د. محمد سعيد شحاتة
اللوحة: الفنان الفلسطيني خالد شاهين
في الجزء الأول من هذه القراءة النقدية لقصيدة «أن تكون في العاصمة» للشاعر عيد صالح، توقف الناقد د. محمد سعيد شحاتة عند التشكيل البلاغي ودوره في إنتاج الدلالة في النص، وفي هذا الجزء (الثاني والأخير)، يتوقف عند الصورة الشعرية والمفاهيم المهيمنة على النص، في محاولة للإمساك بالمفاهيم الفكرية التي شكَّلت ملامح الرؤية التي دار حولها النص.
الصور البلاغية ودورها في إنتاج الدلالة
وإذا انتقلنا إلى زاوية أخرى من التحليل البلاغي ودوره في إنتاج الدلالة فإننا نتوقف هنا أمام بعض الصور الواردة في القصيدة في محاولة لاكتشاف العلاقة بينها وبين الإطار العام للرؤية التي أوضحناها من خلال التحليل في مراحله السابقة، وكذلك العلاقة بينها وبين الدلالة العامة للشخصيات الواردة في القصيدة، وهي شخصيات – كما أوضحنا سابقا – خرجت من طبيعتها الفيزيائية وأصبحت ذات طبيعة تجريدية؛ فقد تعاضدت الآليات جميعا للكشف عن الرؤية المتخفية خلف العلاقات اللغوية، والانحيازات الجمالية في القصيدة، وإذا كنا نرى أن «الشاعر الحق – كما يقول جوبير – هو الذي تمتلئ نفسه بالصور الواضحة على حين أن نفوسنا لا توجد فيها الصور إلا متفرقة وغامضة، وهو يستلهم هذه الصور أكثر مما يستلهم الأشياء ذاتها»(١) فإننا نجد القصيدة تمتلئ بالصور المحورية التي تستند عليها في الكشف عن خبايا الرؤية، التي تعدُّ أداة للإدراك الواعي، والقدرة على أن تجعل شبكة العلاقات البلاغية متشابكة ومترابطة ترابطا عميقا بحيث تصبح معادلا لشبكة العلاقات اللغوية في الكشف عن خبايا الرؤية الفكرية المتخفية وخيوطها وأنسجتها المختلفة، أما الصورة الأولى التي تواجهنا في هذه القصيدة فهي في قول النص «دع أسمالك وطوِّح بكل ما جئت به كقروي ساذج وجنوبي يشمخ بلهجته ويستدفئ بموهبته» والصورة البسيطة المباشرة المتخيَّلة أن إنسانا بالي الثياب محملا بكثير من الأفكار والرؤى والمرتكزات الفكرية والانحيازات الجمالية يهبط العاصمة، ويستقبله من ينصحه، ويعطيه بعض التوجيهات التي تساعده على التأقلم في حياة العاصمة، وقد يكون هذا الهابط إلى العاصمة قد فشل في التأقلم واستنصح أحدهم، ومن ثم فإن في الصورة عناصر محذوفة، منها ماهية السؤال، ومن توجَّه إليه السؤال، والموقف الذي قيل فيه السؤال، ولكن الصورة تضعنا مباشرة في بؤرة النصيحة، وكأنه ليس من المهم من سأل ومن أجاب ولا الموقف الذي طُرِح فيه السؤال؛ لأن كل من يهبط العاصمة في حاجة إلى النصيحة، وكل من يقابل الهابط إلى العاصمة ستكون هذه نصيحته، ومن ثم قلنا سابقا إن الشخوص في القصيدة خرجت من طبيعتها الفيزيائية إلى طبيعة تجريدية، وتبدأ الصورة التشبيهية بعنصر مادي من الواقع «أسمال» وعنصر معنوي «كل ما جئت به» ورغم أنه يشمل المادي والمعنوي فإنه تحوَّل إلى مادي باستخدام الفعل «طوّح» فالتطويح هو الرمي بعيدا وهو لا يكون إلا للماديات، ثم يأتي المشبه به مشتملا على عنصرين ماديين «قروي – جنوبي» ولكي تتضح ملامح الصورة، ودورها في الكشف عن الرؤية الفكرية المتخفية وراء هذه الصورة وعناصرها اللغوية لابد أن نستحضر صورة المشبه به «قروي – جنوبي» في الذاكرة الجمعية، فالثقافة في القرية تميل ميلا شديدا إلى تبسيط وتجسيد الأفكار، وتهتم بالصورة العامة لها ولحدودها الخارجية دون تفاصيلها، وكذلك يميل سكان القرى إلى التسليم بأقدارهم، ويعتبرون أنساق حياتهم قدرا ينبغي الإيمان به والتسليم له، ولا ضرورة للفرار منه، وهو على عكس اعتقاد أهل العاصمة الذين يرون أنهم يديرون حياتهم، وأنهم في تغيُّر مستمر، متنقلين بين دروب الحياة المختلفة انطلاقا من شعورهم شبه اليقيني بعدم رضاهم عن ظروفهم الراهنة، ومن ثم فإنهم يشعرون بالتحكم في أقدارهم، ولذلك فإن نظرة أهل العاصمة تحديدا إلى القروي نظرة سلبية، وهو ما اتضح في الصورة السابقة «طوِّح بكل ما جئت به كقرويٍّ ساذج» ولفظ «ساذج» يشير إلى الحياة الفطرية بروحها البدائية، وهي حياة متناقضة تماما – كما أشرنا – مع حياة العاصمة. إن الصورة هنا كشفت عن نظرة أهل العاصمة السلبية إلى القروي، ولكننا ينبغي أن نتذكر أن لفظ «قروي» مشبَّه به، بمعنى أن النص لا يتحدث عن القروي تحديدا، ولكنه يتحدث عن الهابط إلى العاصمة بصفة عامة، ويشبِّهه بالقروي الساذج، وإذا كانت نظرة العاصمة إلى القروي سلبية فإن نظرتها إلى من يهبط إليها من أي مكان ستكون بالضرورة – كما يرى النص – سلبية، ومن ثم فإن المبدع الهابط إلى العاصمة إما أن يقبل بإجراء عمليات التغيير عليه؛ ليكون من أبناء العاصمة، أو ينكفئ على ذاته، أما الجنوبي فقد وصفته الصورة بأنه «يشمخ بلهجته ويستدفئ بموهبته» وهي كناية عن الفخر والاعتزاز، ومعنى ذلك أن الناصح يطلب منه أن يتخلى عما يفتخر به ويعتز بامتلاكه؛ لأن ذلك ليس من أولويات أهل العاصمة ولا من اهتماماتهم، وفي ذلك أيضا نظرة سلبية. لقد كشفت الصورة من خلال عناصرها عن نظرة أهل العاصمة السلبية لكل من يهبطون من خارجها وما يعتزون به ويمتلكونه من رؤى جمالية، ومرتكزات فكرية، وقيم حياتية، وبذلك أصبحت الصورة عنصرا مساعدا في الكشف عن الرؤية الفكرية للنص.
الصورة الثانية التي ينبغي التوقف عندها من أجل رصد دور شبكة العلاقات البلاغية في إبراز الرؤية المتخفية، هي «واستمع لخوار العجل الذي طوَّح بالكأس كممثل فاشل في مليودراما فجة أو كمودي الذي فعل المستحيل كي “يخرج من جلباب أبيه”» وإذا كانت الصورة السابقة قد كشفت – من وجهة نظر النص – عن نظرة العاصمة إلى المبدعين من خارجها فإن هذه الصورة تكشف عن وجهة نظر النص في إبداع من تخلى عن هويته الإبداعية التي هبط بها إلى العاصمة، وجرت عليه أفاعيلها، ففي قوله «خوار العجل» استعارة حيث شبَّه صوت المبدع وهو يلقي بقصيدته بأنه خوار وشبه المبدع بالعجل، وفيه استهزاء بالمبدع وإبداعه، بعد أن كان في الصورة السابقة يشمخ بلهجته، ويستدفئ بموهبته، وفي ذلك تحوُّل في النظرة إليه، وإلى إبداعه، ثم يأتي التشبيه ليستكمل الصورة السلبية «خوار العجل الذي طوَّح بالكأس كممثل فاشل في ميلودراما فجة» وهو تشبيه يكشف عن صورة مفرطة في السلبية، ولنا أن نتخيل العجل الذي يطوِّح بالكأس، ويزيد الشاعر في حفر وتعميق سلبية الصورة فيشبه هذا العجل/المبدع بالممثل الفاشل، فرغم كونه ممثلا، أي أنه غير صادق، فإنه فاشل في تمثيله، ويضيف الشاعر عنصرا آخر مهما لتزداد سلبية المشهد، وهو لفظ الميلودراما، فالميلودراما كلها فجة، والتصريح بلفظ الميلودراما هنا ذو دلالة عميقة في تشكيل الصورة؛ فالميلودراما «هي ذلك النوع من العروض والتمثيليات من أدب المفارقات لكن بمبالغات مطلوبة لتعظيم أثر اللقطة أو المشهد وردة فعل المشاهد من الجمهور، ذاك الصنف المميز من الأداء والتفاعلات التي تزخر بالحوادث المثيرة وتتسم بالمبالغة في كل شيء واستخراج كل الملكات والقدرات التي تذهب في طريق الإقناع والتأثر، فالممثلون يبالغون في التشخيص والمعايشة للدور وقوة التعبير عن العواطف والانفعالات كما يبالغون في الحركات التمثيلية، لكي يؤثروا في المتفرجين»(*)ومن الواضح العناصر التي أراد الشاعر أن تتضمنها صورته، ولم يصرِّح بها، ولكنه أوردها من خلال إيراد لفظ ميلودراما، فالعناصر التي تشتمل عليها الميلودراما هي المبالغة في التمثيل، وبالتالي فالمشهد ليس حقيقيا ولكنه تمثيل، وهو قائم على المفارقات، وإذا كانت المفارقة – على حسب معجم تاريخ الأفكار – هي ذلك التصارع بين معنيين … المعنى الأول هو الظاهر الذي يتقدم باعتباره الحقيقة الواضحة، غير أن سياق المعنى يفاجئنا بالكشف عن معنى آخر يواجه المعنى الأول، ويتصارع معه، فيظهر المعنى الأول بذلك كأنه خطأ(*) فإن المفارقة في ذكر الميلودراما هنا تكشف عن عنصر آخر من عناصر المشهد الذي تغرسه الصورة في ذهن المتلقي، وهو التناقض، وإجهاد النفس في إقناع الجمهور، ولكن السياق يكشف الفشل في كل ذلك، فالفشل أصاب الممثل/المبدع الذي لم يستطع أن يؤدي دوره بإتقان، وبالتالي فشل في إقناع الجمهور بإبداعه وما يحمله من قيم جمالية، ورؤى فكرية، فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن هذه الميلودراما فجة أي غير مقبولة ولا متسقة مع العقل والمنطق ومنظومة الإبداع تتضح دلالة الصورة وما تعبر عنه، ومن ثم فإن الصورة «خوار العجل الذي طوَّح بالكأس كممثل فاشل في ميلودراما فجة» كشفت بوضوح عن وجهة نظر النص تجاه إبداع الهابط إلى العاصمة بعد أن جرت عليه أفاعيل العاصمة لتكشف بذلك عن جانب الرؤية الفكرية التي أرادها النص.
أما الصورة الثالثة التي نتوقف أمامها فهي «طوتك كمنديل بلَّله العرق وبصقتك تترنح آخر الليل كقصيدة مرتبكة كنغم شاذ كإردواز مكسور في كُتَّاب القرية» وهي صورة تشبيهية تتكون من أكثر من تشبيه، فالنص يشبه الهابط إلى العاصمة في نهايته المأساوية بالمنديل الذي بلَّله العرق، وبالقصيدة المرتبكة، وبالنغم الشاذ، وبالإردواز المكسور في كتَّاب القرية، وكلها عناصر موغلة في السلبية لهذه النهاية التي آل إليها هذا المبدع الذي تخلى عن موهبته والشموخ بلهجته، وتخلى عن براءته كقروي لحساب رؤى العاصمة وانحيازاتها الفكرية والجمالية، وهذه الصورة هي استكمال للفكرة الوارة في الصورة السابقة، ولكنها أكثر كشفا عن النهاية، أما الصورة السابقة فهي توصيف لحال هذا المبدع وإبداعه، وفشله في إقناع الجمهور بما يقدِّم، ومن ثم فإن الصورتين تتكاملان في الكشف عن الصورة السلبية لهذا الهابط إلى العاصمة، ونهايته المأساوية التي يكتشف أنه لم يحقق شيئا مذكورا؛ فهو لم يحتفظ بلهجته، ولا بموهبته، ولم يستطع أن يقتع الجمهور بالتجديد الذي يزعمه، ولم تحتفظ به العاصمة في نهاية المطاف، ولكنها طوته كمنديل بلّله العرق، وبصقته يترنح آخر الليل كقصيدة مرتبكة، بل أصبح كالنغم الشاذ الذي لا يطرب أحدا، ولا تألفه أذن، وبدا كأنه إردواز مكسور في كتَّاب القرية، وكلها صور مشوَّهة كاشفة بعمق عن النهاية.
ثم تأتي الصورة الرابعة والأخيرة التي نريد التوقف عندها والتي تمثل جزءا من شبكة العلاقات البلاغية المساعدة في الكشف عن الرؤية الفكرية للنص، وهي «تزدحم الأسواق بالنقاد الأوغاد وحاملي الدكتوراة مجهولة المصدر» حيث يشبِّه الساحة الثقافية في العاصمة بالسوق، وعارضو البضائع هم النقاد، وحاملو الشهادات العليا/الدكتوراة، وهم مزيَّفون ومزيِّفون، فهم من زاوية أنهم أوغاد لا يفعلون شيئا دون مقابل؛ فقد جاء في معجم تاج العروس «الأَوْغَاد: جَمْعُ وَغْدٍ وهو الدَّنِيءُ الذي يَخْدُم بِطَعَامِ بَطْنِه. وقيل: هو الذي يأْكُلُ ويَحْمِل وأَمّا الوَغْلُ باللام فهو الضعيفُ الخَامِلُ الذي لا ذِكْرَ لَه أَوْغَادٌ وُغْدَانٌ بالضمّ ّ ووِغْدَانٌ بالكَسْر يقال: هو من أَوْغَادِ القَوْمِ ووُغْدَانِهم ووِغْدانِهم أَي من أَذِلاَّئِهم وضُعَفائهم» كما جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة «وغد [ مفرد ]: ج أوغاد ووغدان ووغدان: 1 – صفة مشبهة تدل على الثبوت من وغد . 2 – أحمق دنيء رذل» ومعنى ذلك أن الدلالة اللغوية للفظ «أوغاد» تتجه إلى ثلاثة عناصر الدنيء الذي يخدم مقابل طعامه، والذليل والضعيف، والأحمق، فإذا كانت الأسواق/الساحة الثقافية في العاصمة تمتلئ بالنقاد الأوغاد، أي الذين يقدمون النقد مقابل ما يحصلون عليه من مكاسب مادية، وليس من أجل الكشف عن الإبداع الحقيقي، وارتقاء الساحة الثقافية فإن هؤلاء النقاد مزيِّفون، بمعنى أن ما يقدمونه لا قيمة له، ولا يمكن الوثوق في أحكامهم النقدية، ثم يأتي العنصر الثاني في الأسواق/الساحة الثقافية، وهم حاملوالشهادات العلمية، فهذه الشهادات مجهولة المصدر، ومن ثم فإنهم مزيَّفون ولايمكن الوثوق أيضا في أحكامهم التي يطلقونها؛ لأنهم اعتادوا على السرقات العلمية فكيف نثق فيما يقدمون ؟! إن الساحة الثقافية/الأسواق في العاصمة تمتلئ بهؤلاء المزيَّفون وأولئك المزيِّفون، ومن ثم فإن الاستناد على ما يقدمه هؤلاء وأولئك باطل، فإذا مدحوا إبداعا ما من إبداعات العاصمة فإن علينا الحذر من أحكامهم النقدية.
لقد ساهمت الصور البلاغية في الكشف عن الرؤية الفكرية التي أرادها النص، ووقفت جنبا إلى جنب مع شبكة العلاقات اللغوية في تشكيل الدلالة، والبوح برؤية النص التي تتخفى خلف تلك العلاقات متشحة بالجمال والإبداع، ولكنها تقدم رؤية فكرية في غاية العمق.
د. أحمد درويش، في النقد التحليلي للقصيدة المعاصرة، ص 129
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%88%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A7(*)
(*)Dictionary of the History of Ideas, Studies of Selected Pivotal Ideas, Volume ?, Charles Scribner s Sons, New York, (1973), p. 626
للاطلاع على الدراسة كاملة:
التشكيل البلاغي وإنتاج الدلالة في النص – قراءة في قصيدة «أن تكون في العاصمة» لعيد صالح