أشرف عشيري.. الرجل العصامي

أشرف عشيري.. الرجل العصامي

حسن عبد الموجود

اللوحة: الفنان البريطاني جورج كلوزين

استطاع (أشرف) رغم أنه فارق الحياة في عقده الرابع أن ينحت اسمه إلي الأبد في ذاكرة أهل القرية وما حولها من قرى وأصبح دكانه معلمًا بارزًا يُستدل به على ما جاوره من بيوت وشوارع بسهولة فيكفيك أن يكون العنوان الذى تبحث عنه بجوار أشرف عشيري حتى يقودك أى طفل من أى مكان في القرية إلي حيث تريد .

قصتنا تبدأ مع شاب مكافح كان يبحث عن الغني في قرية أحبها الفقر وأحبته كابنها الوحيد الذى أمسكت بعده عن الإنجاب.

ما أجمل أن يقترن اسم الإنسان بمناسبة سعيدة وما أجمل أن تكون هذه المناسبة عيدًا من الأعياد حيث كان للأعياد في قريتنا المحرومة من السعادة مذاق خاص .

وما أجمل أن يحتفل طفل قروي حافي القدمين بالي الثياب خاوي البطن بالعيد بعد شهور من الحرمان.

فيبتهج بعد طول شقاء ويلبس بعد عري ويري جلده النور بعد طول معاناة مع القشف ويشبع أخيرًا من اللحم بعد أن كان يتذوقه كل شهر أو يزيد.

ثم تأتي بهجة أطفال قحافة الحقيقية أمام (باترينة) أشرف عشيري الزاخرة بالحلوي واللُّعب والبمب وغيرها من وسائل البهجة التي كنا نقبل عليها في شوق وسعادة كمسافر عاد لأبنائه بعد طول اغتراب .

لا أعرف الكثير عما كان يقوم به من أعمال في بداية حياته فهو لم يكن فلاحًا رغم أن أباه “رحمه الله” كان يمتلك بضعة قراريط إلا أنني لم أرَ (أشرف) في الحقل يومًا .

لكن بعض المقربين من أصدقائه أخبروني أنه كان يعمل معهم في ورشة لصناعة البلاط

 كل ما كنت أعرفه عنه أنه صاحب تلك “الباترينة” التي كانت تحمل لنا السعادة كل عيد

 مضت السنون واختفت (الباترينة) فجأة فقد سافر صاحبها لأحد البلاد العربية زمنًا ثم عاد لا أذكر متى عاد لكنه عاد ليتزوج ويفتح لنا دكانًا في منزل أبيه وفي أقل من عام نال دكانه من الشهرة ما لم ينله دكان في قحافة فقد جمع في دكانه أشياء قلما اجتمعت في دكان آخر.

فللمرة الأولي يجمع شخص في دكان واحد بين الأدوات المدرسية والمعلبات والمثلجات ومستلزمات النجارة والصرف الصحي ولعب الأطفال والأدوات المنزلية من ملاعق وأكواب وأطباق إلي غير ذلك مما علقه هنا أو نظمه هناك حتى أصبح دكانه رغم صغره مركزًا تجاريًا قرويًا لا يرتد عنه الزائر خائبًا.

ثم بدأ يقفز قفزات سريعة نحو الغني فاشترى منزلاً آخر من طابق واحد وأكمل بناءه حتى صار أربعة طوابق وافتتح محلين فيه لبيع الأسمنت وأدوات الصرف الصحي وهما من أكثر البضائع رواجًا فقد عشت هذا العهد الذى هُدمت فيه بيوت قريتنا الطينية واحدًا تلو الآخر واستبدلت بالبيوت ذات الطوب الأحمر الذى تحتاج إلي الأسمنت كعنصر أساسي في البناء ورأيت أيضًا أول أنابيب الصرف الصحي التي امتدت تحت شوارع قريتنا الضيقة فسارع الفلاحون البسطاء إلي الاشتراك في هذا المشروع العظيم الذى أراحهم من عناء كبير لا داعي لذكره هنا.

ومن هنا راجت بضاعة بطلنا الهمام أشرف وذاع صيته وزادت ثروته فبين حين وآخر كنا نسمع عن بيت جديد (لأشرف) كان يشتري عادة بيتًا من طابق واحد ثم يكمل بناءه إلي أربعة طوابق ثم يملؤه بالسكان.

فصار ابن الفلاح البسيط محط إعجاب الجميع وموضوعًا شيقًا لأحاديثهم الليلية التي لا تنقطع والتي يعقدونها دائمًا فوق مصاطبهم التي امتلأت غيبة ونميمة وحقدًا وحسدًا

 لم يكن “رحمة الله” يشغل باله بما يقوله الناس فقد انطوى عنهم وأعطي لعمله معظم وقته وتفكيره فما من مرة ذهبت لشراء شيء من دكانه إلا وجدته واجمًا يفكر في شيء أو منهكمًا في حساباته التي لا تنتهي لكنه رغم انشغاله كان يفطن إلي مواضع أشيائه المتراكمة بشكل مذهل فهو ما يكاد يسمع منك ما تريد حتى يتوجه مباشرة إليه فيخرجه من مكمنة في مهارة مثيرة للانتباه كقطة تقودها الرائحة إلي مخابئ أبنائها الصغار .

أجمل ما كنت ألمسه فيه من صفات هذا التواضع الجم الذى كان يتحلي به في تعامله معنا فما من صغير أو كبير عظيم أو حقير إلا ويناديه باسمه مجردًا من أي لقب لم يكن يجد حرجًا في أن يمازح طفلاً أو يجالس فتى مثلي يصغره بعشر سنين أو يزيد كم من شاب في قريتي المتعطشة للتكبر عاد من الخليج بكومة من المال فصال وجال لابسًا ملابسه الزاهية رافعًا ذراعيه بجانبيه في خيلاء كجناحي حمامة محلقة في عنان السماء على عكس صاحبنا المتواضع الذى اندمج في عمله بشكل أنساه الاهتمام بمظهره ونأى به عن التكبر على أهل قريته البسطاء.

لكنه رغم كل ذلك لم يسلم من ألسنتهم تلك المناشير الحادة التي تمزق أعراض الناس في قسوة بالغة فأصبح الناس بين حاقد يستنكر هذا الخير على ابن الفلاح البسيط وساخر من ذلك الفتى الذى كاد يقتل نفسه من أجل حفنة من البنات سيذهب كل ما يجمعه المسكين لأزواجهن بعد عمر طويل – وليته طال – قليلون من عرفوا معدن الرجل الحقيقي ووقفوا على صفاته النبيلة وأدركوا مدى صلابته وأن هذا الرجل المحب لعمله هذا الحب النادر رغم ما يعتصر فؤاده من أحاديث القرية النارية عن ابنه الذى لم يأت بعد … لم ينكسر ولم يثنِ ذلك من عزيمته ولم ينل من إرادته التي قهرت كل الظروف.

شيء واحد فقط استطاع أن يوقف هذا السيل الجامح ويمنعه من الاندفاع والمواصلة إنه المرض اللعين الذى أصابه فجأة وهو في ريعان شبابه وليته كان مرضًا عابرًا يُرجى برؤه حتى ولو بعد حين إنه الورم الخبيث الذى طالما جال بين أزقة قريتنا بعباءته السوداء المشؤومة وسيفه الذى يحصد الأرواح دون سابق إنذار.

فوجئت به في إحدى سيارات الأجرة أثناء ذهابي المعتاد للقاهرة حيث أعمل هناك معلمًا .. تنبهت في وسط الطريق أنه يجلس أمامي مباشرة .. استدار حين ربتُّ على كتفه محييًا .. حيَّاني بفتور غير متعمد فملامحه كانت توحي بالمرض الشديد حين سألته عن وجهته أخبرني بكل بساطة أنه ذاهب إلي معهد الأورام حيث يخضع هناك لجلسات العلاج الكيميائي .

واصل الرجل حديثه عن تفاصيل مرضه بينما غرقت في ذهول مفاجئ جراء تلك القنبلة التي ألقاها على مسمعي دون قصد …

انتهى الرجل من حديثه ثم استدار وغرق في صمته المعهود بينما ظل لساني دون إرادة يردد عبارات الدعاء المحفوظة .

كان لقاءً عابرًا لم يستمر أكثر من ساعة ظللت أتأمل ذلك الرأس الضخم الذى أمتلأ همة ونشاطًا وحبًا للعمل ثم فجأة داهمه الهم والمرض والفتور.

تذكرت سماحته في البيع والشراء وكيف أنه أوجد في قريتي الفقيرة ثورة تجارية غير مسبوقة .

تذكرت دراجته النارية ماركة الـ (جاوا) تلك التي لم يُقدم على شرائها أوركوبها إلا رجل في قامة “عَبْد خِضْر” تاجر المواشي المعروف.

أو “عبد الدايم”  – رحمه الله – ذلك السائق الذى راح ضحية لهذه الماكينة العملاقة التي ظلت كغيرها من الدراجات النارية نادرة الوجود في قريتي حتى جاءت الدراجات الصيني فملأت العالم وخطفت أرواح العديد من الشباب الطائشين.

بهذه القامة العملاقة كان يروح ويغدو بدراجته ذاهبًا إلي الفيوم وعائدًا منها بكمية كبيرة من البضائع كنا نندهش كيف تستطيع ماكينته أن تتحملها.

تُري أيستطيع الآن أن يقودها أم أن الأتربة تراكمت فوقها دون أى اهتمام من صاحبها المريض جال بخاطري الكثير والكثير من الذكريات حتى وصلنا إلي الموضع الذى يجب أن أغادره فيه .

عرضت عليه أن أستأذن من عملي وأذهب معه فرفض شاكرًا لي حُسن المعاملة .

بعد شهرين أو يزيد وفي إجازة آخر العام لمحته يمر من أمام منزلنا حافي القدمين واضعًا ذراعيه خلف ظهره يرفعها بين حين وآخر ويلوح بهما في الهواء من شدة الألم ترمقه أعين الناس بين شفقة وترقب.

مرت الأيام ثم دهمتنا فجأة مآذننا المبعثرة في أنحاء قحافة تنعي هذا البطل الذى عاش ليواجه قسوة العمل والناس والمرض ثم الموت.

– مات (أشرف) ولم يحضر ابنه بعد ولم تنقطع ألسنة الناس عن الكلام .

– ومازالت ماكينته “الجاوا” في مدخل الدار . يعلوها التراب ويأكلها الصدأ

حزنا علي صاحبها الذي توارى تحت التراب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.