نورة عبيد
اللوحة: الفنان الأميركي إدوارد هوبر
نزع بدلة العمل، وتمدّد على سرير في الزّاوية اليمنى من الغرفة بعد أن كوّر الشّرشف ورماه أرضا، غاب في نوم عميق وتناهى إلى الفناء شخير متقطّع يُؤسفُ من سماعه على صاحبه
أوشكت الشّمس على الغروب فلفّ الغرفة ظلام غبشيّ مدّد أطرافه في تكاسل مقيت وثقل لا يستطيع صدّه.
أزاح الغطاء، ثمّ أطلّ من فجوج الباب فأدرك المساء عندها استحثّ همّته، وفتح نافذة الغرفة الوحيدة فاستسلم لنسيم عليل سرت من خلاله برودة داعبت خاطره المتقلّب، ثمّ مال إلى الباب وأتمّ فتحه وتقدّم خطوات نحو طاولة بالرّكن الأيسر فشرب من قارورة نصبت عليها، ثمّ شغّل حاسوبا، وأدار أغاني منتقاة لأمّ كلثوم، وانتهى إلى الفناء لينيره بفانوس مقتصد للطّاقة حتّى يرتدّ الضّوء إليه خافتا وديعا من فتحتي الباب والنّافذة.
عاد متحفّزا ليخرج رسالة من جيب سرواله الملقى على حافّة السّرير، تذكّر كيف ناداه العمّ محمود وأودعه إيّاها، أنكر الأمر في البداية إذ لا أحد يراسله، لقد عدل منذ سنين عن مطالب التّشغيل والمناظرات الوطنيّة لقد ملّ من تعقّدها، وعاف وهم الأمل الذي تبيعه حتّى أنّ الخاطر مكسور من الدّنانير المبذولة للطّوابع الجبائيّة والظّروف ومطالب التّرشّح المسحوبة عبر الانترنت.
لمّا تثبّت من العنوان، بدا له اسمه مهمّا يقدر على تحمّل المسؤوليّات “مهران الرّاجح بن تلف” تقلّد البطالة سنين، أستاذ تربيّة إسلاميّة ومنذ ستّة أشهر تحصّل على عمل.
ها هو يقود شاحنة لنقل منحلة من مكان إلى آخر لترعى وتغدق العسل يسابق الطّرق، إذ يطوي عنان الشّعاب والجبال والغابات فغنم نقاء الهواء حين أفلت الرّومانسيّة.
طوى الرّسالة، ووضعها بجيب سرواله الأيمن، ومضى إلى الشّاحنة ينقل النّحل إلى سجنان.
ها إنّه يفضّ الظّرف، فلم يجد أثرا للمرسل، اِتّكأ على السّرير وأسند ظهره إلى وسادتين ملتصقتين بالجدار ليقرأ: «لا أعرف إن كانت لترسي بين يديْك أم لا؟ ما حاجتي للبسملة ما دمت لم أغف يوما عن ذكر اللّه كم أجّلت هذا الخطاب وكم ألحّ عليّ الحضور.
مهران! أتمنّى ان تجتاحني أسهل الكلمات وأكثرها مباشريّة وربّما كانت اللّهجة الدّارجة أنجع إلاّ انّها أبلغ وأكثر وجعا.
أطلعك اختمار الرّوح وصراع النّفس أعترف أنّ وجودك فوق التّصوّر شكل رهيب في التّملّك ألم وحياة، نفي وإثبات، أنت والظّلمة ثملان كلّ منكما يرمي بمخاوفي جانبا ويقرع سطوتي وحضوري تتملّكني وتزيغ تسطّرني طريقا وتشقّ مسالك دوني تهفو إليّ وتخطو والأخريات جنبا إلى جنب.
يئن الوجع الثّقيل وتضطرم الرّوح، وتنتفض وتنفلق سورة النّور من الرّحم دما قانيّا يتقاطر من بدء الخليقة إلى منتهى الوجود
وفي خطف البرق واطمئنان المصير تذوب.
تعرف الحكاية وعلى ذلك أحاول الآن أن أفسّر رغبتك فيّ تريدني حضنا تنام بعد لقائه تريدني صوتا يمتدّ جسدا لخيالاتك تريدني إرادة خارقة تشتهي حديثا في العروبة والمقاومة تريدني عينا كسيرة تحتضنك بأهداب الرّضا والسّكون.
أرتعش حزنا وبرودة وتهمّ جسدا راغبا مرهوبا يقتلني الصّمت ويقطعني الألم وأنت تعاود النّدم.
كنت وديعة، تلازمني الإحساس وكأني مخلوقة لك فعلا توقظني للسّحور عبر الهاتف، توقظني صباحا مع أوقات العمل تبعث لي رنّة إفطار شهيّ، وتصبحين على خير طيلة أربعة أشهر إلى أن التقينا، بدوت لي أنيقا يومها فلم تخلط الألوان كعادتك، علمت من ملامحك أنّ امرأة أخرى هناك تشاركني النّدم سخرت منك يومها وقلت: «ماذا تريد منّي؟ من أنا حين تؤمّها من هناك إلى هنا؟» قلّبت كفيّك ثمّ نظرت في غواية تبعث على القيئ.
لا تريدني أن أسأل، تحبّ أن أنساق وأقبل، طيّب تذكر أنّي تخلّيت عن زوج مؤكّد لأخوض معك حبّا ملغّما، قلّبت كفيّك.. اعتقدت أنّي تغيّرت قبل أن تغادر فذكّرتني بأنّك لم تنس الذي لي عليك وستخلّص دينك حين تتحصّل على عمل!
سخرت منك ساعتها، فمرارة الحاجة علّمتني الكتمان وعلاقتي بك هي الكتمان وما كان بيننا في عاداتنا حين يتناهى إلى الأسماع يعضّ له الكتّان»
أتمّ القراءة فلم يقو على معاودة القراءة لم يكتشف قدرتها على الكتابة من قبل أحسّ بصدقها أكثر من أيّ وقت مضى كيف استطاعت أن تداريه وهو الخائن والمفلس والبعثيّ الأكيد كيف لتلك التي أثارته أناقتها وأنوثتها أن تتحمّل مظهره الكئيب؟ كيف نسي ثقافتها؟
أحسّ باختناق مشدود ببلاغتها ومواقفها وتضامنها المريع، تذكّرها ألف مرّة في طريقه إلى مراعي النّحل العسل كلّه متجمّع في نظرتها ودلالها الذّكيّ غيّرت هاتفها منعته من الحضور إلى مقرّ عملها فقد ذهب مرارا وأنكروا وجودها فانتظرها متخفيّا ولمّا رآها آخر مرّة هزّه غضب شديد، إذ تذكّر أنّه لم يحضر الدّين! ساقه العمل إلى شهد النّحل فنسي أمرها.
الآن يضع الرّسالة في جيب سرواله الأيسر يسير وهذا اللّيل إلى صديق بالقرية حميم، وسيتوسّل إليه بأن يعيره السّيارة، لا بدّ أن يجدها قبل أن ينبلج الصّباح ليوفي بالدّين!