نبيلة يحياوي
اللوحة: الفنان البولندي أندرزيج مالينوسكي
الكلمات العذبة لا تقال إلا في مساحات صغيرة؛ لكن عندما تحاصرنا الآلام من كل صوب، عندما نحتاج لبريق الأمل كي نحيا، عندما يشتد شتاء اللوعة في قلوبنا، عندما يحاصرنا الماضي التعيس، عندما يشتد المرض بأجسامنا.. الكل وقتها يفقد أناقة الكلام الذي نعشق أريج حروفه، وتتلعثم ألسنة الناس الذين يراقبون موتنا البطيء كل لحظة بعد نهاية كل خريف، هو الموسم الأبدي الذي لا يهرم، تصادفك هفواتك اللعينة، تنتظرك برداء أسود ولا خيار آخر لك سوى أن ترتدي هذا الثوب رغما عنك.
***
لقد تغير المحيط، والنهر الذي كنا نسبح فيه، تعكر. توالت الخيبات حتى أصبح العقل بلا جسد والجسد بلا روح وانفلتت منا لحظات العمر الخائبة وانزوت في مكان آخر.. لا أعلم الآن أين تلتقي النفوس وأين تلتقي الأرواح وأين تفترق.. وكيف تفترق!!، بل لماذا تلتقي لتفترق كل رفقاء الدرب غادروا إلى المجهول ولم يتركوا لثنايا القلم مدادا آخر.
***
لم أغمض مقلتيّ، كأنني في حرب، أسمع وقع أقدام طغاة فتحوا باب المدينة، ووجوه الناس كلها شاحبة تنتحب رحيل السلام.. أردت أن أنهي هذا الحلم.. أم هذا الواقع الذي يدب في أغواري وأنتهي، أنتهي كما انتهى الآخرون ورحلوا، حملوا معهم أحلام وطن لم تكتمل بعد، أو هذا الكابوس الذي أّرقني، مرة أحمل نفسي إلى الهذيان لألهو هاربة من طوفان البؤس، ومرة إلى النسيان؛ فأضغط على جرحي الذي ينزف ألف مرة عله يندمل يوما.
***
تارة بيني؛ وبين نفسي من صلب الوجع تنام الذكريات في الأفق وتونع الشمس الذهبية؛ أختم قصيدة الرحيل، أهمّ للرحيل، وأفرك عيني لأبصر الأفق، لاشيء سيميل للغروب، فقط ذاك النور الخافت، الذي يلتهم الظلام وضباب الشتاء… في موسم القر، ويراع يأبى أن يغمض جفنيه للمرة الأخيرة.. صريره بلغ ذروة الذكريات، يختلس النظر والناس في غفلة، في سبات لا توجعهم أشواك الورد.. يقطفون، يستنشقون، ينثرون، لا يتألمون في دروب الظلام في نور الظلام.. من يتجرأ أن ينام نوم الأطفال.. حدّث لتسمعك الحياة.. أنشودة المضاء.
***
مطر مدرارٌ، يأتيني، تشتهيه الأرض كما تشتهيه النّفس، كنت أشتاق للآتي الذّي يغور في التّراب، المسك المغذّي للروح، أو الحميم الذي يشقّ مسامات الأرض العطشى، أنادي الحياة القابعة هناك، وأحمل جسدي للطّبيعة الغنّاء، ومارّة بيني بمظلّات يرفضون أن تتصادم قطرات المطر بوجوهم الفاتنة، ويجهلون أنّ أقصى آيات الجمال أن ترفع بمقلتك، إلى عنان السماء، حينها تلتقي خيوط الأرض الوهّابة بخيط كونك، الّذي لا يعدو مجرّد حفنة تراب، فمنك استباحت الأكوان، وجودها، وألهمتك الوجود الأول.
***
كيف لا نفتح أعيننا عندما تأفل السنون هاربة؟ ندرك ُ تعب الماضي ونتأفف من الحاضر، ونخشى من المستقبل في وجل، قلنا يوما: إننا لن نلتفت للوراء وسنلتقط كل دمعة تسقط من مآقينا، نحصر الآلام، ونفرش الأرض زهورا، ونغتنم الربيع راقصا، ونجني عرق الأمس من جبيننا ثمارا للصبر، وقلنا: إن رقصة نغمة الربيع التي هللنا لها ورقصنا على إثرها ستخلد كنوتة الحب الأبدية، مشرقة في دروبنا كل لحظة وثانية الأيام.
الأيام تمضي بنا ونحن نبتعد مسافة الأرض عن السماء، حتى بات شعورنا يختنق بين طيات الزمن، ويغرق ويتوقف نبضه كأننا نسبح الآن في الدجى.. الأمس كان هنا.. مشرقا، نعشقه حتى الثمالة، لن نتألم.. لن نعود للوراء، هكذا تحدثنا، لازالت مجلدات الأمس لم تذبل، ستتحدث يوما، ستخترق الصمت وكل حديث يدثرنا، يكبر ويكبر.. ستعود الحقيقة من أفواهنا، بين نهر ونهر للخلود، نفوسنا أرواحنا، أجسادنا، هكذا تحدثنا يوما.