بلقيس بابو
اللوحة: الفنان الإنجليزي كرو نيفينسون
عليه أخذ الإذن بالمغادرة، طبيعة عمله العسكرية لا تسمح له بحرية التنقل خاصة في الظروف الحالية؛ ففيالق العدو تستطيع أن تباغتهم في أيّة لحظة، لكن عليه الرحيل بأسرع ما يمكن، فأخبار الهجوم على مدينته تتأكد لحظة بعد لحظة، وليس هناك من يحمي زوجته وأبناءه في عزلتهم، عليه الذهاب حتى ينقلهم لمكان آمن ثم يعود بعدها لمواجهة مصيره.
يتوجه الى قائده يطلب منه إذنا بأربع وعشرين ساعة، قد لا تكفي لكنه سيبذل المستحيل لإنقاذ أسرته، يتردد القائد قليلا لكنه لم يصمد أمام توسلاته:
–غدا في مثل هذه الساعة أجدك هنا أمامي.
– تحت أمرك يا أفندم.
انطلق لا يلوي على شيء، يجب أن يصل قبل حلول الظلام كي لا يتوه عن بيته وسط البيوت المنهارة، ففي فترات القصف لا تضاء السماء الا بنيران القذائف، ولا يسمع إلا صوت انفجارها وتأوهات المصابين. انطلق يستقل أي شاحنة تمُرّ، يستجدي أصحاب سيارات النقل يركض تارة، وتارة يستوقف إحداها، لم يبق إلا القليل.. سوف يحمل زوجته وصغاره إلى إحدى القرى الآمنة، ربما حيث يوجد أحد أقربائه، أو أحد معارفه، أحد يمكنه الاعتناء بهم إلى حين انتهاء الحرب، سيكونون بخير هناك، سينقلهم بعيدا عن هذه الحياة البائسة حيث صار الرعب عنوانها البارز، ثم يعود إلى تأدية واجبه، فقد التحق بصفوف الجيش منذ حداثة سنه ولا يعرف لنفسه عملا آخر غير ذلك.
بدأت تظهر مشارف المدينة، لم تعد لها معالم، أين الطرقات؟ أين الجسور؟ أين أسوارها الجميلة وحدائقها البابلية المبهرة؟ النيران تلتهم بقايا الغابة المحيطة بها..
أين واجهات المتاجر البراقة؟ أين المقاهي الصاخبة بأحاديث الزبائن؟
لم يبق سوى أكوام البيوت المهدومة والجدران التي جعلها رصاص الرشاشات كالغرابيل، رائحة الموت تسطو على الجوّ، جثث الأطفال والنساء تعلو فوق بعضها البعض، لا يمكنه تصديق حجم الخراب الذي حل بالمكان، حتى الساقية التي كانت تتوسط القرية وكان هدير الماء بها كالسمفونية صارت مرتعا للحشرات وللجرذان.
يسير في حالة من الذهول، نبضات قلبه تسبق خطوات قدميه.. لا يكاد يتنفس من شدة العفن وتحلل الجثث.
صوت انفجار جديد، يُوقظه من ذهوله فينتفض، عليه أن يسرع، يهرول و سؤال ينخر قلبه، ترى هل هم بخير؟ أمازال أفراد أسرتي إحياء يرزقون؟
ما الذي يجبرنا على أن نتقاتل كالمجانين؟ لمَ الخوض في صراعات ونزاعات لا جدوى منها؟
ما الذي يجعل الإنسانية تتهاوى إلى أحط مستوياتها؟ ما الذي يجعل حياة الناس تصبح بلا قيمة حيث لا فرق بين جثث الكلاب و قتلى بني البشر؟
تنزوي في ركن الغرفة، تحتضن طفليها ويداها ترتعشان، لم تعد عيناها قادرتان على ايقاف سيل الدموع؛ تذكره و تدعو لو أنه كان هنا لينتزعها من هذا الهلع، تذكر يوم وعدها أنه لن يتخلى عنها أبدا وأنها وطفليهما هم أغلى ما يمكن الموت من أجله!
صوت القصف المتواصل لا يزيد اللحظة إلا رعبا وهيبة، لا تقوى على إسكات الصغيرين اللذين يبكيان دون توقف من شدة الجوع والخوف.
مازال يسابق الريح للوصول إليهم، يضطر إلى الاختباء أحيانا وسط الركام بلا حراك كي لا يلمحه أحد من فصائل العدو، لا يجب أن يقع في أيديهم، وإلا سيفقد الأمل في الوصول لذويه.
تسمع ضجيجا بالدرج، صراخ النساء وبكاء الأطفال، صوت تحطيم الأبواب كالرعد تنتفض له أوصالها.. ينجحون في انتزاع أطفالها من حضنها يأخذونهم للغرفة المجاورة، تستجديهم ان يتركوهم، تتعالى أصوات بكاء الطفلين ثم تنقطع فجأة بعد صدور صوت رصاصتين..
يمزقون ثيابها، تحاول أن تقاوم بكل ما أوتيت من قوة، لكنهم كبّلوا يديها وأغلقوا فهما حتى تتسنَّى لهم أفعالهم القذرة.. لم تعد تشعر بشيء.. لم تكن تدري أفقدت وعْيَها أم أنها فارقت الحياة؟
وصل إلى بيته، كانوا للتوّ قد انصرفوا، ومازات أرواح الموتى تحلق فوقهم.
بالكاد يصعد الدرج وسط الجثامين.. باب شقته مفتوح، يلملم شجاعته لِيَلجَ إلى الداخل.. بِركة من الدم تجمعت على باب غرفة الصغار، يسمع أنين زوجته في الجوار.. نصف ميِّتة، يقترب منها، يستر جسدها بلحاف.. يهمس لها: آسف عزيزتي لقد خذلتك، تأخرتُ كثيرا..
دموع مشتعلة تنسال على خديه وهو يحتضها، يقبلها على الجبين ثم يخبرها:
كما وعدت حبيبتي، سوف نقتسم كل شيء معا.. في مسدسي رصاصتين؛ واحدة لك، والتالية لي..