اللوحة: الفنان الهولندي يوهـان فيـرميـر
استغرقت وقتا طويلاً في إعدادها، هيّأت نفسي جيدًا فقد بحثت عن الوصفة، سعيت منذ فترة لشراء مكوّناتها من أجوّد الأنواع، لم أبخل بمال أو جهد.
دائما هناك لحظة تندلع الشرارة فيها، عندها يكتمل كل شيء لمّا حان الوقت، شمّرت عن ساعد الجد، مرّت عليّ ساعات كثيرة من عمل شاق فتلك تجربة أولى أخوضها، لعلّي سمعت وقرأت عن محاولات آخرين لكن تظل تجربتي لها رهبتها في النفس، كم سعدت بنجاح حققته في صنع هذه “الكعكة” فلم أقف كثيرًا أمام تكلفة أنفقتها وتضحيات بذلتها وتحذيرات سمعتها بعدم إكمال هذا الطريق، والذهاب للمقهى والاستمتاع بوقتي كالآخرين.
أخرجتها ساخنة من “فرن” الموقد، حرارة رهيبة تصاعدت فجأة لتلفح وجهي، خففّ من صهدها فرحتي الغامرة وأنا أمسك بها بين بيدي، وضعتها برفق على طاولة مجاورة، ثم أحضرت طبق صغير وسكين وشوكة، أمنّي النفس بطعام شهي مكافأة سخية بعد سنوات من شقاء، قعدت على كرسي وأثر ارهاق بدا في عيني، نظرت في مرآة جانبية فوجدت وجهًا أنكرته وسألت نفسي: كيف بلغ بيّ الشقاء هذا الحد؟
تجاهلت إجابة أعيها ولن تزيدني إلاّ بؤسًا، حمدت الله كما ينبغي وانكفأت لتقطيعها وإذا بجرس الباب يتصل في رنين دون انقطاع وصخب بالخارج، بدا أنيّ أعرف أصحاب تلك الأصوات أو بعضها على الأقل.!
كانوا هم زمرة الأصحاب منهم من أراه صبيحة كل يوم وبعضهم في المناسبات السارة، وآخرين غابوا منذ زمن بعيد لسبب أجهله، احتفيت بهم وحيرة بادية في نفسي، ما تلك الزيارة المفاجئة؟!
- كأنك لا ترغب برؤيتنا؟! أننصرف؟!
فأجبت: لم أقصد، لكنها زيارة دون موعد، بوقت أكثر غرابة؟ فما ورائكم؟!
قال كبيرهم: قصدنا زيارتك لنشاركك نجاحك في صُنع “كعكتك” فقد رَاهنتُ آخرين منذ فترة على قدرتك على صُنعها وفزت كما أفعل دومًا، لذا ليس أفضل من أن نحتفل معك.
زميل رأيته آخر مرة منذ عشرين عاما اندفع للداخل فأحضر عشرات الأطباق، وآخر جذب وسائد وكراسي من جوانب الشقة وغرفتيها، ثم قام صاحب الرهان وأشار بيديه فصمت الجميع، همس: لحظة لا أحب أن يشاركنا غيرنا احتفالنا فذلك شأن خاص، فهل أنا مخطئ؟!
أمّن الباقون على رأيه، بينما اندفع هو يغلق باب “الشقة” ونوافذها ليمنع تسلل الهواء، يُسدل الستائر، يطفئ الأنوار، ثم أضاء هاتفه المحمول، فانبعث نور شاحب، وضعه بمنتصف الطاولة، وبصمت بليغ خيّم على رؤوس القوم، انطلقوا في الأكل والمضغ، سمعت همهمة بضيق من أحدهم يقول: ينقصها بعض السكر، كما أنها كانت بحاجة لوقت أطول في “الفرن”.