العلامة.. التّبْيِين

العلامة.. التّبْيِين

نورة عبيد

اللوحة: الفنان السوري نذير نبعة

انحدر بي إلى نهج ضيّق وراء الفندق الذي كنت أنوي الاحتماء به من وهج الهاجرة.

 ساعتها كنت وحدي تقودني الذّكرى إلى المكان. لم أدر ساعتها لماذا قبلت بهذا الفندق مكانا للّقاء “أفريكا”؛ أعلى ما يمكن أن تشاهد في تونس العاصمة والجمهوريّة على حدّ السّواء.

 قال سأعرفك دون أن تحملي علامة. رسالتك هذه التي تلقيّتها صوّرتك. فسأعرفك أنّى كنت؛ مطرا أو صهيلا، بارقة كنت أو ذاوية.

كوني هنا والباقي سينكشف. كنت هنا قبل أن ألقاه.

اصطحبت صفاء الغجريّة. من “القماطين” وكانت تسمّيها دائما “لقمة من الطّين”؛ تجمّع سكني في ربوة منفيّة تنقطع عن العالم كلّما نزل مطر، وليعرفها النّاس في تونس تقول لهم صفاء: «قريبة من بلدة أزمور، موطن الفنانة التونسيّة السّيدة نعمة» ويجتهد الكلّ في التّعرّف إلى القماطين بفضل شهرة السّيدة “نعمة”.                          

فأبادرهم وأنا من “حارة الشّعراء” ريف حرثه كالشّعرة، محفوف بالغاب والبحر وجزيرتي زمبرا و زمبرتا. ولك يا أمتعتي أن توثّقي كلامي بعصير التّوت أو نهيق الحمير. 

هناك هرعت لعطر الأرض أتشمّمه حبّا وافتخارا. شاركت الخريف بهجة انفلاق النبت بين مفاصل الصّخور.

كان زمنا ممطرا يرقّق نهاية صيف حارّ. أعود فيه لأعمل بالأرض مع إخوتي. نجمع الطّماطم والفلفل ونسابق الشّمس دائما.

ننهض فجرا ونعود بعد الغروب، أمّا القيلولة نسرقها على عجل بلباس العمل الممزوج برائحة الأدوية الكيمائيّة الخانقة وآثارها الدّاكنة على أيدينا.

كنت وأختي نخفي أيدينا بقفّازات حفاظا على جمال بشرة سمراء تضيع معها تفاصيل اليد. وأمّا أخي فهو رجل لا يهمّه جمال يده. وما أن يترحل الصّيف حتّى نستقبل الخريف بحبّ عجيب لرائحة أرض عطّرتها أمطار هاربة.

يحرث أخي الأرض ويتهيّأ لبذر حبّات البطاطا، وكنت ألهو بفالق العشب والمرعى، فأعرف ساعتها أنّي سألتحق بالعاصمة لأفتتح سنة جامعيّة جديدة. أنتظرها فصولا وأحتضنها سلاما.

في الطّريق إلى “أفركا” تحاورني الأرصفة والكراسي التي وطئْتُها في أيّ ركن من أركان سلسلة المقاهي التي تفصل مقهى باريس عن هذا الفندق.

 كيف كتبت له الرّسالة؟ ما شأني وغروره؟ لماذا يلاحقني؟ إنّه مذيع مشهور. ويجب أن يكون قد تعوّد على رسائل المستمعين في كفّها الغار أو العدم. ما الذّي أثار حفيظته فيما كتبت؟

ذاك المساء الصّيفي النّاعم، كنت أستمع إلى الإذاعة في برنامج ينزل فيه المنشطون ضيوفا ليردّوا على أراء المستمعين حول ما قدّموا. ما إن سمعت صوته حتّى تسمّرت تحت الياسمينة لأتابع رأي المستمعين فيما يقدّم من برامج ثقافيّة لعلّ رأيهم من رأيي.

اكتشفت يومها غروره. إذ الرّجل يخلط بين من يتابع المادّة الثّقافيّة التي يقترح ومن يتابعه بصفته إدريس. كانت منشطّة البرنامج تقرأ مقاطع من رسائل المستمعين. وكان يردّ عليها في غبطة وازدراء. أغلب الرّسائل من فتيات يرسلن تحايا المجاملة والإعجاب دونما قيد.

لا أعرف كيف مسكت قلما وشرعت أكتب.

رسالتي بتراء لا تحتاج إلى التّوضيب. «تتشكّل اللّغة اللّيلة وتصير عنكبوتا تقدّ من لحمي ودمائي عشقي اللّولبيّ لساحرة حرباء مزّة عرق وعنقود تعب، لأعبث والقلم بأحرف كثيرا ما زاغت بي ولوجا في محراب الإذاعة.

بهمسة من ذاك الصّوت. وتعتعة لتلك الرّؤية. وصبر على فلان. وانحباس نفس أمام عمق فكرة ونفورها من سذاجة أخرى. بذي وذاك دخلت في سجن المعنى وبقيت في سياحة أبحث عن اللا معنى.

 صوت يحارب صوتا. أبدأ الرّحلة بالغوص في أعماق الحسّ وقد تفتّق على أنغام تتسلّل إليّ. فأتوق إلى مسك الأثير لحصر شفافيّة الصّوت. السّاحرة الإذاعة والمسحورة أنا المستمعة دائمة الحيرة لا أني عن إدريس ومنتهى، كأنّما يقلقني في كلّ مرّة إلى حدّ الذّعر أن تخطئ السّاعة. أعيش في زوغان السّؤال عن بلاغة الخطاب. لعلّي سمعت النّداء وكنت “يا” ضفّة الأثير الأخرى تلّبي النّداء. أتوق إلى منطوق يتقصّى بالفكر سمّاره حتّى يكون الاستمتاع دليلا على الاستماع

ما أسمع يا منتهى وإدريس المعاني تلبس معدنها، اللّغة التّي بدت مكتوبة وهي منطوقة، تدقّ مسمعي بأعيان الأشياء.

 فهل الباثّ قويّ أم يتقاوى وقدير هو أم يتقادر؟ وهل حبّي للإذاعة منه وإليه؟ أهي لعبة الخطاب أسقط فيها؟ فمن المجنون حقّا السّامع أم المسموع عنه؟

دخلت وصفاء المقهى، الجوّ رغم أناقة الأثاث مقرف، لا تسمع ولا ترى إلاّ السّجائر من أدناها سعرا إلى أقصاها، غوغاء أصوات لا توحي إلاّ بالفوضى، هنا تسنّى لي ولصفاء أن نرى الممثّلين المشهورين والمغنّين والطّامعين في الشّهرة، رأيتهم في أخجل صورة، الابتذال.

هنا ستلتقيان؟

– وما الغريب؟ ألم يكن مشهورا؟

وغرقنا في صمت كسره ضحك قطعه النّادل. اكتفينا بقهوة وماء. وطابت لنا مراقبة الرّذاذ الخفيف في الخارج حيث سكنت عصافير “لافوني”. وازداد العشّاق التحاما. وتفرّق الذين ينتظرون مرور الفرح.

لمّا عدت مساء كان المطر غزيرا، الشّارع بات كبيرا وعناوين المنى تضاءلت وذوت،

دلفت المقهى ثانيّة، وقبل أن ألقي نظرة بانورامية تدلّني عليه وهبني صحبته، فما عرفت الصّوت فقد داهمتني الصّورة.

جلسنا قرب باب المقهى، على الطّاولة حزمة كتب جيبيّة وبقايا سجائر وحثالة قهوة، طلبت ماء وبقيت أنظر إلى الباب أنتظر خروجي، لم يكن لجوجا خرجنا إلى المطر، فأخبرني أنّه يتقاوى فحسب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.