.. عاهدت نفسي أن أمنح الحياة السعيدة كل مائة عام لشخص فقد الحب.. وأراك باكيا.. وسوف أعيد حبيبتك إليك حتى أرى ابتسامتك.. وقد اخترتك من بين آلاف الحَزَانَى لأعيد إليك الابتسامة..

وبدأ الرجل في تكملة تمتماته.. فوجد حسن الجثة ترتعش.. وتهتز.. وتحاول تمزيق الكفن.. وهو يقف مشدوهاً.. مأخوذاً بما يري..

فغر فاه عن آخره.. غير مُصدق ما يحدث!!

وانتهت الجثة من تمزيق الكفن وظهر وجهها كالشمس حينما تشرق.. 

نظر حسن إليها فوجد صورتها في عينيه ترتعش بومضات لا يميزها.. فهل هي آيات حقا.. ولماذا تظهر لي نور في بعض الومضات.. يقف حسن مشتت الفكر يريد أن يحدد.. فهي مرة آيات.. ومرة نور.. 

يفشل في التحديد.. فالضوء يأخذ ببصره.. فأغمض عينيه ثم فتحها ليجد آيات بجمالها الأخاذ..

تبسم لها حسن واحتضنها.. 

 واستيقظ ومازال دفء جسد آيات بين أحضانه.. مما أثار كوامن أشجانه.

توثقت العلاقة بين التلميذة والأستاذ حتى صارت نور تصاحبه في كل رحلة أدبية سواء في محافظات مصر أو خارجها.. فكانت أكثر قربا منه وأكثر حبا وإجلالا ولكنها لم تخاطبه يوما باسمه مجردا إلا بينها وبين نفسها.. ظلت تخاطبه ب«أنتم» تفخيماً واحتراماً.. أو تناديه بأستاذي بدون اسم.. فهي ترى أنها أقل من أن تنطق اسمه الكبير.

لقد أحيتْ نور في نفسه روحاً جديدة وكأن آيات بُعثت من جديد.. فقد صار الجميع يرى ابتسامة حسن المنشرحة.. وكلماته التى تتأرجح وتمسك بأذيال السعادة.

وفي يوم سألته نور : لماذا لم تتزوج إلي الآن أستاذي وقد مر أكثر من خمسة عشر سنة علي رحيل زوجك؟

قال لها بصوت يمتلئ بالشجن: 

  • آيات معي.. لم تغادرني لحظة.. هي معي في كل شئ.. أشاورها وأسعد بصحبتها.. فالموت لا يأخذ الروح ويدفنها مع الجسد.. فجسدها يسكن التراب وروحها تسكن روحي.

تلألأت بعض قطرات الدمع في عيني نور..

أخرج حسن منديله ليمسح دمعها.. فارتجفت أصابعه.. فأبعد يده سريعا كمن لسعته جمرة من نار.. ونهض لينشغل في الكتابة ويكمل حديثه في الأدب.. ولكنها شعرت بخلجاته ورجفته.

شعر حسن بنسيم الصبا يتسلل بين حناياه عبر لقاءات نور به.. فقد تسللت إلي حواسه جميعا تسللا يشبه دبيب النمل.. فأصابت كل جوارحه.

تعصف به المشاعر الجديدة.. يحاول تجاهلها.. يعود إلي الصورة المعلقة علي الحائط.. يجد آيات تستقبله بابتسامتها الجميلة.. يخفض رأسه أمامها.. ويقول لها: لا.. ليست خيانة.. ما أنا فيه ليست خيانة.. ولكن إنسانيتي افتقدتكِ وأنت تعيشين بداخلي.. نور امتداد لحياتك أنتِ.. فطالما أستمدَ قلبي منكِ القوة والقدرة علي مواجهة الحياة.. وهي الآن تُكمل المسيرة.. ومنزلتك لن تمسها يد أخرى مهما كانت.

يرفع رأسه وينظر في عيني آيات.. ليجد ابتسامتها الرقيقة.. تقول له: لا بأس.. فأنت كثيرا ما عانيت الوحدة وألم الفراق.. وأنت بشر.. ولن أنكر عليك مشاعرك.. هي ملكك وحدك.

أسعده السفر في أحلام وشباب نور.. حتى أصبحت نور له بمثابة أول شعاع لشمس الربيع في حياته بعد أن كابد حزنا ملأ أفقه.. 

كانت الأمسيات بالنسبة لحسن أمسيات بطعم الحب.. وفي ذات أمسية وفد إلي المنتدى شاب يدعى سعيد عثمان.. فهو ذو لهجة ريفية خفيفة.. وكان إلقاؤه مميزا.. استقبله الجميع بحفاوة كبيرة.. فهو موهوب.. راقي المشاعر وسيم الطلعة.. خفيف الظل.. ترتسم علي ملامحه سمات الرزانة برغم صغر سنه.. فهو في أوائل العشرينات.. يشعر بالثقة في شخصه.. 

 كان حسن في كل مرة يراه يشعر بشعور غريب تجاهه.. يريد أن يتقرب منه ولكن شيئا ما يلسع تفكيره ويثنيه عن ذلك.. ولكن سعيد كان يشبه نور في ولهه بالأستاذ حسن.. فقد جمعتهما طاولة الأدب مع الأستاذ.. ودارت بينهما أحاديث أدبية مابين الأدب الجاد والأدب الساخر وفطاحل الأدب في مصر والعالم.. وانتهى الحديث بتقارب الشخصيات الثلاثة المتشابهة في الاهتمامات.

في يوم قالت نورا لحسن: 

  • ألا ترى أن سعيد يشبهك كثيرا.. أظن أنك كنت تشبهه في مثل عمره..!!، ابتسم حسن وقال لها: 
  • أرى ذلك.. ألم تسمعى أن الله خلق من الشبه أربعين؟

شعر حسن بشئ يعبث في صدره تجاه سعيد.. فأصر أن يقابله وحده..

وبعد التحية وإبداء إعجابه بكتاباته.. سأله عن سكنه؟

فأجاب سعيد :

  • أنا من قرية شوشاي بالمنوفية.. جئت إلي القاهرة لأكمل تعليمى بكلية الصيدلة..

انتفض حسن قليلا وتذكر أن زينة قالت أن ابنها أسمته سعيد.. فسأله عن اسمه بالكامل؟

فقال سعيد: اسمي سعيد عثمان البرماوى.

رفع حسن حاجبيه وأخذ ينظر في وجه سعيد.. يتأمل ملامحه التى جمعت بينه وبين زينه.. ودار حديث مع نفسه:

  • إذن زينة كانت صادقة.. سعيد ابنى فعلا.. كل شئ يصرخ في وجهه ويقول : ألا تراني.. ألا ترى صورتك في وجهي؟؟.. ألا ترى ملامحك مرسومة في ملامحي؟؟ حتى موهبتك تغلغلت في شراييني.. ورثت منك كل شئ عدا اسمك!!

تمنى لو أنه قام وأخذه في حضنه.. تمنى أن يقول له أنه أجمل غلطة في حياته.. لم ينلها بزواج شرعي.. يا لسخرية القدر!!

استغرب سعيد ردة فعل حسن وصمته المندهش.. فسأله: هل تعرف أحدا في بلدتي؟؟ ثم ابتسم وأردف: أم تعرفني أنا شخصيا..!!

هدأ حسن قليلا وقال له : لا لا.. لا أعرف أين تكون هذه البلدة.. أنت فقط شاب ممتاز.. تذكرني بشبابي.. والكثير ممن حولنا قالوا لي أنك تشبهني كثيرا.

قال سعيد: هذا شرف كبير أستاذنا العظيم.. اتمنى أن أشبهك في كل شئ.

فرد حسن: 

  • ما رأيك أن نصبح أصدقاء؟.. 
  • هذه أجمل أحلامي.. أن أكون صديقا لعملاق مثلك.

فاستغل حسن هذا الموقف فقال لسعيد:

  • هيا نتصافح لإبرام معاهدة الصداقة.

فقام كلاهما يتصافحان ويتعانقان.. وصار سعيد هو الشعاع الثاني الذي يضئ حياة حسن المظلمة.. خاصة بعد وفاة مؤنس الذي رافقه قرابة عشر سنوات.. وكانت فاجعة موت مؤنس جعلت حواس حسن تستعيد ذكرى رائحة الموت في كل شئ حوله.. أصبح الموت عدوه اللدود وهو السارق الوحيد الذي لا يتم القبض عليه ولا يستطيع أحد أن يشكوه للشرطة أو يعاقبه علي سرقته.

شعر حسن بأن الدنيا دانت له عندما قدمت له نور وسعيد ليكونا إلي جانبه يستأنس بهما ويعوضاه عما حرمته منه الحياة.. وبعد أن كان يشعر بأفول حياته علي أخر مشهد له وهو وحيدٌ حزين..

يمضي النهار محملا بالكثير من المكالمات الهاتفية بين الأصدقاء الثلاثة.. ويقبل المساء الذي يجمع ثلاثتهم.. يري حسن في عيون سعيد ونور صورة مختصرة من قصة حبه لآيات قبل أن يسبر أغوار كل منهما للآخر.. كان يري حبهما الكبير له وانشغالهما به.. نور تفكر في أن تهب حسن حياتها وتعوضه ما فقده من سعادة.. وسعيد يشعر بأن حسن قدوته ويريد الاستفادة من علمه.. إلي جانب المودة والحب والاحتواء التى يشعر بها كلما توطدت العلاقة بينهما..

وحسن يشعر بهما يسبحان في بحور قلبه ويمثلان له خلاصة الحياة.. 

اعترفت له نور بحبها له.. ففقد حسن حروف اللغة بكاملها أمام هذا الاعتراف وعلت الدهشة ملامحه.. وربت علي يدها في دفء أبوي وقال لها:

  • أحترم مشاعرك وأشعر بكل خلجاتك ونبضات قلبك وأقدرها.. ولكنى أحبك أكثر مما تتخيلين.. صحيح أن حياتي فارغة وأي إنسان مكاني سينتهز الفرصة ويسرق عمرك ليضيفه إلي عمره.. ولكنى أمنحك عمري يا أغلي من العمر.. سأمنحك مشاعر أب وهي مشاعر تغلب أي مشاعر وتتفوق عليها.. واعلمي يا غاليتي أن قلبي أحادى الغرف.. سكنته آيات حال حياتها واستقرت فيه بروحها بعد رحيل جسدها.. وأنت تحتاجين قلبا فارغا يحبك بكل خليه به.. تحتاجين الشباب لأنكِ منه أقرب.. تستحقين الجنة لتمرحي بطولها وعرضها.. لا سجن الشيخوخة والمرض.. أريد أن تترحمي عليَّ بدلا من لعني عندما تشعرين يوما بأننى ظلمتك باستجابتى.. فالخريف لا يتزاوج بالربيع وإن التقيا يكون لقاؤهما لمجرد السلام والوداع فمن الحمق أن استجيب لتهور قلبينا.. وغدا سيصافح قلبك الإنسان المناسب.. 

بكت نور برغم اقتناعها بكلام الأستاذ.. وكانت دموعها كالخناجر التى مزعت قلبه.. فحاول أن يأخذها معه في سيارته إلي بيتها.. لكنها أبدت رغبتها في أن تبقى وحدها قليلا..

فغادرها وظل طوال الطريق تطارد الأفكار خاطره.. وظل مشغولا بما قالته له نور.. فهي بالفعل آخر حب دق له قلبه.. ولكنه حب من نوع آخر غير حبه لآيات.. حب بلا غرض.. حب الروح الصغيرة التى هامت به فوضعها في دائرة الابنة التى لم ينجبها..

ولم ترحمه الأفكار حتى عاد إلى بيته مهموما بنور.. يفكر كيف يقدم لها السعادة الحقيقية.

وفي المساء جاء سعيد لزيارة حسن.. وكانت رأس حسن متخمة بفكرة أَرَّقتْ ليلته الفائتة.. وهي لماذا لا يتزوج سعيد بنور.. حتى يجمع بينهما في بوتقة محبته.. ويمنحهما سويا كل ما جادت به عليه الحياة من حب ومال ورعاية.

جهز حسن جلسة جميلة في الفراندة.. ودعا سعيد للجلوس.. وبدا التوتر في حركات يديه ونظرات عينيه وتَرَدُد الكلمات علي لسانه.. ولكنه استجمع أطراف فكرته وقال لسعيد:

  • ما رأيك في نور يا سعيد؟.. فهي بمثابة ابنتي.. وأنت كذلك ابني الذي خرجت به من هذه الدنيا.
  • نور ذكية وجميلة ورقيقة وكل الشباب يتمناها.. ولكنى لم أكن حتى الآن مستعدا ماديا للزواج.. فوالدي فلاح بسيط وكذلك والدتي.. وما يملكانه يكفيهما شر الفاقة.. وأنا تخرجت من الجامعة هذا العام.. ولو تقدمت لها سأكون مرفوضا بالطبع.
  • وإذا امتلكت المال وكنت أنا والدك المعاون الحقيقي لك.. ستكون مستعدا لها؟
  • ومن أين لي بالمال؟ وكما شرحت لك حالي.. ثم إننى لن أُعَرّض نفسي للإهانة والخزي حينما أقف أمام والدها صفر اليدين وبلا عمل أيضا.
  • يا سعيد.. العمل موجود وسوف تستلم عملك غداُ في أكبر الشركات بالقاهرة.. وبيتك هذا هو مفتاحه.. وسيارتك سوف تختارها بنفسك قبل أن تتقدم لخطبة نور.

سكت سعيد والدهشة والحيرة تتملكانه.. وعقله يقول له: 

  • هل من أحدٍ يعطى أحدا بهذا السخاء؟ ولماذا؟ وهل هناك عطاء بلا مقابل؟ وهل يوجد سر وراء هذا العطاء؟

ولج حسن في عمق دماغ سعيد وقرأ كل ما يدور في ذهنه فأراد أن يهدئ من دهشته فقال له في صوت هادئ :

  • يا سعيد.. أنت تعرف أنني وحيد في هذه الدنيا بلا ولد.. فاخترتك ولدى.. بلا ابنة فاخترت نور ابنتي.. وما أجمل أن يختار الإنسان أبناءه.. أنا اعتبر نفسي من المحظوظين بكما وباختياري لكما.

ثم تغيرت نبرة صوته الهادئة إلي نبرة صاخبة فيها مزاح محبب:

  • قل لي الآن ما رأيك في نور ابنتي؟؟ المثل يقول: اخطب لبنتك.. ها؟؟

قام سعيد واحتضن حسن.. وقال له:

لو كان لأي إنسان اختيار فيمن سيكون والده.. لكان اختياري لك علي استحياء.. فأنا أقل من أكون ابناً لقامة كبيرة مثلك.

طفرت دمعة من عين حسن وقال لسعيد:

أنت ابني يا سعيد.. ولو كان لي ولد لاخترتك أيضا.. فأنا أشعر بأنك قطعة من قلبي.. وسوف تكون قامتك في السماء دوما.

ثم أعاد حسن عليه السؤال: 

  • متى سنذهب لأخطب لك نور؟
  • حينما أذهب للبلد وأخبر والدي بما حدث وأدعوه للحضور معنا.

اضطربت أوصال حسن وتجهم وجهه ثم قال:

  • ستحضر والدك فقط دون والدتك؟
  • والدتى رحمها الله منذ سنة ونصف.. فقد أصاب معدتها المرض الخبيث ولم تجد العلاج الملائم فتوفيت رحمة الله عليها.

تنفس حسن الصعداء وقال:

  • رحمة الله عليها.

وكانت مفاجأة لنور أن يختار حسن لها زوجها.. وقال لها في مقدمة كلامه مازحا: بالأمس كنا نتحدث عن ارتباطنا.. واليوم أوافقك الرغبة..

اندهشت نور وبدت كمن غرق مستنقع أفكاره.. وظلت صامته لثوانٍ معدودة.. 

فأردف حسن قبل أن تستفيق نور من صدمتها:

سيدتى الجميلة : سأقدم لك حسن الصغير الذي يشبهني تماما ولكنه يتمتع بالشباب ويشبهك أنتِ أيضا في بعض التصرفات.. ولن أجد لابنتي أفضل منه.. ولقد فاتحته في الأمر فأبدى سعادة غامرة.. فما رأي ابنتي الجميلة؟؟

 ازدادت عيون نور اتساعا واندهاشاً.. ولكنها سرعان ما ابتسمت في خجل.. ثم استأذنته في قُبلة علي رأسه.. وكانت هذه القبلة الصك المنعقد بأبوته لها ولسعيد زوج المستقبل.

عزم حسن في قرارةِ نفسه علي عدم حضور حفل الزواج.. تحسبا أن يتعرف عليه أحد أبناء القرية..برغم تردده علي المرآة أكثر من مرة ليتأكد أن الزمان فعل به الأفاعيل..وأن شكله لم يصبح شكل حسن الذي ترك البلدة منذ عشرات من الأعوام.. وفي يوم الزفاف تمارض حسن واعتذر لأبنائه عن حضور الحفل وقد ظهر المرض في صوته كأنه حقيقة لا أحد يستطيع نكرانها.. فهو بالفعل كان يتمزق داخلياً لعدم حضوره.. حتى كاد البكاء أن يخنق حلقه.. فكان صوته متقطعاً هزيلا.. مما أزعج سعيد ونور.. فوعداه بالزيارة في أقرب وقت.. فحاول طمأنتهما.. ودعا لهما بالسعادة والهناء. 

وتم الزواج في حفل لا مثيل له.. ونما الحب بين سعيد ونور وأنجبا الأطفال التى ملأت حياة حسن بهجة وسعادة.. وكان حسن بمثابة الجد بالنسبة لهم.. 

مرت السنوات وعانى حسن من أمراض الشيخوخة الطبيعية.. وكانت نور وسعيد حوله يحيطانه بالرعاية والاهتمام حتى وافته المنية.. فسلَّمَ سنوات كفاحه كلها قبل مغادرة الدنيا لسعيد ونورا.. ثم أسلم روحه لله.

حزن سامي حزنا عميقا لفراق صديق عمره، أخرج وصية حسن التى تركها معه منذ تاريخ زواج سعيد بنور.. وسلمها لسعيد.. فقد أوصي بأن تؤول كل أملاكه لولده بالتبني سعيد عثمان البرماوي الشهير بسعيد زين.. مناصفة بينه وبين نور أحمد السعيد، والتى اشتهرت في الأوساط الأدبية هي الأخرى بنور زين.. 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.