حكيم عيون

حكيم عيون

وليد الزهيري

اللوحة: الفنان الإسباني خوليو روميرو دي توريس

ـ أهلًا دكتور (حكيم)

ـ إزَّيك يا (سعيدة).. كم حالة عندنا اليوم؟

ـ حالتين.

ـ أول ما يوصلوا دخَّليهم وبعد ما يمشوا نقفل العيادة ونروَّح.

ابتسمتْ متعجِّلة انقضاء الوقت شوقًا لنزهة نهاية الأسبوع مع خطيبها، فتحتْ باب حجرة الكشف بحركة سريعة.

ـ اتفضل يا دكتور.

خلع عنه سترة بزّته، وضعها على ظهر كرسي المكتب على يمين الباب، فتح الكمبيوتر مشغلًا بعض المقطوعات الكلاسيكية لـ (برامز)، تراجع بظهره إلى الخلف متحسسًا ظهر الكرسي تاركًا جفنيه يسترخيان مع صوت الموسيقى، ثم فتح جفنه قليلًا متأكدًا من عمل التكييف بالرغم من تأثره بالبرودة.

طرقت (سعيدة) باب المكتب طرقًا خفيفًا.. لم تنتظر إجابته، تركت فنجانًا من القهوة على المكتب، وخرجت في صمت دون أن تستمع منه لكلمة شكر، مدركة أبعاد حالته المزاجية المتباينة بين حين وآخر، استمر في سكونه تتخلله الموسيقى، مشاهدًا شريط سينما يمر أمام عينيه المغمضتين، مستعرضًا روتين حياته اليومية وهو ما زال في الثلاثين من عمره، صباحًا في مستشفى العيون، المكتظ بحالات تدمي قلبه، وما تعانيه من فقر وجهل وعدم إدراك لقيمة العين، ضعف الإمكانات المادية والبشرية، انخفاض تأثير المادة الفعالة في الأدوية، ينتصف يومه عائدًا إلى بيته سويعات، يقضيها مع زوجته وطفله، يذهب إلى عيادته في السادسة مساءً، ومن بعدها إلى بيته ثم المستشفى صباحًا وهكذا.

عاد بذاكرته إلى أبعد من يومه، عندما قرر التخصص في طب العيون، عشقًا في سحرها وعمقها وخاصة العيون السوداء التي تُسبيه، لإجادته قراءة لغة العيون والتوغُّل من خلالها لفك طلاسم الشخصية، تحول عشقه للعيون إلى شفقة عليها، فاقدًا عشقه لسحر العيون بعدما لم يعد يرى في عمله إلا الأعين المريضة.

طرقت (سعيدة) الباب ودخلت مبتسمة، ومن خلفها الحالة الأولى:

ـ أهلًا وسهلًا.. اتفضلي يا مدام.. بيشتكي من إيه (الأمُّور)؟

ـ كان بيلعب (مهاب) مع صاحبه بمسدس (خرز)، أصابت جفنه واحدة بعدها عينه التهبت.

قام من على مكتبه متجهًا إلى جهاز الكمبيوتر الخاص بالكشف على العين الموجود في نهاية الحجرة يسارًا.

ـ اقعد هنا يا (مهاب) على الكرسي الجميل دا.

وهو يرتجف:

ـ حاضر يا عمو.

ـ افتح عينك.

التفت يمينًا ممسكًا (بقطرة):

ـ ما تقلقش هانحط نقطتين وكل حاجة هاتبقى تمام.

تقلَّص مهاب في نفسه من شدة رعبه وفزعه:

ـ حاضر بس بالراحة.

ـ شاطر فاضل نقطة كمان، بس خلاص لِف تاني يا (مهاب).

تفحَّص (حكيم) قاع العين مجددًا.

ـ الحمد لله.. ربنا ستر يا مهاب.

ـ خير يا دكتور؟

بوجه عبوس مجيبًا على الأم:

ـ في قرحة بالعين وشرخ في الشبكية نتيجة لقوة الخرزة، يا ريت تخلي بالك يا مدام أكتر من كده، واضح إنك متعلمة.. خلِّيتي إيه للجهلة؟ حرام عليكِ الولد.

ـ أنت عارف الأولاد لما بيشوفوا لعبة ما تقدرش تمنعهم.

وهو يكتب العلاج دون النظر إليها:

ـ والنتيجة عين ابنك كان ممكن تضيع لولا ستر ربنا.. ياخد العلاج وأشوفه بعد أسبوعين.

ـ متشكِّرين يا دكتور.

ـ مع السلامة يا (مهاب).

دخلت (سعيدة) لتجهيز حجرة الكشف للحالة التالية، جلس على مكتبه لا ينبس بأي حركة.. لمحته بنظرة جانبية.. متيقنة من أن حالته المزاجية أسوأ مما كان عليه، وبنبرة تأكيدية قالت:

ـ أدخَّل آخر حالة يا دكتور؟

ـ دخَّليها.

وقفتْ على باب حجرة الكشف:

ـ اتفضلي آنسة (حنان).

دخلت فتاة في العشرين من عمرها.. ممشوقة القوام، يتدلى على جانبي رأسها شعر كثيف فاحم تخفي معظم ملامحها نظارة سوداء، يتبعها شاب ضخم الجثة يمسك بيدها:

ـ اتفضلي، اتفضل حضرتك.

رد مقاطعًا وهو يقدم له (بيزنيس كارد):

ـ (غالب) للاستيراد والتصدير.

ـ أهلا وسهلًا.

وضع سلسلة مفاتيحه الذهبية وريموت سيارته المرسيدس على المكتب وهو ينظر في ساعته:

ـ بتشتكي (حنان) يا دكتور من سحابة ظهرت فجأة على عينها الشمال بعد خطوبتنا بشهر، وما لحقناش نفرح، وطبعًا ما ينفعش نخرج وأنا سحبها.

نهض (حكيم) من خلف مكتبه:

ـ اقلعي النظارة واقعدي هنا على كرسي الكشف.

لمح (حكيم) في عينها اليمنى غير المصابة.. حزنا وانكسارا بيّنا بالرغم من روعتها وسحرها وعمقها ولونها الأسود الفاحم الأخَّاذ:

ـ الحكاية دي حصلت إزاي؟

ـ حسيت بسحابة ورؤية غير واضحة فجأة.

ـ بتشتكي من صداع نصفي بشكل دائم؟

ـ أيوه والضغط عندي مرتفع بشكل دائم.

ـ في علاج بسيط إن شاء الله يساعد على توسيع حدقة العين بحيث تقدري تشوفي أحسن، لازم ما تعرَّضيش عينك لضوء مباشر، ولو ما حسِّتيش بتحسُّن هانعمل عملية بسيطة بعد فترة بحيث الهالات الموجودة على عينك تروح، علشان تشوفي الدنيا بنظرة أجمل.

انفرجت أسارير (غالب):

ـ يعني في أمل يا دكتور ترجع طبيعية؟

ـ بإذن الله.

ـ طمنتني.

أجابه بابتسامة باهتة، خرج وهو يسحبها.. أغلق (حكيم) الكمبيوتر:

ـ إجازة (سعيدة) يا سعيدة.

ـ شكرًا يا دكتور.

ركب سيارته متلاشيًا وسط الزحام، مغنيًا:

“حكيم عيون أفهم في العين.. وأفهم كمان في رموش العين.. أعرف هواهم ساكن فين.. وأعرف دواهم ييجي منين.. قاسيت كتير منهم.. “.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.