بسام المسلَّم
اللوحة: الفنان الكويتي أيوب حسين الأيوب
الشَّمسُ تُذيبُني فَوْقَ الرِّمال. تَسْفَعُ وجهي بالسَّمومِ كَفُوَّهَةِ تَنَّورٍ مُلْتَهِبٍ يَنْغَمِسُ في البَحر.
“ما تخاف من الله.. يا بحر!”
تُرَدِّدُها حَوْلي نُفوسٌ وَلْهانةٌ دونَ نُطْقِها، وعُيونُها شاخِصةٌ إلى مراكبَ تَبْزغُ شاماتٍ صغيرةٍ مِن وَهَجِ الشَّمْسِ الطّافي نِصْفُها على البحر. بِمَلْفَعي جَفَّفْتُ عَرَقَ جَبيني، وبَرَكْتُ على الرَّملِ مِن وَقْفَةٍ هَدَّني طولُها. بانَت هَيْئةُ المراكِبِ القافِلة، سنابيك وأبوام وشواعي، تَمْخرُ صفحةَ ماءٍ تَخَضَّبَ بلونِ الحناء، وهي تَقْتَربُ بأشْرِعَتِها مَن “نِقْعة شملان”.
“جيبْهُم.. خاطفين جيبْهُم!”
طالَ غيابُك عَنّي يا عْزَيِّزْ! حَسبْتُ لكَ شهوراً أربعةً انقَضَتْ أَهَلَّتُها، دَلَق سهيل، تساوى الليلُ بالنَّهار، وما رجعتَ بعد لقليْب أمّك! والبارحةَ لَمّا أَهَلَّ الخامَسُ خَرَجْتُ مع النِّساءِ على ضوءِ النُّجومِ إلى السِّيف، معنا مرزوقة مَمْلوكةُ بِن خميس، لا يَبينُ منها في العَتْمةِ إلا بياضُ عَيْنَيْها، وظلُّ سعفةٍ تَحْمِلُها من نَخْلَةٍ ماتَت.
خاضَتْ مرزوقة بقدَمَيْها في زَبَدِ البحر، وَشَبِّتْ بالسَّعْفةِ ناراً أضاءَتْ وجْهَهَا غامقَ السُّمرة، عاتبتِ البحرَ قبلَ معاقبتِه: “نكويك إذا ما جاو الغواويص” والنِّسْوةُ وراءَها يعاهِدْنَهُ ألّا يُرْسِلنَ رجالَهُنَّ إلَيْهِ ثانِيةً:
“توبْ.. يا بحر!”
غمَسَتْ مرزوقةُ النارَ في الماءِ، وارتجفَ الهلالُ على سطحِ البحر.
هذهِ الشمسُ الحَمْرا يا عْزَيِّزْ تذكِّرُني بشمسٍ مثلِها قبلَ سنينٍ خَمْس، وأنا أَمْشي تَحْتَ جنادلَ استَطالَتْ ظلالُها مائلةً على الجدران، أعبرُ سكَّةً إلى أخرى، أتَعَثَّرُ بِهَجْسي وتسْبِقُني لَهْفَتي، أنْشُدُ بَيْتَ مَن وصلَ مع الفجرِ إلى “دِرْوازَة القرويَّة”، مُتَلَثِّماً على ناقةٍ ضامرة، يُخْفي تحتَ عباءَتِهِ بندقيّةً وجُرْحَ ضرْبةٍ مِن خنجر. بانَ لي بَيْتُهُ في آخرِ فريجِ الرِّشايْدة، والنساءُ الرّاجعاتُ من جِهَتِهِ يتهاوَيْن أكوامًا سوداً على جانبيّ السِّكَّة، بنشيجٍ مسموعٍ مِن وراءِ البوشِيّاتِ والبراقِع.
آهٍ يا عْزَيِّزْ! طَرَقْتُ البابَ وَليْتَني ما طَرَقْتُه! دخلتُ الحوشَ، وخرجَ لي الرَّجلُ الذي هزَّ الدّيرةَ وصولُه مكسوراً من الحرب؛ سألتُهُ عن أَخَيِّك، وَلَيْتَني لم أسألْه لمّا أجابَ: “ما علمنا به!”، وعَيْناه فَضّاحتان، تقولانِ إنّ وْليدي مِمَّن تَعَقَبَّتْهُم سرايا الذَّبْحِ مُنْدَحِرين في الصحراء، إلى مساجدَ وقرى وغيرانِ جبالِ القصيم. انهرْتُ وسطَ الحوشِ أبكي يا عْزَيِّزْ، بكاءَ الثَّكالى اللاتي رأيْتُهُنَّ في طريقي.
دَخَلَتِ السُّفنُ تِباعاً إلى النِّقْعةِ تَطْوي أشْرِعَتَها حوْل الأدْقال، عساها تحملُكَ إليّ يا عْزَيِّزْ! القلوبُ تتحرَّقُ على الجال، والرؤوسُ تَتَلَفَّتُ إلى بعضِها؛ هذا “بِتّيل” دونَ عَلَمٍ أحمرٍ على ساريتِه، والمنادي يُصَوِّتُ مِن خَلْفِنا: “من بِتّيله؟”
فَيُجيبُهُ آخَر: “بِتّيل النَوخِذة يوسف بن فهد!”
نَهَضْتُ على حَيْلي لَمّا رَسا البِتّيل، ونَزَلَ يوسفُ منهُ يخوضُ بالماءِ إلى عُقْدَةِ إزارِه، يَخْرُجُ مِنه إلى السّاحل، يسأَلُ نساءً يَتَجَنَّبْنَه، ويصوِّبْنَني بأصابِعِهِنّ، كأَنَّهُنَّ يَدْرَأنَ عَنْهُنَّ لَعْنَةً جَلَبَها معه مِن البحر.
رآني. تَقَدَّمَ نحوي يَتَقَلَّبُ عَلى الرَّمل، حامِلاً عَلى كَفَّيْهِ ثياباً لُفَّتْ بحصيرةٍ مَطْوِيّة.