رحلة الطاهر مكي إلى إسبانيا وشغفه بالأدب الأندلسي

رحلة الطاهر مكي إلى إسبانيا وشغفه بالأدب الأندلسي

حنان عبد القادر

اللوحة بعنوان «حضارة قرطبة في عهد عبد الرحمن الثالث» للفنان الإسباني ديونوسيو بيكسيراس 


في هذه المقالات تتناول الشاعرة والكاتبة حنان عبد القادر شخصية الدكتور الطاهر مكي «عميد الأدب الأندلسي»، وتتبع أهم المحطات التي شكلت توجهاته العلمية، وتبرز الطاهر الإنسان القادم من قرية في صعيد مصر إلى رحاب العالمية، وتكشف عن آرائه السباقة في الآداب والثقافة والحضارة، ومواقفه السياسية واهتمامه بحرية المرأة وتعليمها، وموقفه من الشعر الحديث، واهتمامه بالأدب الأندلسي ومن ثم بالاستشراق الإسباني. لتشكل هذه المقالات بمجموعها بحثاً واسعاً حول شخصية هامة من الشخصيات التي أثرت الثقافة العربية خلال القرن العشرين.

وفي هذه المقالة تتوقف الكاتبة عند رحلته إلى إسبانيا وشغفه بالأدب الأندلسي.


بعد تخرج الطاهر مكي من الجامعه وحصوله على الليسانس من كلية دار العلوم في العام ١٩٥٢، عين معلما في إحدى مدارس الفيوم، لكنه كان يسعى للعمل والاستقرار بالقاهرة التي عشقها، وللمصادفة علم أن مجلة «المجلة» تحتاج لمصحح لغوي يعمل لديها بنظام المكافأة، فترك التدريس والتحق بالعمل فيها، وكانت صحيفة «البلاغ» نشرت إعلاناً عن منحة من إسبانيا لدراسة اللغة الإسبانية فقدم لها، وتم قبوله إلا أن خطاب القبول لم يصله. 

وتشاء الأقدار ان يلتقي الدكتور عبد الملك عودة الذي اصطحبه لاجتماع الترشيح للسفر، وبعد عرض شهادته على المستشار الإسباني في القاهرة، قال لي بلغة مكسرة «مبروك أنت يروح»، وبالفعل سافر إلى إسبانيا خلال العدوان الثلاثي على مصر وكانت إسبانيا نقطة تحول في حياته.

لم يكن مكي ليذهب إلى إسبانيا دون إعداد، فلجأ إلى الأستاذ محمد سعيد العريان يسأله عن أسلحة تعينه، فأشارعليه بكتاب “الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية”، فقرأه وبدأ يعد نفسه لدراسة اللغة الإسبانية.

وعن استعداداته لرحلته تلك يقول الطاهر مكي:

«وقبل سفري إلى إسبانيا؛ كنتُ أعُدُّ نفسي لبعثةٍ إلى فرنسا؛ ولذلك درستُ اللغة الفرنسية؛ لكنْ عندما قامتْ حرب عام 1956م قطعت علاقتنا مع فرنسا؛ فجاءتْ مِنْحَةٌ إلى إسبانيا، وسافرتُ إلى هناك، ولم أكن أعرف من اللغة الإسبانية شيئاً؛ فبدأتُ أتعلَّمها، وكان تدريس اللغة هناك صعباً؛ فقد خرجتْ إسبانيا من الحرب الأهلية، وكل شيء فيها يحتاج إلى التطوير. وبعد عامٍ؛ كنتُ قد قطعتُ شوطاً كبيراً في تعلُّم اللغة الإسبانية؛ لأنه كان عليَّ أنْ أجتاز امتحاناً تحريرياً من أربع مواد، وكلها بالإسبانية.»

كان عليه أن يعد رسالة للدكتوراه مع إيميليو غارسيا غومس الذي كان يتكلم العربية قليلاً، فسأله عما إذا كان قد قرأ طوق الحمامة،ويعترف مكي أنه لم يكن قد سمع به من قبل، فسأله:ماذا قرأت من المكتبة الأندلسية؟ فلم يجب، فطلب منه أن يقرأ مؤلفات ابن حزم، ويقرأ المكتبة الأندلسية، ثم يعود إليه بعد عام. 

المكتبة الأندلسية

كان الذهاب إلى إسبانيا نقطة التحول العملي في حياة الطاهر مكي، فقد أعطته آليات تحقيق الطموحات والأحلام حيث رأى عالماً جديداً واعيا راقيا يحرص على احترام الإنسان وحرية رأيه، وجد ذلك على أرض الواقع أكثر عمقا مما هو موجود في بلاده، فشغل بمعرفة الأسباب التي جعلته يصل إلى هذا الرقى والذي تمناه لوطنه. 

وقد غذى هذا الانفتاح ما يملكه مكي من سجايا فطرية، ومبادئ يؤمن بها في أعماق روحه، وطعمه بزاد ما كان يمكن أن يتوفر له لو لم يذهب إلى إسبانيا على حد قوله.

في إسبانيا، وجد أساتذة تعاملوا معه باحترام مقدمين له كل الرعاية والتعاون، فصادق الكثيرين منهم مثل «أميليو جارثيا غومث»، الذى أشرف على دراساته العليا، وكان له الفضل في توجيهه للاطلاع على المكتبة الأندلسية التي عقدت رباط العشق الدائم بينه وبين الأندلس بآدابها وأدبائها ومستشرقيها وقاطنيها. 

وبدأ يكتشف ما للأدب الأندلسي من تأثير في آداب أوروبا، فيقول:

ولدت نهضة الأدب الأوربي في القرن الثالث عشر الميلادي، في مقاطعة بروفانس (جنوب فرنسا) بتأثير من الأدب الأندلسي، وفيما بعد بتأثير من الأدب الإسباني، وقد ولَّد هذا شعرا ونثرًا، وتربى في أحضان الأدب العربي في الأندلس.

ورأى أمانة علمائهم ممن يسعون لنقل تاريخ الأندلس إبان الحكم الإسلامي لها، وحرصهم على تبيان آدابها بموضوعية، رأى أساتذة أندلسيين محبين للتراث الأندلسي تخصصوا في تاريخ الأندلس – وعلى رأسهم المستشرق الإسباني «خوليان ريبيرا إي تراجو 1858-1934»، الذي يصفه الطاهر مكي بأنَّه: «كان أمَّةً في عالم الأندلسيَّات، ولم يكن مجرَّد مستشرقٍ فحسب؛ وإنَّما كان باحثًا عظيمًا، ومؤرِّخًا قديرًا للثقافة الإسلامية»، أرادوا أن يطبعوا المخطوطات العربية الأندلسية، وليس لديهم مطابع عربية، ولا يملكون ما يدعمون به مشروعهم، فتعلموا جمع الحروف بالطريقة القديمة، وبدؤوا يجمعون الكتب القيمة منها: «جذوة الأندلس في أخبار الأندلس»، و«تاريخ علماء الأندلس» لابن الفرضي، و«الصلة» لابن بشكوال، ودفعوا بها للمطبعة، وطرحوها للرسائل والباحثين، هكذا كان حبهم للأندلس.

الجدل حول هوية الأندلس

واكتشف بعد فترة اتجاها جديدا ومدرسة لم يكن يعرفها، قوامها البحث في تاريخ الاندلس القديم، تبناها مجموعة من المستشرقين الإسبان للرد على الكاتب الفرنسي «ألكسندر ديما» الذي أراد أن ينال من إسبانيا، وينفي انتسابها لأوروبا فقال: «إن أوروبا تنتهي عند جبال البرانس»، أي أن إسبانيا دولة أفريقية، ولم يكن الانتساب إلى أفريقيا في ذلك الوقت، وكلها مستعمَرة، شيئاً مشرفاً، فانبرى الإسبان المستشرقون يبحثون في تاريخ وطنهم، فلم يجدوا فيه فترة مشرقة تستحق الزهو إلا الفترة الإسلامية في الأندلس فقد ترجمت كثير من الكتب اليونانية والكتب في العلوم المختلفة، وقد تحدث عنها المستشرق الإسباني خوليو ربييس روبيو في كتابه «الأندلس.. بحث عن الهوية الغائبة» حيث يقول:

«إن بداية التدهور العربي في إسبانيا لم يقف دون تألق الحضارة الإسلامية وأنه لشئ مثير، ومن اللافت للنظر أن الحضارة تقدمت بشكل فريد في عصور التدهور السياسي، فكانت اللغة العربية في الأندلس مرادفًا للعلم والبلاغة، فدراسة اللغة العربية لم تقتصر على المسلمين ، فمسيحيو الأندلس أنفسهم انتهى بهم الأمر إلى التحدث والتعبير بهذه اللغة، وكان اليهود كذلك أيضا، حيث انصهر سكانها في بوتقة الحضارة العربية».

لكنهم انشقوا لفريقين:

  • الأول يحاول أن ينسب كل الفضل لنفسه ولجذوره البعيدة حتى بلي عنق الحقائق والسعي لنفي الآخر، فقالوا إن ما كتب في الأندلس طوال العصر الإسلامي، كتبه إسبان يتكلمون العربية ويدينون بالإسلام، والإسلام لا يغير قوميات الناس، فتركيا دولة مسلمة، وتتكلم التركية وليست عربية، وفارس وغيرها، وأخذوا يدرسون من جديد تاريخ المسلمين في الأندلس على أنه جزء من تراثهم، ومن تاريخ أجدادهم وليس للمسلمين العرب فضل فيه.
  • والثاني يصر على وضع الأمور في نصابها بموضوعية وأمانة علمية ترد الفضل لأهله؛ لأنه لا يحب أن يخفي على المتلقين الحقائق ولا يسلب فضلا ليس له؛ فيتألق به قليلا ثم ينطفئ.

وممن برز في هذا الاتجاه الراهب ميغيل أثين بلاتيوس (1871 ـ 1944)، كان يدرس فلسفة الاستشراق، فبدأ يبحث في فكر الفلاسفة الإيطاليين في العصور الوسطى، ولما قرأ كتاب «دانتي الكوميديا الإلهية»، اكتشف أنها متأثرة بأدب المعراج الإسلامي، فترجمها إلى الإسبانية مع دراسة أصولها، ونشر كتابه الرائع “الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية”أو «الأخرويات الإٍسلامية في الكوميديا الإلهية»، وكشف بجرأة علمية عبر تقريره عن العلاقة الوطيدة بين «الكوميديا الإلهية» لدانتي وقصة المعراج و«رسالة الغفران» للمعري.

جاء في كتاب عبد الرحمن بدوي «موسوعة المستشرقين»: كانت قنبلة تلك التي ألقاها آسين بلاثيوس، وهو يلقي خطاب استقباله في الأكاديمية الإسبانية في يناير عام 1919 لما أعلن أن دانتي في «الكوميديا الإلهية» قد تأثر بالإسلام تأثراً عميقاً واسع المدى يتغلغل حتى في تفاصيل تصويره للجحيم والجنة. إذ تبين له أن ثمة مشابهات وثيقة بين ما ورد في بعض الكتب الإسلامية عن معراج النبي، وما في «رسالة الغفران» للمعري وبعض كتب محيي الدين بن عربي من ناحية، وما ورد في «الكوميديا الإلهية». 

لم يكن ذلك سهلاً، فالكوميديا الإلهية ذروة الأدب الإيطالي، وأن يقال إنها مأخوذة من الأدب العربي أمر لم تقبله إيطاليا، ولا المتعصبون الأوروبيون.

وبعد وفاة ميجل، تم العثورعلى ثلاث مخطوطات لقصة المعراج الإسلامية مترجمة إلى اللاتينية والفرنسية والإسبانية، وثبت أن دانتي كان في إسبانيا عندما ترجمت هذه القصص إلى اللغة الإسبانية، مما يثبت ما جاء في كتاب ميجل عن تأثره في الكوميديا بالأصول الإسلامية. 

والحقيقة إن المستشرقين لا يكتبون لنا، وإنما يكتبون لأهليهم ولأوطانهم و«الرائد لا يكذب أهله»، فهم عندما يكتبون لا يتصورون بالضرورة أن ما ينتجونه سوف يقرأ في بلادنا، فيبحثون بحياد وموضوعية، لا مجاملة فيها ولا سكوت على خطأ ولا تزيين عندهم لقبيح، لكننا نجد بعضهم غير متمكن من اللغة العربية، فلا يفهم النص جيدا بمفهومه وإيحاءاته وخلفياته والمسكوت عنه فيه، لذا يبنى أحكاما على نص خطأ، فتجيء أحكامهم خطأ دون تعمدهم لذلك. 

يقول الطاهر مكي: «بدأ الأسبان يعتزون من جديد بالتراث الإسلامي الأندلسي، لكن على استحياء، لأن سيطرة الكنيسة كانت عاتية، وكان على كل إنسان أن يحسب حسابها، فعندما صرح أحد المحامين أن الكردنال سيس نوريس أحرق مليون مخطوطة عربية في ميدان الرملة في غرناطة، فأضاع الكثير من الحضارة العالمية، وليس الحضارة العربية أو الإسلامية أو الإسبانية، انقلب الأسبان عليه قائلين: لم يكن أحد في الأندلس يعرف القراءة ولا الكتابة، فمن أين أتيت بهذه الأقاويل؟ فعمد ريبيرا في ذكاء لكتابة بحثين، وقد ترجمتهما لهذا السبب، البحث الأول تحدث فيه عن التعليم في إسبانيا الإسلامية، وأثبت أن إسبانيا الإسلامية (أي الأندلس)، لم يكن فيها أمي واحد، وبعد ذلك جاء بحثه الثاني عن الكتب والمكتبات في إسبانيا الإسلامية، وأثبت أنه لم يكن بيت من الأندلس يخلو من كتاب، حتى لو كان صاحبه لا يجيد القراءة والكتابة، كل هذا بالوثائق، وأضاف إليهما ثالثاً عن المدرسة النظامية في بغداد، لأنها هي أصل كل الجامعات الحديثة في أوروبا، وفي الأندلس وفي مشرقنا الحديث.»

وعما يشاع من تعصب وكره للعرب في إسبانيا يقول:

«إن التعصب محصور داخل الكنيسة فقط، أما الرجل الأسباني العادي إذا لم يكن عميلاً للكنيسة، فلا يعرف هذا التعصب، ولقد عرفت أسبانيا الحرية الواسعة في فترة العصر الجمهوري (1933 -1937) ولكن بسقوطه وانتشار الفاشية دفعت أسبانيا ثمنا غاليا، فقتل عشرات الأدباء والمفكرين مثل “لوركا”، وهاجر ألاف منهم إلى أمريكا اللاتينية وأحدثوا ثورة مثل:”ليون فيليب”، و”روفائيل ألبرتى”، و”خوان رامون خمينيث”، وغيرهم.»

خطأ المستشرقين وخطأ الباحثين العرب

ويعترف الطاهر مكي بأنَّ ثَمَّة أخطاء عديدة وقع فيها الباحثون العرب في تصوراتهم ودراساتهم عن حضارة الأندلس، والأدب الأندلسي بصفةٍ خاصة، كما وقع الباحثون الإسبان في عددٍ من الأخطاء المشابهة، يقول في تقديمه لـ “ملحمة السيد”: 

«نهدف من وراء ترجمة هذا النص ودراسته إلى أكثر من غرض.. ومحاولة لإبداء رأي في ما أتصوره خطأ وقعنا فيه، وتسير عليه مدرسة الاستشراق الإسبانية؛ امتدادًا لتقاليد وليدةَ أيَّامٍ متخلِّفةٍ أعشاها التعصب؛ خطأُ الجانب العربيِّ مصدرُهُ فكرةٌ تفرض نفسَها سلفًا على الدَّارسين بعامَّة، وفي حقل الأندلسيَّات على نحوٍ خاص؛ وَهْمُ أنَّ المسلمين قدِمُوا شبه الجزيرة الإيبرية بشرًا ولغة، فنونًا وعادات، فلم يجدوا أيَّ شيءٍ فوقها، ثم استقرُّوا بمعزلٍ عن غيرهم، وأنَّ هؤلاء المسلمين كانوا كلَّ عناصر الحياة عبر الأندلس كلِّه، وعلى امتداد قرونٍ تسعة، ثم خرجوا بعدها، أو أُخرِجوا، من دون أن يتركوا وراءهم أثرًا يُذكَر».

فإهمالُ دراسة الجانب المسيحي؛ وبخاصَّةٍ في الجوانب الأدبية والثقافية والدينية، جعل الدراسات الأندلسية تقليدية في نظر الطاهر مكي؛ لأنَّه ليس بالإمكان دراسة الحضارة الأندلسية دون الوقوف على ما كان يحدث في الجانب المسيحي منها، وماذا أخذوا عن مواطنيهم المسلمين وما الذي أعرضوا عنه.. إلخ.

والخطأ الثاني الذي يشترك فيه الإسبان والعرب على السواء، هو القول: إنَّ الصراع الذي دار على بطحاء الأندلس كان بين العرب والإسبان. وهو زعمٌ باطلٌ في رأي مكي حيث لم تكن ثَمَّة قوميَّة عربيَّة، كما لم تكن القوميَّة الإسبانيَّة قد وُجدت؛ إذ لم تُعْرَف كلمة إسبانيا بمعنى دولة إلَّا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، أمَّا قبل ذلك فكانت تعني امتدادًا جغرافيًّا، ومكانًا محدَّدًا من الأرض ليس إلَّا.

 كما أنَّ سكان الأندلس لم يكونوا عربًا بالدم؛ وإنَّما كانوا خليطًا عجيبًا لا يُمثِّل العرب في داخله إلَّا اليسير، أمَّا الكثرة الغالبة فكانت تنتمي إلى أقوامٍ آخرين، من قوط ولاتين وفينيقيِّين، أو من بربر وأفارقة وصقالبة، ولم تكن الأندلس -أخيرًا- مستعمرةً تابعةً للخليفة في دمشق إلَّا على امتداد خمسة وأربعين عامًا فحسب، وفيما بعدها أصبحت دولةً مستقلَّة.

لقد كان المسلمون والمسيحيون -في الأندلس- يختلفون ظاهرًا، وفي العمق بينهما الكثير المشترك، أمَّا تصوير العرب أنَّهم غزاة، وأنَّهم احتلُّوا إسبانيا، وأقاموا فيها مُحتلِّين، حتى جمع الإسبان شملهم وألقوا بهم في البحر، فشيءٌ صنعه رجال الدين الكاثوليك في ما بعدَ انتصار المسيحيين على المسلمين، عندما نشأت القوميَّات في أوروبا، ولم يعد الدِّين يلعب الدور الأول أو الوحيد، ولم يعد كافيًا وحده لإثارة العامَّة، فاقتضى سدُّ المنافذ أمام الإسلام بوصفه دينًا، أن يُصوَّرَ للجماهير على أنَّه دين العرب المستعمرين! وأرضتِ الفكرة -وصيغتْ في مهارةٍ فائقة- الغرورَ العربيَّ فاطمأنَّ إليها.

والحقُّ أنَّ من يتتبَّع تاريخ الأندلس أيَّام المسلمين، فسيجد الصراع بين الطوائف؛ عنصريَّة أو طبقيَّة أو دينيَّة، لم يتوقَّف لحظةً واحدة؛ لا عند المسلمين ولا عند المسيحيِّين، وتلك قضيَّةٌ أخرى!

ويتابع بأسى شديد: إن الكثير من أهل إسبانيا ينتمون لأصول عربية، نرى ذلك جليا في أسمائهم وألقابهم، والأندلس فردوسنا المفقود، لكي نعيد ترابطنا الفكري والثقافي معها، علينا أن نكون جديرين بأن يتمنى الآخرون صداقتنا ولكن حاضرنا المتواضع لا يجعل أحدًا يشرف بالانتماء إلينا، علينا أن نعنى بدراسة تاريخ الأندلس وإسبانيا الآن؛ لأننا لا نكاد نعرف عنهما غير القليل جدا، وهو أمر مؤسف.

عميد الأدب المقارن

ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى ما قدمه الطاهر مكي من ترجمات وتحقيقات لمخطوطات أثرت المكتبة العربية، وأسهمت في نقل صورة موضوعية دقيقة للأدب الأندلسي، وهذا ما سيأتي في موضعه من البحث.

سئل الدكتور ناصر الدين الأسد عن الطاهر أحمد مكي فقال: «تأتي بحوثه في الأندلسيات في القمة العلمية، وترجماته تكشف عن إلمامه بناصية اللغات؛ بفهم عجيب، وآراؤه النقدية، والفكرية تعطي الباحثين المصداقية، والنزاهة العلمية، والرأي البعيد عن الهوى والغرض»

أما الدكتور يوسف عز الدين فقال عنه: «أتابع بحوثه، ومؤلفاته بدأب؛ فهو باحث يمتلك العدة الثقيلة، ولديه إبحار، وتمكن في التراث، والمعاصرة، ودراساته عن الأندلس تقف شاهدة على ريادته، وإضافة الطاهر أحمد مكي البارزة في الأدب المقارن؛ تمنحه لقب عميد الأدب المقارن اليوم».

وقال عنه الدكتور مجاهد الجندي أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر: «لقد أفاد أستاذي الطاهر مكي من اشتغاله بالصحافة الأدبية كثيراً؛ إذ وسَّعت من خياله، ومن تجويده الفني والأسلوبي؛ فكان عمدة الأدباء في بحوثه ومؤلفاته؛ وكان شيخ العلماء في منهجيته وصرامته. وقد أفادته سياحته الفكرية مع المستشرقين؛ فاقترب من العقلية الغربية في التأليف؛ ولم ينس شرقيته وعروبته أيضاً».

مضت به الرحلة، وعاد يحمل أجمل الذكريات، ويحمل في الفؤاد حنينا للأندلس، وساكنيها: 

«حين انتهت بعثتي، وركبت الطائرة في مطار مدريد بكيت من قلبي، غلبتني دموعي لم أستطع أن أحبسها، وخاصة أن بعثتي كانت منحة مقدمة من إسبانيا، ولا أعرف ما ينطبق على هذه الفترة إلا موشحة ابن الخطيب.

جادك الغيث إذا الغيث همى       يا زمان الوصل بالأندلس

لم يكن وصلك إلا حلما            في الكرى أو خلسة المختلس»


في المقال القادم تتوقف الكاتبة عند الجانب العاطفي في حياة الطاهر مكي وقصة حبه لفتاة إسبانية مسيحية


المقالات السابقة:

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.