اللوحة: الفنان الفرنسي ليون أوغستين ليرميت
في ساعته وتاريخه
رفع المحقق رأسه عن ملف متخم بمئات الأوراق، أمامه كان يجلس كبير من كبراء البلد، تبدو على وجهه نظرة جليدية، تُخبر الرائي أنه لا يهتم بشيء ولا تهتز له شعرة، فلطالما وقع في فخاخ كثيرة وخرج منها جميعًا وقد اكتسب منعة شديدة، ثخن جلده بصورة لا تجدي معها حتى رصاصات القناصة .
كان يعبث بحبّات مسبحته الكريستالية، يغمغم بلا شيء، حين فاجئه المحقق بسؤال: هذه الثروة الطائلة التي عكفت طيلة أسابيع على حصرها، عقارات، أراضي، شقق، عمارات، قصور، أرصدة سائلة في البنوك، أسهم في شركات كبيرة…
ثم ضرب المحقق سطح المكتب بقبضة يده، زعق بصوت كالرعد بعث الرعب في أفئدة الشرفاء السائرين بالشوارع المجاورة: كيف وصلت إليك هذه الثروة، من أين لك هذا؟
فأجابه الكبير بكل ثقة وعلى وجهه سمت الصالحين: هذا من فضل ربي.
فردّ المخقق: ونعم بالله، ثم أصدره قراره: وعلى ذلك أقفل المحضر في ساعته وتاريخه .
نقطة ماء
تفصل بينهما مسافة لا تزيد على مترين، بيد كل منهما “قصبة من البوص” طرفها بيده والآخر يمتد لعرض بحر “يوسف”، يتدلّى منها خيط ينغمس في الماء، يحركها الموج بتأثير ريح خفيفة .
ينكمش كل صياد في ملابسه، يقتات على الصمت، ينزوي متّشحًا بذكريات تطوف بباله، الانتظار يطول، تزداد برودة الهواء، يخلو الشارع من المارة، يخفت ضجيج السيارات، يرتفع صخب الموج، ثم تضطرب صفحة الماء، تتصاعد من بين ثناياها بضعة فقاقيع تشي بحياة توشك على الصعود لبارئها.
يقبض القابع على اليمين بقوة على “سنّارته” يرفعها بسرعة، بنهايتها تتلوّى “بلطية” كبيرة، تفرد زعانفها، كأنما تتشبث بوجودها، تفتح فاها بحثاً عن نقطة ماء تعيد لها الحياة، فلما أيقنت من دنوّ أجلها، أسلمت إرادتها لقدرها، نظرة ارتياح ونشوة فوز ترتسم على وجه صاحبها.. بينما تشتعل جذوة الغيظ بأعماق الآخر، السمكة تنظر لكليهما، تفتح فمها في حركات متتالية بلغة لا يفهمها الثقلين، قائلة: لا سبق لأحدكما على غريمه، لا فضل للفائز .