فارس يبحث عن جواد

فارس يبحث عن جواد

أمل بشير

اللوحة: الفنان الأميركي جون سينجر سارجنت

تنفس بقوة لعل الهواء يجد فراغا بين بقايا روحه فيدخل بعضا منه ليمنحها بعضا من حياة،

فروحه مليئة بالندوب، يستغرب احيانا كيف ظل على قيد الحياة؟ ثم يمعن التفكير ليستدرك أيعتبر من هو في مثل حاله حيا، ام انه خيال، ام انه بقايا انسان؟

ربما ما زال يفعل ما يفعله الأحياء لكنه يعتبر انه مات منذ سنوات في حرب لم يدر يوما فيم كانت، ولم، ولصالح من؟. قتال سرق كل أنفاسه ليتركه خيال ماتة حتى الطيور لا تهابه.

كان شابا مفعما بالحياة يعتقد أن الغد مشرق، وان المستقبل له ذراعان يفتحهما ليستقبله وسواه من الشباب فيحقق طموحاتهم ويجعل أحلامهم واقعا يعيشونه.

تخرج في كلية الطب التي اعتقد انها ستنتشله من مستنقع الفقر وتضمن له عيشا رخيا كان يحلم به. سنوات من المعاناة كان يظن أنه سيضعها طي النسيان ويمسح دموع والدته التي تخفيها عنه كلما جاء موعد إيجار ذلك المكان الذي لم يكن بيتا، ولكنه بكل الدفء والحنان فيه منزلا احتواه. كان الحي حيث نشأ كابوسا يحلم أن يصحو يوما على واقع أجمل. كان متأكدا انه حين يصبح طبيبا سيضمد جراح أسرته التي اوجعها الفقر واضناها شظف العيش. وأنه العصا السحرية التي حولت تلك الفتاة الفقيرة لأميرة، لكنه لم يظن أن سحر العصا يزول بعد منتصف الليل لتعود خادمة. لم يكن يعلم أن النهايات السعيدة غير موجودة الا في القصص الخرافية. وان قصص الحب العظيمة جميعها باءت بفجيعة سجلها التاريخ

عمل بالمستشفى الحكومي بعد تخرجه براتب بالكاد يكفي مواصلاته، ولكنه كان يطمئن النفس بأن الغد سيحمل الرزق الوفير وان الحلم مازال يتحقق. يعلل نفسه بالصبر كسيدة وضعت الحجارة في قدر واقنعت صغارها الجياع بالصبر حتى ناموا جياعا على أمل أن يأكلوا من القدر بعد نضج ما فيه، فحلم كل منهم بما لذ وطاب ونام مبتسما. كان مجتهدا متقنا لعمله محبوبا لطيفا، يشعر بآلام ومعاناة الآخرين. فالفقر يبدو أنه يصقل الاحساس.

بالطبع كان له من الحب نصيب لمرات ومرات باءت كلها بالفشل. فالحب رفاهية ليست من حقه، بدءا بسناء جارته، التي جاءها فارس غني حملها على حصانه ليخرجها من ظلمات الحارات العشوائية لاضواء القصور المبهرة. نظرتها وهي تغادر إلى حياتها الجديدة يعلم انها كانت تودعه بصمت. وتمحو كل كلمات الحب ووعوده لتدفن تحت حوافر ذلك الحصان. ومنى، زميلته في الكلية التي حزمت كل ما كان بينهما في صندوق قديم وضعته في مكان لا تتمنى أن تذكره وحزمت حقيبة أخرى من الأمنيات حملتها لبلاد المهجر حيث العريس الذي بيده أن يحقق كل ما تمنوه معا، ثم عبير.. ولكنه في هذه المرة لم يغامر فيبوح بما اختزنه قلبه من مشاعر فقط كانت النظرات التي حملاها كل شغفهما وعجزت الشفاه عن النطق بالمحظور فذلك الطريق بلا نهاية. لترحل مع من رحل عن قلبه وتترك بصمتها في ذكرياته.

رفع صوت التلفاز ليستمع للأخبار فكان دوي انفجار اعاده لسنوات نسي عددها. عندما نشبت تلك الحرب بين جهات لم يعلم فيما تحاربت. أخبره صديق انهم يدفعون بعملة الفرنجة مبلغا ضخما يؤمن الحياة التي لطالما تمناها.

شعر بأنها فرصته لينقذ أسرته من فقرها. ويأتي على فرس ليحمل اميرة ما على ظهره.

فاضت دموعه حين تذكر اليوم الذي قبل يد والدته المجعدة من كثرة العمل ووعدها أن يحضر لها الدنيا لتركع بين قدميها. يذكر دموعها وهي ترجوه ألا يغادر فهو أغلي ما في الدنيا بل هو الدنيا، فلم تطلب دنيا أخرى لتركع لها، لم يعلم أنها لن تستطيع الانتظار وان ذلك اليوم كان آخر مرة يراها فيها. لو علم، لما غادر ولبقي راكعا مقبلا يديها.

رحل وحقيبة صغيرة حملها على ظهره بعد أشهر قليلة تلقى فيها تدريبا عسكريا ليدافع عن نفسه أن اضطر لذلك فقد تم التعاقد معه كطبيب جيش لجهة ما تقاتل أخرى لغرض لم يسأل عنه. ربما قطعة من آرض تنازعا ليملكاها أو لهدف غربي ما تحققه هذه الحرب. السياسة لم تهمه يوما فالسياسة التي عجزت عن توفير ابسط احتياجات البشر فاسدة وجائرة لا تستحق التفكير فيها.

كان يعمل لساعات طوال يضمد جراحا ويجبر كسورا يجري عمليات جراحية لكل من كانوا يحضرونه لعيادته المتنقلة فقد كانوا يتنقلون من مكان لآخر في منطقة جبلية. كان دوي المدافع وأزيز الرصاص وآهات الجنود المصابين في البداية يفزعه إلى أن بدأ يعتاد الصوت.

يذكر جيدا تلك الليلة حين دق بوق الإنذار معلنا عن غارة أو هجمة حسب ما كانوا يسمونها. فقد باغتهم ذلك العدو الذي لم يفهم سبب عداوته وهم عرب بلسان فصيح، يشبهون من كانوا يحاربون بجوارهم بل وينتمون لنفس البلد التي قرروا تقسيمها ليترأس كل جزء منها شخص مختلف. فلم يكفهم كرسي رئيس واحد فجلبوا عددا من الكراسي وبدأوا يتقاتلون على الجلوس عليها ودوي المدافع يعزف على مسامعهم، وجثث الموتى من قومهم تمهد لهم الطريق. وهو وسواه يصفقون لمن يجيد اللعب أكثر وينتظرون قطعة الحلوى من يد من يجلس على أحد الكراسي. في لعبة كل من فيها خاسر

كان عليه حمل سلاحه ليدافع عن نفسه؛ فيسلب الحياة التي يحاول جاهدا الحفاظ عليها. يصنع الجراح ويكون سببا في الألم بعد أن كان يضمدها، هل يمكن للرغبة في البقاء أن تحول شخصا عاديا لقاتل مأجور؟

علا صوت الرصاص في كل مكان، والجنود يتراكضون ويحتمون، كان يفعل ما يفعلون الا انه لم يطلق من بندقيته رصاصا، لم يضغط على ذلك الزر، لم يتعلم بعد كيف يقتل

مد يده ليضعها على بطنه مازال يشعر بتلك الوخزة والشعور بجمرة تخترق جسده مازال يلمس ذلك السائل الدافئ الذي التصق بكفه نظر إلى كفه فرأى دماءه تلطخها. ذلك الجرح الغائر الذي تسببت به رصاصة لم يدر من أطلقها ومن دفع ثمن شرائها. ذلك المال الذي اشتراها كان بإمكانه أن يقيه شر الحاجة هو وآلاف ممن هم في نفس طبقته الاجتماعية. كان يمكن لهذا المال أن يبقيه مطمئنا دافئا في فراشه قرب احبابه. لكنهم فضلوا قتله على حياته. أولئك الساسة الذين يرون الشعوب احجارا في رقعة شطرنج. يقومون بدور الرب فيقررون من له حق الحياة ومن يجب أن يباد. فيشنون حروبا ضد البشر ليقتل الرجل بيد أخيه أو ابن عمه بدعوات قومية أو انفصالية أو تنافسية أو سواها، ثم ينامون في قصورهم بعد أن اطمأنوا على كراسيهم وعروشهم.

اصابته تلك الرصاصة، فقد وعيه، كان يسمع أصواتا تخبت وتعلو ويشعر بأيد تسحبه على الأرض حتى غاب تماما عن العالم المجنون عالم القتل المباح والقتلة المأجورين.

يستعيد وعيه للحظات يرى خلالها طيفا بثياب سوداء ووجه لم يميز ملامحه، بيدين تلمسانه بمنتهى العطف لتجس حرارته أو تبدل ملابسه أو تغير ضماداته. بعد مرور أيام لم يعرف لها عددا أحس غشاوة تجثم على عقله قد ازيلت، فتح عينيه يقلبهما في المكان، كم يشعر بالوهن والهزال لم يستطع أن ينهض، وذلك الألم العميق الذي يأتي من مكان لم يميزه يجعله يوشك على الصراخ. أين أنا؟ تساءل فذاكرته البصرية لم تسعفه ليعرف أين هو. غرفة صغيرة بها فراش صغير ا يرقد فوقه، تحت نافذة ضيقة بلون ازرق مغطاة بقطعة قماش تدلت أمامه يحركها الهواء في كل اتجاه. وطاولة صغيرة عليها كوب ماء وضمادات. بساط يبدو أنه مصنوع يدويا يتوسط أرض الغرفة مطرز بالوان متعددة وفي الطرف الآخر خزانة ملابس صغيره من بابين.

يحاول استرجاع الأحداث واستدراك الواقع دون جدوى، دخلت سيدة ترتدي ملابس سوداء تغطيها إلا الوجه، وجه سرق البدر منه الضياء والاستدارة ملامح سمراء مليحة، يا الله! ذلك الوجه انساه كل الألم.

 نظرت السيدة وتمتمت بلهجة لم يفهمها لكنها هرعت للخارج وعادت تحمل كوبا من الحليب.. أمسكت به تحاول أن تجلسه وهي تتحدث بتلك اللهجة الغريبة، شرب الحليب بين دهشة وإعجاب، لا يفهم ما حل به، سألها ماذا حدث؟ أين أنا؟ ومن.. انت؟؟ ردت عليه بتلك اللهجة الغريبة وحين احست انه لم يفهمها أشارت للجرح في بطنه وأصدرت صوت الرصاص بفمها، فهم أنه أصيب، وعرفته بنفسها: مزنة.. هذا هو اسمها! اسم ذو وقع جميل. 

سألها كم بقيت نائما؟ فأخبرته ثلاثة اسابيع.

ركض طفل في الخامسة ليحتضنها ويحدثها بتلك اللهجة الغريبة، انتبه فجأة لوجوده فأشار انه استيقظ وهو سعيد بذلك.. أشارت للصبي وقالت: وضاح.. إذا هذا اسم الصبي

كانت مزنة لا تتحدث كثيرا ولا تجيب عن استفساراته في معظم الوقت. لكنه عرف انها متزوجة من حمدان الذي ذهب للحرب، وقد مضى عامان منذ رحل مع معظم رجال القرية تاركين خلفهم النساء والأطفال الذين ساهموا جميعا في اطعامه ليستعيد عافيته، بينما مزنة كانت تهتم بأمر تطبيب جرحه. 

وبدأ بدوره يساعد المريض منهم في تشخيصهم ووصف العلاج لهم بعدما أخبرهم انه طبيب. مر شهران تعافى فيهما جسده، لكن قلبه أصبح مريضا بمزنة. وكان لابد من رحيله، لكنه قرر أن يصرح بمشاعره ليفهم حقيقة مشاعرها، لكنها أخبرته أن الوقت قد حان لرحيله، ودعته بابتسامة تخبره انها تبادله المشاعر لكن قد لا يكفي الحب احيانا.. ضمدت مزنة جرح الرصاص واصابته بجرح عميق في قلبه سيترك ندبته الخاصة.

عاد لعمله مستمرا في إرسال المال لوالدته، يهاتفها من حين لآخر. في كل مرة تخبره انها تحتاج إليه، يخبرها انه سيعود قريبا.. لكن شمس الحزن أظلته، وأبكت كل ذرة فيه عندما خبره قائده بوفاتها، انطوت الأرض تحت قدميه ليسقط في هوة سحيقة، ورحلت السماء عنه فبات بلا غطاء.. ما ثمن كل سنوات الغربة؟ في ذلك اليوم قرر أن يلملم ما تبقى من روحه ويعود. سيترك هذه الحرب التي لم تكن يوما حربه، سيلقي بالسلاح الذي لم يظن أنه سيكون سلاحه ابدا.. سيعود لوطنه، لكنه فقد روحه وكيانه وعاد كشبح باهت. عاد محملا بالنقود ومثخنا بالجراح. دفن روحه وذاته خلفه في أرض لم يعرف لها اسما ولم يرسم لها حدودا.

عاد ظافرا بحرب خفية عاشها ضد ظروفه اكتشف انه ليكسب تلك الحرب كان لا بد أن يخسر نفسه.

ذلك المال الملون بالدماء ورائحة البارود ودوي المدافع حقق له النجاح، فقد أصبح اليوم طبيبا معروفا، منزل في حي راق، زوجة جميلة تحبه، أبناء مرفهون، لكن اكتشف انه قايض المال والنجاح والأحلام بأجمل ما كان يملكه، بسعادته، خسر روحه وضاعت خطاه، وتساقطت سنوات عمره، ومازال يبحث عن جواد يشعره انه فارس.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.